الأحد ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم عبد الله توفيقي

أعوذ بالله من قول أنا

لا يستعيذ العربي إلا من اثنين: من «أناه» ومن «الشيطان»، وهو أمر يغري بطرح جملة تساؤلات لا تخلو من أهمية من قبيل:

 لماذا يستعيذ العربي من أناه؟
 ما العلاقة التي تربط بين هاتين الذاتين: الشيطان والأنا أو بالأحرى منطوقها، في واقع ومتخيل الإنسان العربي، حتى يقدم على هذا القول الذي أضحى لديه عادة غير مستهجنة؟

أنا لم أطلع على مذكرات لإبليس يتحدث فيها عن «أناه» ولا أعلم حتى أألف إبليس كتابا أم لا. غير أن هذا الأمر يمكن إرجاعه إلى عدة مظان،لعل أرجحها التأويل السائد ومفاده أن هذا القول يحمل إحالة ضمنية أو استحضارا غير مباشر لموقف تاريخي وحيد، يتجسد في موقف إبليس وهو يبرر لله الخالق رفضه السجود لآدم ذلك المخلوق الترابي. وذلك بحسب نص الرواية التي ينقلها لنا القرآن الكريم على لسان إبليس:" أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا التأويل حين يقرأ في إطار سياقه العام والخاص لا يبرئ حملته من الوقوع في شرك التناقض من حيث لا يشعرون‼.

إن استحضار هذه "الأنا" منفصلة عن مختلف تداولات مفهوم "الأنا" المتعددة في النص القرآني، يعد ضربا من الانتقاء المتعسف غير المبرر. وكأن العربي لا يستعيذ أناه إلا بنية التكبر والغرور وليس لغاية أخرى قد تبدو شريفة أو على الأقل بريئة . فبدل أن يتجه ذهن العربي عند نطقه بالأنا إلى استحضار "الأنا الإبليسية" ألم يكن أحرى به أن يفترض النية والقصد الحسن في فعله ذاك، فيستحضر بدلها أنا الرسول صلى الله عليه وسلم في تواضعها:" قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم اله واحد " . أو "الأنا الإلهية" في سموها وتعاليها:" إنما أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري"، فيكف عن الاستعاذة؟ ولم لا أن يستبدلها حمدلة .

لا تزكوا أنفسكم ... قد أفلح من زكاها :

مجمل القول أن هذه الاستعاذة من الأنا تضمر نفورا وتورعا من خشية الوقوع في تزكية الذات الذي ارتبط مفهومه في الوعي الجمعي بقائمة من الألفاظ المتعددة والمختلفة التي تحفل بها حياتنا اليومية وأحاديثنا ومعاجمنا اللغوية كالغرور والتكبر والتباهي والرياء والأنانية ، والتي اختزلت على امتداد السنين والأحقاب مجموعة قيم وأخلاق قدحية منهي عنها تتمحور حول علاقة الذات بالاخر يوحدها معيار جامع هو تضخيم الآخر في وعي الذات أو استصغاره في عينها لغاية ما ، والتي يصعب الفلاح إلى كشف اللبس الذي تغرقنا فيه هذه الألفاظ المتشابكة والمتداخلة بشكل كبير حينما تتملكنا رغبة في الإحاطة بحدود الواحد منها عن نظائره.

.. وتزكية الذات مفهوم ينطوي في تداولاته المتعددة والمتغيرة في ثقافتنا العربية الاسلامية على لبس عميق ، يزداد تعمقا حينما نلتجئ لفك لغز غموضه في نص مرجعي كالقرآن الكريم ، الذي يحتفي بترسانة كبيرة من توظيفات مختلفة لمادة ,, زكى ،،1 في سياقات متنوعة مازالت بحاجة إلى كثير من التأمل والتمعن . ولعل عبارة العنوان التي فضلنا استهلال هذا المقال بها تحمل أكثر من دلالة ، وهو أمر اضطرنا للالتجاء إلى كتب التفاسير طمعا في الافتكاك من كابوس هذا الالتباس ، والظفر بجواب يشفي الغليل ...

تجمع معظم التفاسير القرآنية التي تناولت الآية الكريمة ,, ولا تزكوا أنفسكم ،، آية 32 من سورة النجم . على إعطائها معنى واحدا ,, لاتمدحوا أنفسكم على سبيل الاعجاب ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن.،،2 ولم تختلف إلا في الأسلوب الذي أعادت به صياغة هذه العبارة ، باستثناء تفسير وحيد انفرد باضافة عبارة لبقة تعكس دهاء صاحبه ،هي أن الله عز وجل ,, لم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم .،،3 بعبارة أوضح لم تجب عن أسئلة مباشرة من قبيل : كيف تتحقق صفة تزكية الذات في الانسان ؟ أي ماهي مواصفات اكتمال تحقق هذه التزكية في امرئ ما من عدم تحققها ؟ وإلى أي حد يمكن أن نقول إنها توافرت مجتمعة في فلان ، ولم تتوفر في غيره ؟ ليتم بذلك إرجاع عقارب ساعة التفكير في الموضوع إلى درجة الصفر ، ومن تم جعله أمرا إلهيا يختص الله وحده بعلمه وتدبيره . لارتباطه بنية المرء لا بجوهر عمله ، فالله وحده الذي يتولى السرائر. هذه مجرد إشارات وتأملات عابرة في هذه العبارة العربية الفصيحة " أعوذ بالله من قول أنا" التي لا أدري هل اقتصر تداولها على الحديث الشفوي أم تجد لها امتدادا في الكتابات القديمة والحديثة مخطوطة ومطبوعة. غير أن المثير للانتباه ذلك الإصرار المتعسف لدى البعض على إقحامها في منطوقهم الدارج.

آملا أن يتم إغناؤها ونقدها من قبل القراء الأفاضل، وان تكون مبعثا لإثارة فضول السؤال حول كلام يتردد دوما على مسامعنا دون أن يحظى منا ولو بقليل من التأمل والتمعن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى