الأحد ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

عـبـوات

الطفل يجلس بجانبي على الكنبة، بطرفٍ من عيني ألمح مخاتلة تحديقه بقسمات وجهي النحيل، بروز حدقتيّ الدامعتين من عظام محجريهما الناتئة، ندب الجروح في صدغيّ، خصل شعري البيضاء، يبحث عن شبه يجمعني بصورة تتوسط أحد جدران الصالة كالحة اللون، أود طمأنته بحقيقة وجودي معه، يتفلت من ذراعي بخفة، ويتشاغل بقراءة واجبه في كتاب المطالعة بغير تركيز، أسترق نظرةً نحو كلمتي (زرع/ حصد) الشهيرتين...

صوت التصفيق المشحون بالرهبة في التلفاز يستقبل القائد وذات طاقم حراسته القديم، يتفرس في وجوه الرفاق، عيونهم نوافذا مشَرعة للمفاجآت، يستهل خطابه ملتظم الكلمات كحبات اللؤلؤ، بترديد شعار الحزب الذي نقشناه في جدران المعتقلات منذ أن شعَ بريقه بين الأفئدة مع بزوغ زغب الشوارب فوق الشفاه...

كنت أنحشر بينهم في ذات علبة السردين تلك، أشاركهم حماسا هجست ذوبانه الحارق في العروق الأربعينية النافرة من أغلال زنزانة ضيقة ركمها العفن، وكل التواريخ تتماهى في يوم واحد...

يُردد ذات الشعار في الإذاعة، يهدر التصفيق الحاد، يعلو الهتاف وتشدد الحماسة، تلعن الخونة أينما وجدوا، وحمامات بيضاء تواصل رفرفتها فوق أسلاك الجدران العالية...
كل سنة يتبدل عدد من الأسماء المحشورة في علبة السردين الفخمة تلك، ألتقي وجوها تفلت تواطؤها من مواجهتي سابقا، ظهورا محنية تحت وقع السياط، وأيادٍ متخضنة، حملت أسنة الأقلام في محاضر التحقيقات، تشاركني في صمت غسل حمامات المعتقل قبل تهافتنا حفاة فوق الأرض الزلقة نحو أرغفة الخبز اليابس، وسط قهقهات سجانينا وعوي شتائمهم الماجنة...

تتحدى صوته المحافظ على ثبات حشرجته الجهورية، تغدق نشوة العنفوان بلا حساب، نبرة أحد الدعاة الغليظة، زاعقةً في رهبةٍ مفزعة بالوعيد، فتتفجر من الأشداق المحيطة به ينابيع النهنهات المرتجفة من هول يوم اللقاء العظيم، تبثها مسجلة موضوعة إلى جانب كتيبات دينية، تتبادلها الأيدي خفية، في عزلة ولدي الأوسط ذي اللحية المحناة الكثة، غلواؤها العاتي يسابق طنين خلاط المواد الكيمياوية في ورشة عمل ولدي الأكبر، غرفة مكتبي الأنيق في ما مضى، قبل تعبئتها في عبوات بلاستيكية أنيقة المظهر، يلصق عليها ماركات الشامبو التجارية الشهيرة التي اعتاد الناس استعمالها، رغم أنفي تتحمل أرباح توزيعها على المحال نفقات الدار...
يخط الوجل شفرته الحادة فوق قسمات وجوهنا على مبعدة من باب الدار، عيونهما الزائغة ترجوني في غباء ألا أبرح مكاني... ينتاب الصغير فزع لا يدرك مصدره، أشفق عليه من موقف سخطَ وجهي أخويه قبل سنوات، فأطلب منه بحنو أبويٍ مطمئن أن يدخل غرفته، رحت أربت على الرجفة المنسلة إلى كتفي طفليّ المنسلخين عن تنمر فضاضتهما، ورنين الجرس لا يعرف اليأس...

يطل من فرجة الباب الضيقة وجه جارتنا الخمسيني، مأخوذة بالتحفزالمشرئب من شده نظراتي، يتلكأ في حنجرتها السؤال عن زوجتي، تود أن تبشرها بوصول حصة الشهر التموينية، متضمنةً عبوات غذائية جديدة، نفحة عيد الثورة المباركة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى