الاثنين ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٠
حنين وقوى خفية من البروة
بقلم فاطمة عاصلة

الى هواء الجليل الى نابلس!

كأنه عاملُ منجم أفنى خمسة عقود هباء ينقب عن شيء يصنع الحياة من الخام, فلقي كنزه على حين فجأة.

في أزقة السوق العتيقة امشي,ترقبني الجدران المباهية بتاريخها,السطوح المفاخرة بصمودها, أحدق في كل شيئ بصمت,من خلف زجاج نظارتي الشمسية,امشي بكبرياء,بتعب,بارتياح,بترقب و و ,كأني قريبة الى الاشياء حد الاغتراب,حد الرهبة!

يا لصخب الحياة هنا,حيث الحركة اللامتناهية,احداث تتسارع,اشياء تتداخل,حيث الاشياء تتفننُ باشتقاق طريقها الى اذنك الغافلة,كأني اغوص في بحر من الفوضى,اغرق واغرق...اكثر..حتى اختنق بنبرات الرجال,حديث النسوة,ماساة الاطفال المساكين,وأنين المتشردين...أنصت ,لا اسمع الا رجع الصدى في قلبي انا...كأن تسافر الى عالم اخر عبر فضاء الصمت بعيد بعيد عن ضوضاء العيش!

كأن لتوه بدأ يلملم سنين حياته,اكثر من خمسين عاما من جمال الذكرى,أرق الذاكرة ,تشرد الحياة ,وجع العيش وانتظار الموت!!هنا وجد ذاته,وأنا هنا سأجد قانون خارج عن منطق الواقع,هنا توقفت,هنا وقفوا وهو وقف..هنا!!

كنا على مسافة اصبع من جسده الهزيل(الا انه قوي جدا) وقامته القصيرة حين استوقفنا فجأة,احسست بشيء ما يدفعني للنظر الى عينيه مباشرة،نظرة لن انساها ما حييت –اه للحنين فيها، اه لحب الاماكن!

لماذا هو بالذات؟لماذا نحن بالذات .وسط هذا الزحام من الناس والاشياء؟اهي قوة غامضة قالت له: "هنا أنت" "هؤلاء يحملون شيئا عصي على التكرار,هؤلاء مررت بهم يوما"!! هل الامر كذلك؟! لا ادري، ولكني واثقة انها ليست صدفة,هو الحنين,هو اصرار العودة بمراوحة المكان والزمان!

كيف وسط هذه الزحمة كلها,هذه الاصوات وهذا الصخب توقف؟!مشيته السريعة, القريبة الى العدو, ابطأها,لا لم يبطئها,بل عبرنا برهة وكأنه نسي شيئ للحظة وجيزة وعاد!! أهنا سكن وجعه فوقف ليستشعر الشفاء؟!

خلعت ذلك الشيئ الذي يحجب عيناي.لاراه بكامل فرحه,لاراقب ملامحه بالوانها الطبيعية,لاشاهد صراعه مع اللحظة,هو الان كطفل في الرابعة- اشترى له والداه دمية جديدة طال انتظارها-وهو على اعتاب الستين! صوته صار اكثر فاكثر,نبرته اكثر حدة,عيناه اكثر بريقا,كل شيئ على وشك الخروج عن الحاضر!!

يعرف بنفسه- بعد ان عرفنا بانفسنا- مفاخرا كأنه المتنبي"انا ابو يوسف يا عمي,مش ذاكريني" ويتابع "انا الي كنت عايش عندكو بالبلد و... "

يا للزمان!"بعدو عايش ابو يوسف" ارتطموا جميعهم بصخرة المفاجئة "يا الله" عرفوه جميعهم,الواحد تلو الاخر,فاغري الافواه,مبتسمين,ملامحهم متشابهة رغم اختلافها!!

اما أنا..فلم اذكر شيئا، كيف اذكر؟؟!ولم اكن في هذه الدنيا قبل عقود اربع؟! لم اعرف غير الصمت والتحديق في وجهه,اكاد اسمع نبض قلبه من مكاني,فكل شيئ ساكن,نداء الباعة,النساء التي تفاصل في السعر,ضوضاء الاشياء ، الناس والحركة...وقف الزمان هناعند "ابو يوسف" ولما نغادر السوق.

السوق,ابو يوسف,ذكراه,الاشياء,هم,هو...كلهم يكبروني بعدة عقود! يكبروني

احفاده الصغار ايضا صامتون مثلي,هم ايضا لا يعرفون الا ان جدهم ترك سواعدهم التي كان قابض عليها بشده بعد ان صار لكفيه وظيفة اخرى-تحكي روايته!!

"يا عمي وين بدكو تروحو ادلكو؟؟!رافقنا لاكثر من ساعة,قص حكاياه كلها,وليس له الا حكايا ابناءه البعيدين كبعده عن السنين!

لم يهدأ,لم يسكن,عاد الى مشيته السريعة وانفعاله الاسرع.

تضايقني حرارة الشمس وحرارة الزحمة اهم لالحف عيناي بهاتين العدستين الكبيرتين,فاعاود خلعهما,قوة خافية كانت تشدني الى التحديق بتقاسيم وجهه المجعد بكل تفاصيله!

"بيتي قريب يا سيدي ميلو لعنا, امانة " الف مرة قالها !!" لم يعرف للصمت مرفأ,عَبْرَ شفتاه عبرت كل الاسماء التي تنفس هواء الجليل معها يوما,,الاسماء التي لامس معها حجارة تلالها الخضراء! بعضها نالت منه التجاعيد او نال منه الضعف او انتقل الى عمر مديد! كان يذكرها بكل تفاصيلها, يا لاحاسيسه المتداخلة "لما تيجو اسئلو عن بيت ابو يوسف وجيبو معكو ام العبد"

كم تشبث بالذكرى التى نحتضنها بين ثنايانا,نحن من دسنا ثرى كان قد وطأه يوما فعلقت رائحته بنعله,صعدت حتى رأسه,ولم تفارقه طوال السنين.

على مضض غادر,رافعا يده ببطئ مودعا,بكل الاسف ذهب,بخطوات تقارب الوقوف,عيون دامعة لا تريد الوداع!!

ذهب...ذهب وانا ارجوه البقاء(بقلبي)او الذهاب معه!

ذهب يحمل بملامحه حنينه الابدي الى مبعثه الاول "البروة" كم كان فخورا وهو يقولها!!

ذهب...وترك ذاكرته عندنا لنعيدها للجليل بقبل الحنين,لاناس هم ايضا يقاسمونه اللحظات!

عاد الى بيته في مكان لا اعرفه –هناك في نابلس-حيث زحمة الحياة!

ذهب وعيناي ترقبه,ذهب وعيناه تحبس دمعة غلفتها الغربة...

اما انا فكنت قد ادركت كل شيئ,فالوجع لا يكبرني كغيره,سمعت عيناه توشوش روحه "الدنيا شو صغيره" "العمر شو قصير" "وجعك يا وطني شو كبير"...

نعم سمعته من بعيد وفهمت تلك القوى التي لعبت مسرحيتها على مسرح هذا اليوم!

اعدت نظارتي الشمسية(التي تزيف الالوان والملامح)لتحجب اشياء لا اريد لها الرؤية ..واطرقتُ...

نداء الباعة...ركض الاولاد... شمس حارقة...زحمة السوق...فوضى......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى