الثلاثاء ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

فضيلة الإمام وساعي البريد

عن ساعديه شمر لوضوء متأهبا لمهمة يتقنها. بسمل وكبر واستغفر، وسبح واستعاذ وحمد الله وأثنى عليه، ثم بدأ يمضمض ويستنشق ويستنثر، ويدلك ويوالي ويسبغ. خلل لحيته الكثة فغابت فيها يداه. فخور هو بهذه اللحية، فهي عنوان حكمته ودليل مكانته العالية، ورمز فطرته التي جبل عليها.

سوف يتوجه بعد قليل لمسجد الحي العتيق ليخطب في الناس ويؤم صفوفهم في صلاة الجمعة. لو أنطق الله لحيته هاته لباحت بعدد السجدات التي لامست فيها الأرض ولأحصت عدد المرات التي بللتها عيني الشيخ الجليل الساهرتين في سجو الليل. لقد واكبت اللحية نحافة جِرْم الشيخ طوال العقود السالفة، لكأنها ابيضت من شدة حزنها على عمره وتحولت إلى سحابة دائمة في سماء وجهه القمري. تكاد تضيء في هجعة الليل من شدة البياض. لقد أكسبته وقارا أمام نفسه وذويه والناس أجمعين، لكأنها تشكره جزيل الشكر على إعفائه لها.

أصبح الإمام شديد الحرص على الجهر بالحق في خطابات الجمعة وجريئا في إقحام فنون السياسة والاقتصاد والإجتماع في الدين. هاهو ذا قد ملأ ورقتين بخط يده اليمنى وملاحظات عينيه في أحوال العباد والبلاد، وسكب فيهما خوالج قلبه دون خشية أو قمع ذاتيين، ثم طواهما كرقيتين شرعيتين شافيتين في جيب قميصه الأيسر. سوف يصدع بالحق اليوم كما جرى عليه لسانه أمام الألوف الملتفة قلوبهم بحب الشيخ الواعظ الجليل لسنوات.

أحضرت زوجة الشيخ الجلباب والطيب، وجعلت تلبسه من طاقية رأسه إلى جوربي قدميه، ثم بدأت تطيب جيده ولحيته وباطن أذنيه بالمسك وكأنها تعزف بيديها البضتين المرمريتين سمفونية رقيقة رفيعة على كمان هجير صدئ. إنها تنعم الآن بأسعد أوقات أسبوعها حيث تستعيد فيها أحلى ذكريات الصبا حين كانا نشيطين صغيري السن. اغتالت السنون كل شيء جسدي بينهما بينما أحيت آصرة إيمانية قوية.

حدقت في وجه الشيخ فاترة الطرف: «ماموضوع الخطبة اليوم ياحاج ؟».

ابتسم إمام الحي في تناقض ساخر من تقطيب مابين حاجبيه: «الشروط الواجب توفرها في أولي الأمر قبل طاعتهم !».

لم تعد الزوجة تنتفض وتغضب لهكذا إجابات، لقد سلمت روحها إلى البارئ ورضيت بصحبة الحاج في الأفراح والأقراح، فلم يعد في العمر بقية تزيد عما ذهب منه، وقد زوجت البنات والأولاد ورأت الحفيدات والأحفاد: «أعانك الله ياحاج على قول الحق وتنبيه الغافلين ونشر الرأي الصالح، وسلط لسانك التقي على السفهاء !».

خرج الإمام يهدج لإمامة الناس. استوقفه صوت دراجة نارية على باب داره. أذناه تطربان لطنين الدراجة الصفراء الناشز الجارح وأنفه يتضوع من عطر بنزينها. لقد قدم ملك حمام هذا الزمان الزاجل الذي لم يتأخر طوال الثلاثين سنة الماضية عن إيصال الرسائل: "جاءتك رسالة ياإمام، يبدو أنها من العيار الثقيل، لاشك أنك أحرجتهم في آخر خطبة لك عن الجهاد !".

لم يكترث الإمام، فماأكثر رسائلهم السمجة المسخة: «هل هي من وزارة داخليتهم، أدخل الله الرعب في قلوبهم؟».

«لا، أبشر ياإمام ... هذه المرة نصيبك أفضل، إنها من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، لعلها علاوة !».

ومأ إليه الإمام: «افتحها ياساعي الخيرات بدلا عني، ولخصها لمسامعي فإني أشم بها ريح نجاسة، وإني - طهرك الله - على وضوء !».

«لقد أرسلوا إليك خطبة الجمعة جاهزة مكتوبة ومنقحة عن فضائل الصيام لتقرأها على الناس ياإمام، بارك الوزير فيك !». قهقه ساعي البريد ممسكا ببطنه حتى بدت طواحينه ثم نواجذه.

رقصت لحية الإمام البيضاء ضحكا: «أرجعها إليهم واكتب على ظرفها: الإمام ليس ساعي بريد !».


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى