السبت ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

إشارات ضوئية

تقريبا يقوم بذلك كل يوم, حينما يرمي بنفسه عند الإشارات الضوئية في تقاطع طريق, حاملا علب المناديل الورقية وبعض آيات من القرآن الكريم, يبدأ عمله حين تكون الإشارة حمراء, لينزل بين السيارات بخفة, ينادي لبيع بضاعته, وحين تضيء الإشارة بالضوء الأخضر, يهم بالابتعاد خوفا من دهس بغير حساب, كثيرا ما حدثته نفسه حين يستند إلى عمود الإشارات الضوئية, قائلة له: هل تصدق يا هذا؟ إن حياتنا تبدأ بتوقف الآخرين عن الحركة, ونحن نتوقف حين يبدأ الآخرون بالحركة أيضا, ألا تجد أن هذه الصدفة هي من المضحك المبكي! ألم تسأل نفسك يوما ومنذ توطنت هذه البقعة لِمَ أنت هكذا؟ ولِمَ حياتك مرهونة بإشارات ضوئية؟ ألم تكتفي بإشارات وأصابع الاتهام حين عزمت على المضي في تحقيق إرادة؟ وكنت قد ركنت كل مفاهيم وأيدلوجية التبضع في مياه ضحلة, رغم انك لست صاحب قرار, ومع ذلك وقعت, ورضيت الهروب إلى الداخل, بعد أن توثقت إنها خير وسيلة للهروب من طبطبات وقائية, زينت قفا من تسلم رداء الدخول في حلبة النباح مباح, وكل شيء متاح عربدة في صياح نكاح, والديك صاح لكن الليل طويل وما عاد هناك انبلاج صباح, أليس هذا ما توقعته أنت!؟ وبعدها خنقت كل حساباتك فكانت لا تتنفس سوى تأوهات مصير مجهول.

لم يكترث نحو حديث نفس بلعت المهانة حنظلا, كبلغم جثا في بلعوم, يُشعرك دوما أنك بحاجة إلى التقيؤ, هذا شعوره حينما يتحدث ونفس باطنها عقل لفلف بداخله خيوط شائكة لهواجس عديدة, اختلطت مع بعضها البعض, فما عاد يجني منها سوى الصداع, ومع ذلك تساءل؟؟ وهو ينظر إلى الإشارات الضوئية, والتي غيرت مجرى حياته, حين كان يعمل سكرتيرا في مكتب أحد المسؤولين الكبار, والذي وضع فوق باب غرفته أضوية, أحدهما أحمر والثاني أخضر, وكانت هي بمثابة الإشارة له في التحرك والعمل, كثيرا ما توقف عن الحركة, حين يكون الضوء أحمر, وكل شيء أخر متوقف معه, الحركة البشرية والأحاديث الجانبية وغيرها من الأمور الحياتية اليومية, كلها تكون بهمس أو بإشارات يدوية, خوفا من إزعاج من هم داخل الغرفة ذات الإشارة الحمراء, أما حين تكون خضراء, فترى الانفتاح كبير والوجوه تتغير بسرعة, ومن كثرتها لا يمكنك أن تستوعب من تراه أو تتحدث معه, عمله مرهق وصعب, وفي نفس الوقت عليه إرضاء كل الأذواق والأمزجة المعكرة, كونه الواجهة للمسؤول, إلا أنه إنسان حمل المسئولية رسالة مبادئ تربى عليها, فلم يساوم أو يهادن في يوم من الأيام, على أن يستغل مكانته لنيل ملذات حياتيه, فقد روض نفسه على أن تعتاد الحياة صراط مستقيما, خالية من الالتواء والوجوه المتغيرة, وربما هذا ما جعله مكروها بين مستغلي العلاقات, فما أن عرفوا مبدأه حتى أصبحوا كغازلي الصوف, كلٌ حد صنارته ليبدأ بخلبصة الخيوط التي لم تتماشى مع رغباته, فكان هو دوما من يتلقى الذم والشتم والملامة من السيد المسؤول, نتيجة دس الآخرين وكيدهم, لم يعر الأمر اهتماما, إلا أن داخله يرفض هذه المعايير المتقلبة والتملق الرخيص, وذات يوم دخل من كانت تطأطئ له الرؤوس, وتشهق النفوس, وبالأقدام حين يسير عليهم يرتقي ويدوس, وأعلن هو بدوره الإنذار وإلغاء المواعيد, وكل المقابلات الرسمية وغير الرسمية, ووقف كالحاجب على الباب, عيناه مسلطتان على الضوء الأحمر, والذي خُيلَ له انه قد زاد احمرارا, بعد سماع صراخ في نقاش حاد من جانب واحد, هرب كل من سمع بالزائر, كما أن حمايته تمنع القادمين أولا بأول, وهو واقف يوزع الابتسامات على أفراد الحماية الذين نفخت صدورهم خيلاء وتهكم, كان يستمع لصراخ حول صفقة تمت قبل سنين, دفع ثمنها الكثير من الأبرياء, الذين توافدوا لاستلام منحة غذائية تبرعت بها إحدى المنظمات الإنسانية للجهات الحكومية, لتسلمها بدورها للمحتاجين والمعوزين, وما أن مرت أيام حتى كان ضحية المنحة العشرات من الضحايا, الذين توفوا بعد تناولهم أغذية فاسدة منتهية الصلاحية, وغيرهم كسب الملايين في بطون تأكل الفساد تحلية بعد وجبة دسمة, كان الملف بين يديه, والصفقة تمت خلف أبواب مغلقة تحمل اضوية حمراء وخضراء, وشعر من الصراخ أن الوقت قد أزف للقصاص من المسؤول, الذي جَرَعَ موت الآخرين كشرب فنجان قهوة من غير سكر, تبشر خيرا وانفرجت أساريره, وقال: هاهو ذا الوقت الذي كنت أنتظره, لقد جاء من يٌقَوم المعوج بالطرق على رأسه, أسرع إلى مكتبه وأخرج الملف المعني للصفقة, وقال: لابد أن أكون مستعدا في حال السؤال عن الملف, ولابد للسيد المسؤول أن يطلبه مني, لم يكمل حديث تفكير حتى سمع المسؤول يتحدث إليه عبر جهاز الاتصال, طالبا منه إحضار ملف الصفقة, دخل بسرعة دون أن يقرع الباب, وقال: عذرا سادتي هذا هو الملف سيدي وأدار بخفة نحو الباب ليهم بالخروج كعادته دون الطلب منه, صرخ المسؤول عليه, قف مكانك.. لا تخرج قبل أن تخبر الأستاذ عن هذه الصفقة, والتي كنت حاضرا بها وتمت على يديك, كما ذكرت للأستاذ أني لم أستلم ..., ماذا؟؟!!! ماذا تقول يا سيدي صفقة وتمت على يدي! متى؟ وكيف؟ كان الأستاذ ينظر إلى وجهه الذي تغير لونه إلى الأصفر, وانخرطت مفاصله تكسرا بداخله, سمع دويها اضمحلالا بقطع أنفاس, لم تسعفه على إخراج الجمل الكلامية التي فقدت عذريتها, بكذب وافتراء السيد المسؤول وادعائه, رجع إلى الخلف أسند ظهره على الباب, دارت فوق رأسه كل الطيور السوداء التي تبشر بالشر, نظر إلى الاثنين معا وقال: إن ما تدعيه يا سيدي هو محض افتراء, فأنا لم أكن حاضرا في أي صفقة من صفقاتك المشبوهة هذه أو غيرها, وأنت تعلم جيدا أنني لا يحق لي أن أفعل ذلك, فكل الصفقات والأموال التي تسلمتها أنت عنها, تمت هنا في غرفة مكتبك هذا, وكنت لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم, رغم عدم قناعتي بكل ما تفعله, وضد مبادئي والأخلاق التي تربيت عليها, كما أني لست صاحب قرار, وما أنا إلا واجهة لك, فربما هذا الذي جعلك تعتقد أني على شاكلتك, وربما ظننت أني سأقف معك وأدافع عنك, لا يا سيدي أنت على خطأ تام, ولعل الأستاذ المحترم يقدر هذه الصفات التي أحمل, فالمصداقية والأخلاق والمبادئ, هي التي ترتقي بالإنسان وترفع من شأنه لا العكس, وأظن السيد الأستاذ يوافقني على ذلك, كان المسؤول مندهشا لما سمعه من سكرتيره, الذي لم ينطق أمامه بسوى حاضر وأمرك سيدي, فصرخ فيه أصمت ولا تتنفس, لا أصدق ما أسمع فبعد كل هذه المدة التي قضيتها في خدمتي وأنت تحمل كل هذا الحقد بداخلك لي, يا لي من ساذج, أعلم أني سأعمل على طردك وسجنك وربما قتلك, إن تنفست بهذا الحديث مع نفسك, حتى وإن كنت لوحدك, وأعلم أني حينما استشهدت بك, فقط لأبين للأستاذ صحة قولي عن قيمة المبلغ الذي استلمته عن الصفقة, فهو قد سمع عكس ما قلت له, وحضر اليوم ليلومني في التقصير عن دفع حصته كاملة عن تلك الصفقة, لكنك ظهرت على حقيقتك, بأنك حاقد وغيور ومتربص بنا للنيل من سمعتنا, لذا وجب علي والأستاذ يسمعني, أن تؤدب وترمي في قارعة الطريق بتهمة سرقة المال العام, وعليه .. سيكون مصيرك السجن, لم يخرج من خلوة تفكيره تلك, إلا بإطلاق أبواق السيارات, ساعة تغير لون الإشارات الضوئية, معلنة أنها تسير وعليه هو أن يتوقف منتظرا توقفها, ليسير هو حاملا مبادئه وقيمه وتوقعاته, سنين ضائعة على قارعة الطريق, لبيع مناديل ورقية وآيات قرآنية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى