السبت ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عذاب الركابي

إلى أينَ يا آخرَ العاشقين؟

«أنا لا أخشى الموتَ .. ولكنْ أخشى الألم» [1]

يا أصدقاءُ .. يا شعراءُ .. ياغرباءُ .. ياعشّاقُ .. يا وحيدون !!
ويا مُدنً النور ِ في هذا الوطن الغارق ِ بالدمع ِ .. والحيرةِ .. والأحزان ، تكفي دمعة ٌ واحدة ٌ منكم لتغرقَ العالمَ، قولوا للغيوم الباردة أنْ تؤجّلَ أمطارها البربرية .. واهمسوا للنجوم ِ أنْ ترسلَ ضوءها نشيجا ً طازجا ً .. وعَبَراتٍ حارقة ً ..، وليُؤرّخ كلٌّ بارتعاشةِ جسدهِ لحزن ٍ جديدٍ .. وبهمس ِ جنائزيّ يُحاكمُ الوقت الخؤون !!

رحلَ الشاعرُ الذي ينوبُ عنكم في الآلام .. والهموم ، ويترجمُ أحلامكم واقعاً بهيجاً،
ويرفعُ في كلّ قصيدةٍ شكواكم إلى ممالك الكون ..، ويرسلها احتجاجا َمنغماً تأخذ شكل الصّلاة الواجبة في دور العبادة !!

رحلَ الصّانعُ الأمهر للكلماتِ .. ذو الأصابع الرماديّة .. وإمبراطور المعذبين .. رسول البسطاء .. والفقراء.. والغرباء .. والعشّاق الحيارى ..!!
رحلَ المُواطنُ المفتونُ بالألفةِ..القومي والعروبيّ حتّى النخاع ..الشاعر- الإنسان حتّى آخر حقبةٍ من حقبِ القهر .. والظلم .. والعذاب !! رحلَ محمّد عفيفي مَطر .. عنوان الطيبةِ .. والصدق.. والإخلاص .. والوفاء.. والمحبة .. والأصالة ..، ورحلت معهُ طقوسُ الطيبة الحقيقية .. ومراسمُ الحبّ الحقيقيّ .. وبقيتْ قصائدهُ – لافتات انتمائهِ
واحتجاجهِ ، تحكي الكثير ، وهيَ تؤلمُ ..وتجرحُ .. وتدين .. وتسخط.. وتحبّ حتّى آخر كلمةٍ .. وآخر حرفٍ .. وقافيةٍ .. وإيقاع ٍ .. وتفعيلةٍ عسيرة في شعرنا المعاصر!!

"أعلنتُ ميثاقَ الإقامةِ بالرحيلْ
تركتُ وقعَ خطايَ في سرّ الشجَرْ
واسّاقطتْ ما بينَ عيني والبلاد ..
زمُرداتٌ من حجَرْ
فعرفتُ طعمَ الخبز مُرتجفاً ، وقلتُ ،
وقالَ لي الموتى ، أطلت ، استألفوني
بالتذكر ، وارتمى عنّي الرداءْ
الأرضُ روّتني ،
وبللت الرمالُ السافياتُ بريقَ عينيّ
المُحدقتين في حجر ِ الظلام "*

رحلتِ البهجة ُ بلا مثيل ، في لحظاتِ اللقاء ِ الذي ترتّبهُ القصيدة ..، غابَ العناقُ الحار لحظة الوداع المُؤقت .. ستفقدُ الأصابعُ كهرباء رعشتها ، وهيّ تبتكرُ التحية الصادقة ، وتنبيء بالمزيدِ من المواعيد .. واللقاءات الحميمة في القاهرة .. وبغداد .. وطرابلس.. وصنعاء .. وفي اللامكان .. واللازمان !!

آهِ يا محمّد !! يا طفلَ رملةِ الأنجب الودود !!
وفاءٌ منكَ انْ تكتبَ لهذهِ القريةِ المغمورة هذا التاريخ ..، وأنْ تهيّأ لها جراحاتكَ ..
نزيفكَ هذا الموقع المخمليّ في قلبِ وذاكرة العالم ..، رملة الأنجب لمْ تكن على الخارطةِ قبلَ أن تنجبكَ .. تأكّد أنّها لنْ تبكيكَ .. وأبناؤها الذين كبروا على كلماتك ..

واحتجاجاتك المنغمة لا يصدقونَ غيابكَ الجارح ..، وسنابلها لنْ تخفي بريق ضحكتها
لأنّكَ ستظل ضميرها الحي ، وابنها البار الذي لمْ تلوثهُ زخارف المُدن .. وكرنفالاتها المفتعلة .. وشوارعها الضاجّة بالتحياتِ الصدئة .. ونيوناتها المريضة الضوء .. ومقاهيها الطافحة بالضجر .. والنميمة .. والمخبرين .. والمنبوذين .. والبسطاء .. والحمقى ..

"ليسَ لي إلاَ سُويعاتٍ من النوم ِ السّخيّ
أمُرّ فيهِ على البلاد ، وأستعيد الشمسَ والرعيَ الطليقْ
أكلّمُ الموتى ، وأسمعُ ما تزمزمهُ العظامُ
وأشدُّ فيهم ما عقدتُ من العُرى".

جئتَ إلى القاهرةِ جريحا ً .. وحيداً إلاَ من نقاء القريةِ .. وطميها .. وهوائها.. وهموم أناسها .. أيّها القرويّ الطيب .. هذا نبضُ دمكَ تاجٌ تفاخرُ بهِ هذهِ المدينة القاسية القلب التي أهدرت كرستالَ دمعكَ ، وذهب خطوتك ، وفاكهة جسدك ، ولمْ تورثكَ إلآ الفقر .. والحزن .. والعذاب .. والمرض !! لماذا تركتَ رحمكَ الدافيء – رملة الأنجب ؟؟

عن أيّ شيءٍ كنتَ تبحث ، أيها القروي الطيب في ( ريش) و( جروبي) و( الفيشاوي) و( زهرة البستان) ؟؟.. عن القصيدة المراوغةِ .. الصعبةِ ؟ ألمْ تقلْ أنّها تكتبكَ في غفلةٍ منكَ ، على موسيقا البساطة .. والدفء .. والحلم !؟

"أذيبُ أعضائي بصمتِ جلالها المكتوبِ ..،
أقرأ ُما تجلّى من دمي في سرّها الروّاغ ِ
بينَ علوّهِ في المدّ أنساباً وفيضاً
من سُلالاتِ أنا بدءُ البدايةِ في أبوّتها ،
وبينَ الوعدِ بالميقات في أمشساج ما في الأرض".

أيّها الفتى الرائعُ .. والمنتمي الأصيل .. صنعتَ من حيرةِ الأوطان ملاحمَ صبركَ ..
وقوة إرادتك .. ونزاهة فكرك .. وشفافية أحلامك وأمنياتك !!
وعلمتكَ المدن الجاحدة أنْ تتعودَ غربتكَ .. وتستلذ خصام رغيفكَ .. وقسوة عذابك ،
ومنحتكَ القصيدةَ المراوغة التي يصعب فكّ شفرتها أحياناً ، حتّى وهي تبكيك ، وتؤرّخ لحيرتك .. وجراحك .. وتحكي انتماءك النادر لكلّ ذرةِ ترابٍ عربيةٍ .. ولكلّ نسمةِ هواءٍ بدّدَ عطرها الانتظار !! وعلمتكَ المدنُ أنْ تفاوضَ ظمأك .. وعذابك .. بقلبٍ نحيل
شاهدكَ االحلمُ المهدورُ ، وحجتك كتابُ المحبةِ الذي يصعبُ على فرسان اللغةِ والبلاغةِ

القدماء والمحدثين أنْ يصوغوا كلماته .. ويأتوا ببلاغتهِ .. وأبجديته المستحيلةْ !!
لماذا بقيتَ طيبا ً .. في زمنٍ أضحتْ فيه الطيبةِ ديكوراً .. زخرفاً .. تذكرة سفر ٍ لرحلةٍ ملغاة .. وانتظاراً في محطةٍ مهجورةٍ .. وبلا أضواء !!لماذا بقيتَ مُحبّاً ؟ ألهذا الحدّ المحبة الإنسانية زادك ؟ أ مازلتَ تعتقدُ وتراهنُ أنّها تشفي حتّى من الموت !؟

أيُّها القديسُ النبيلُ !! أردتَ بكلّ سذاجتك القروية أنْ تبشرَ بمزامير الحٌُبّ .. والعشق .. والألفةِ ، فكانت المدينة بلا قلب .. وهيَ بداية سؤالك المرّ .. وحتفك المرتقب !!
أردتَ أن تقولَ كلمتكَ بحريةٍ ..، أنْ تعيدَ صوغ واقع ٍ جديدٍ .. أن تفكرَ إنسانيا ً وشعرياً،
أنْ تدافعَ عن الحقّ .. والعدل .. والحرية ، أردتَ أنْ تكتبَ بفتافيت جسدكَ "لا" في شوارع وميادين القاهرةِ العظيمة .. أردتَ أيها العروبيّ الأصيل أنْ تقول أيضاً "لا" للحرب و"لا" للظلم و"لا" للخيانةِ و"لا" للتبعية .. ونعم ألف نعم للأخوّة المتّهمة ..

والعروبة المُغيبة .. وللمصير الواحد .. والتاريخ المشترك ، فكتبتَ على نفسكَ غربة ً مزمنة ً ، ودخلتَ بقدمين بريئتين ، وقلبٍ ناحل ٍ ، زنزانتك المظلمة التي شهدت عذابك البطيء .. وجراحاتك التي لا تندمل .. وصبرك الأسطوري .. وكوابيسك المفزعة،
ولكنها أيقظت فيك براكين القصائد .. والكلمات التي إيقاعها أنفاس الفجر .. وبهاء النهارات وهيّ تشعلُ – ولا زالت – حلقات النقاش .. والدرس .. والنقد ، قصائد في رقةٍ نادرةٍ .. وبلاغةٍ لا تعرف الخواء .. وأسلوب لا تعرفُ مفرداته الترهل .. ومعنى مراوغ عميق ، صعبَ على عديد النقاد فكّ شفرته .. وسبر أغواره ، ومهما احتاروا واختلفوا ، فهم لا يخفونَ انبهارهم بكيمياء هذه القصائد ، والثناء عليها ، والشهادة بشاعريتك الفذة .. فأنتَ لا تشبهُ أحدا َ ، ولا أحدَ يُشبهكَ .. في الشعر .. والبهجة .. والحزن .. والعشق .. والولادة .. وحتّى في الموت !!

"المدى أسئلة ُ الأهل الذينَ ابتدؤا
ثمّ انتهوا كيْ يبدأوا ..
هلْ أحدٌ يعرفهم فيهِ ، وهلْ من أحدٍ يعرفهم فيهِ ،
وهلْ من احدٍ يسمعُ ماءً نازفاً في طبقاتِ الذاكرةِ ..
ليسَ ماءً كلّ شيء ،
كلّ شيءٍ نبع ماءْ ".

قلْ لي أيّها القرويّ الطيبُ .. يا صديقي المرسومة صورته على ورق أيامي المبلّل
بالهزائم .. لماذا أورثت أبناءك مسلةَ َ الطيبةِ .. والمحبةِ .. والصدق بلا حدود ..
سامحكَ الله !! سيشقى ( وائلُ ) ابنك الأكبر بما أورثته من طيبةٍ شقاءك بقصائدك .. وإلهامك .. وثقة خطاك ، وستجدُ ( ناهد) ابنتك الوسطى في المحبة صلاة ً ، تخلفَ
عنها الإمامُ ، وجاءها المصلون بلا وضوء ، وستحمل ( رحمة) الصغرى- التي أورثتها زلازل وحيك وإلهامك – همّ قصائد بلا وطن .. ولا قرّاء ..!!

ونحنُ رفاقُ همّكَ الأزليّ .. وحزنكَ المزمن .. وغربتك الأبدية .. وحالات جنونك .. وخرابك المستحب .. وفوضاك الضرورية .. بقيَ لنا منكَ وجهك الشاحبُ – قمرُ أيامنا المبدّدة .. وهذهِ الذكريات الجارحة .. واللقاءات الممتعة المتباعدة .. وأسئلتنا العمياء في مدن الضجر .. والصيف الدائم .. بقيت المواعيد بلا تواريخ .. وقدْ استحوذ الزمنُ الخؤون على ورود أماكنها .. وأصبحت بهجتها .. وأناقتها ملكا ً له !!
تركتَ مفتاح شقتك التي تتوسط ذلك َالزقاق المهمل .. في القاهرة الصاخبة الساهرة في جيب أصدقائك الغرباء .. والمنفيين .. والعشاق !!

تذكروا أيّها الأصدقاء الكتّاب .. والشعراء المشهورون والمغمورون .. الصادقون والكاذبون .. الأوفياء والجاحدون .. تذكروا أنّ في جيب كلّ واحدٍ منكم نسخة من مفتاح شقتهِ القاهرية ..
تذكروا أنكم سوفَ لنْ تجدوا سوى طيفهِ العطر ..وخطاه الصباحية .. وسحر كلماتهِ ..
وفسفور أحلامهِ .. وعطر تحياته ، تزاحمها همومكم بلا عدد ، أيّها القادمونَ من بغداد .. وعمّان .. وصنعاء .. وبنغازي ، ومن اللامكان .. أيها القريبونَ من ظلّهِ .. البعيدون
عن ملامحهِ .. وشروط طيبتهِ .. وسحر آياتِ صدقهِ ووفائهِ .. وليظل طيفهُ .. وصورته
في أعمق أعماقكم .. وقصائده – التي شغلتكم كثيراً – دليلاً إلى مدن ٍ لمْ تطأها أقدامكم
بعدُ ..!!

محمّد عفيفي مطر أيّها الشاعر الفذّ .. والرجلُ الطيب !!
لوْ انتظرتَ قليلا ً حتّى نكملَ القصيدة َ الدائمة .. وما زالَ لدينا وقتٌ للقاء والعناق!
وداعا ً .. وطيبَ الله ثراك !!

 المقاطع الشعرية بين الأقواس من كتاب – أعمال مختارة-مكتبة الأسرة2004م القاهرة


[1محمد عفيفي مطر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى