الثلاثاء ١٠ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

سلسلة مفاتيح

كثيرا ما كانا يلتقيان في مكان العمل، رغم أنهم ليسوا في قسم واحد، تجمعهم نظرة وابتسامه خجل، لعمر جاوز سن الشباب، هي جميلة ممشوقة القوام ذات عيون ناعسة كنعاس الشمس في وقت غروب، هو خط بعض الشيب جوانب رأسه معلنا رحلته الخمسينية، وذات يوم حملت له بعض أوراق العمل وجاءت لمكتبه، وما ان طرقت الباب نظر اليها، كأنها طرقت باب أُسدل عليه ستارا سرمديا، مخرجا الغبار فجعله يفرك عينيه لرؤية أوضح، عن من الطارق؟ فجاء أجاب صوتها الدافئ ليكمل سَحب حبال الستارة، ليقف يحي من تربع على عتبة مسرح قلبه المغلق لسنين، عمت صباحا يا أستاذ.. غاصت المفردات في جوفه ضائعة، وهي تبحث عن صيغ في شريط الكروموسومات وفي خلاياه ومن أحاسيسه جملا، ليطلقها معبرة عن توأمتها مع تلك الأحاسيس الدفينة في عمق روحه، بعدها قال: عمت صباحا يا آنسة، تفضلي .. عذرا قالت له: إنما هناك بعض الأوراق أرسلها رئيس الحسابات لتطلع عليها، مد يده لأخذها فتلامست أصابعهما فسرت قشعريرة من خلال شحنات ورقية، جعلتها تفلت تلك الأوراق وما تحمل في يدها، ومن ثم ابتسما لبعضهما، وقال: عذرا يا آنسة لابد أن الورق ساخن ومشحون بالأرقام، تبسمت على تعليقه وقالت: عمت صباحا، ومن ثمَ خرجت من مكتبه، فإذا به يشعر بحرارة جعلته يتصبب عرقا، قام من وراء مكتبه نافضا قميصه ليدخل الهواء، فتح شباك المكتب رغم وجود التكييف، دخل الهواء دفعة واحدة، ليجمد قطرات العرق التي أغرقت سطح جلده، أنتبه لنفسه، ماذا حدث لي؟ ولما ارتعش وأحس ان جسمي ووجهي قد انتفخا، ترك لنفسه تساؤلات كثيرة يطلقها من خلال ذلك الشباك كأنه شرفة خشبة مسرح فتحت بعد سنين، أما هي فما ان خرجت حتى احمرت وجنتاها، وجرى الدم مسرعا بشرايينها، أيقظ حلما أنثويا كان قد توسد تابوت حرمان، فقد مرت قبل ذلك بتجربة حب وفشلت، فحكمت على مشاعرها بالنفي إلى واد سحيق في ذلك التابوت، لكن تلك القشعريرة كانت كصدمة كهربائية، أيقظت إحساسا نام طويلا، وأخذت تبتسم لما رأته على وجهه من تعبير وتلعثم لسان وتصبب العرق لحظة رؤيتها، وتذكرت أحاسيس بينما كانت تلتقي نظراتهم بين حين وآخر، جلست خلف مكتبها، البعض من زملائها ينظر إلى وجهها وتلك الابتسامة الخجلة الساحرة، أما هي فتحاول إخفائها، لقد عرفوا عنها الجدية وندرة الابتسام، حاولت هي تغطية ذلك لكنها انتبهت إلى نفسها، الكل يتطلع إليها مبتسما معها ولها، الفضول أحسته من خلال نظراتهم إليها فانكبت على المكتب لتقوم بعملها، وحال لمس أصابعها الكمبيوتر نظرت إليها، وأخذت تمر إبهامها على أطراف الأصابع تتحسس مساحتها وطعم ملمس أصابع يده، تارة تقول إنها ساخنة وتارة إنها خائفة وأخرى هائمة، طوت أصابعها إلى داخل يدها وكأنها تغرس نبتة قلعت جذورها من سنين عدة، لم تنتظر طويلا، وهمت بالخروج قبل انتهاء الدوام المسائي، بعد أن أخبرت زميلتها بأنها تعبة ومجهدة، أما هو فقد آفاق من حلمة على صوت زميل له يطرق الباب، وتذكيره بأن غدا لديه اجتماع مهم، في أثناء ذلك وطئت قدمه شيئا فأخذه وقال له: إنها سلسلة مفاتيحك لعلك أسقطتها وأنت لا تدري، أجاب ..ها.... نعم ..نعم، لعلي فعلت ذلك، وما أن أمسك سلسلة المفاتيح، أحس بلهفة وافتقاد المفاتيح لملمس أنامل يديها، هم بالخروج بعد ذهاب صديقه الى ركن عملها، يبحث بعينيه عنها ولكنها لم تكن موجودة، أراد أن يسأل، وانتظر للحظة علها في مكان ما وستعود، لكن لا.. سأسأل عنها، ثم توقف، أسأل عن من؟؟ ما هو أسمها؟ فحار واخذ يتحرك في مكانه، لاحظ بعض الموظفين حركته وتردده، لم يعلق احد، ولم يجرؤ أحدا في يوما على الحديث معه، انه شخص جدي أكثر من اللازم، وفي تلك الأثناء فرك يده بقوة، وقال: المفاتيح نظر إليها وإذا باسم محفور على ميدالية سلسلة المفاتيح، إنه سحاب.. ياه.. يا له من اسم رقيق، توجه إلى القسم الذي تعمل به وقال: أين هي سحاب نظر الكل ناحيته فلم يجب أحدا، عاد وسأل مرة أخرى أين هي سحاب ألا يوجد من يحمل هذا الاسم؟ قامت زميلة لها وقالت: لقد ذهبت منذ وهلة بعد ان أحست بوعكة، ماذا؟؟؟ ورددت زميلتها القول، لكنه سمع ما قالت من المرة الأولى، فقال: لقد أسقطت سلسلة المفاتيح هذه، أهي لها؟ قالت زميلتها: نعم إنها مفاتيحها، كيف ستدخل شقتها الآن؟ أظنها ستعود للبحث عنها، هيا ألحقي بها بالمفاتيح، قالت: لا أستطيع لدي من العمل الكثير وليس لدي سيارة: إذن أعطني العنوان وسأذهب أنا، أستغرب!! كل من سمع ذلك الحديث بين الاثنين، كتبت العنوان له وقالت، إنها تقطن في الجانب الآخر من الجسر الشمالي، هز رأسه وعاد إلى مكتبه ولملم بعض أموره وخرج مسرعا.

أما هي فقد سارت تحدث نفسها، هل يمكن أن القدر يضحك لها من جديد؟ ولا يريد العبث بمشاعرها وقلبها الذي حكمت علية بعدم نبض الإحساس بالحب، لا أدري!! قالت في نفسها: اشعر وكأني اعرفه من سنين طويلة، لم أحس بغربة لقاء، حين تحدثت معه لعله أملي الذي انشد؟! بل قلبي يقول انه هو، تطلعت إلى إنارة الشوارع من خلال ذلك المترو، وتحس أن الضياء أخذ يبدد ظلمة أحاسيس سوداء من الماضي، عادت نفسها هامسة، هل هو حب من أول نظرة؟ هزت رأسها.. لا .. لا أظن فقد تجاوزت تلك المرحلة، وهمس الصوت بداخلها، الحب لا يعرف المراحل، انه قدر كل إنسان في أي وقت أو مكان، وأخذت تحدث همسها، هل تقصد أن كيوبيد أطلق سهما عليه أيضا وأحس بي مثلما أحسست به أنا؟ رد صوت الهمس بعد أن جعل لمعان عينيها يعكس ضياء قناديل الشوارع الى داخل نفسها، نعم... هو كذلك، ابتسمت ورأت ابتسامتها على شباك زجاج المترو المنعكس ضياءً، وضمت نفسها بقوة كأنها تحتضن كل تلك المشاعر والأحاسيس.

قاد مسرعا وسيارته محاولا اللحاق بها، أو الوصول قبلها إذا استطاع، خوفا من أن تفتقد عدم وجود سلسلة المفاتيح فتعود إلى المكتب، انه يريد أن يراها على انفراد، إن الطفل الذي يهفو بداخلة إلى لمسه حنان ونظرة حب جعله ينسى سنين الوحدة والحرمان، لقد قتل العمل كل شعور في البحث عن الحب، وان كان قد بدأ في مداعبة أوتار قلبه بعزف النظرات التي كان يختلسها حين تتلاقى العيون، تسابق وقلبه يتسابق إليها قبله، وقد جهز دقاته عزفا لمصارحتها بأنه هوى في بحر حبها، ولا بد أن ترمي له بطوق النجاة، ليصعد إلى بر الأمان عند ميناء ها الذي هام طويلا يبحث عنه.

وصلت هي إلى شقتها فتحت حقيبة يدها، ولكن!!! أين سلسلة المفاتيح لم تكن بداخلها، صمتت لوهلة كأنها تعيد ترتيب صور أفكارها، وتذكرت سقوط سلسلة المفاتيح من إصبعها، حين ارتعشت وسحبت يدها بسرعة، قالت: إنها في مكتبه الآن، يا للقدر أحسبه قد تدخل إذن، لابد أن أعود لأراه، وأحاول إخباره بأحاسيسي نحوه، فاستدارت وأخذت السلم نزولا مسرعة، إن الوقت يداهمها والمكتب على وشك الإغلاق، والهمس بداخلها فرح بلهفتها تلك، تقفز السلالم كأنها فتاة في العشرين، بدون شعور دفعت الباب لتصطدم به، تقاربت الوجوه والأنفاس بعد أن امسك بخصرها حين اصطدمت به، تطلعت إليه مبهورة وقالت: أنت .. فقال: نعم... أنا، لم يُرِد منهم أحدا الابتعاد عن الآخر، إن ذلك الالتصاق توأم روحيهما، وصهر كل مفردات الحب التي جهزها كل واحد منهم ليقولها للآخر، أخذت أنفاسهما تستنشق بعضها بعضا شكوى وحب كأنهم في حلم، واستيقظوا على صوت أحدهم يقول: عفوا أتسمحوا لي بالمرور، ضحك كلاهما من الموقف لقد أغلقا مدخل العمارة، فأردفت قائلة: لما جئت ومن أخبرك عن عنوا ...، وقبل أن تكمل قام بمد يده إلى جيبه ليخرج سلسلة المفاتيح .... وقال لها سلي هذه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى