الجمعة ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم قاسم مسعد عليوة

انعقاد مؤتمر المثقفين المصريين.. خطبٌ لوتعلمون عظيم

(1)

أنْ ينعقد مؤتمر للمثقفين المصريين فذلك خطبٌ لو تعلمون عظيم.

ولعل أعضاء لجنته التحضيرية هم المستشعرون الأُول بخطر وعِظم وجلال شأن هذه المهمة، وهم بالفعل فى موقف لا يُحسدون عليه، لأن أوزار أخطاء المؤتمر وفشله أو تحوله إلى مجرد "مَكْلمة" لن تقع إلا على كواهلهم هم دون سواهم، فالتحضير الذى يقومون به يعنى أنهم هم الذين يحددون له الغاية ويختيارون الوسيلة ويخططون وينظمون لكل شأن من شئونه، فإن أصبح المؤتمر حقيقة واقعة قاموا بتسليمه إلى القائمين عليه من داخله، وانتظروا الإشادة أو اللوم.

وبادئ ذى بدء أقول إنَّ مؤتمراً يُعقد للمثقفين المصريين هو بالحتم ضرورة تفرضها مقتضيات الواقع الثقافى المصرى، فالحال التى آل إليها هذا الواقع ما عادتْ توصف بغير التهلهل والتردى والانهيار، مما يوجب التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وهذه ضرورة لا ينكرها منصف، لكن كيف وبأية صورة وأية هيئة ينعقد المؤتمر؟.. ومن هم المشاركون فيه؟.. وأى الفئات يمثلون؟.. وما هى القضايا التى سيناقشونها؟.. وميكانزمات الأداء بأى أسلوب ستدار؟.. وما هى ضمانات وضع ما سيصدر عنه موضع التنفيذ الفعلى؟
أعلنت وزارة الثقافة أنَّ اللجنة، التى وصفتها بالفنية، قد ناقشت هذا كله وتوصلت إلى نتائج هى التى ستحدد طبيعة المؤتمر وحجمه، ومنذ الإعلان عن تشكيل اللجنة والضجيج المثار حول المؤتمر لا ينقطع، فثمة مؤيدون وثمة معارضون. المؤيدون ما بين أبرياء خُلَّص ومُلمعى أحذية وماسحى عتبات؛ والمعارضون ما بين متشككين وغاضبين. المتشككون اعتادوا من الحكومة ومؤسساتها القعقعة بلا طحن، ومن ثم فهم لا يثقون فيما يصدر عنها أو ينسب لها قولاً كان أو فعلاً؛ والغاضبون هم المستبعدون من المشاركة فى المؤتمر وأغلب هؤلاء منتم إلى جماعة الأخوان المسلمين المحظورة وما هى بمحظورة.

إذا كان هذا هو الوضع، فأى موقف أقفه بشخصى المتواضع من هذا المؤتمر؟.. مؤيد أنا أم معارض؟

الإجابة قد تبدو غريبة بعض الشىء، إذ أننى أتبنى وجهة نظر تجمع بين الموقفين النقيضين: التأييد والمعارضة معاً(!!)..

نعم معاً.. ولا يقولن أحد إنها سياسة إمساك العصا من المنتصف، فما كنتُ ممن يؤمنون بهذه السياسة ولن أكون.

تأييدى مبنى على الحتم والضرورة، فالوضع ما عاد يحتمل الإرجاء، ومصير المريض، الذى هو مجتمعنا المصرى، سيكون فاجعاً ما لم يحصل على علاجه الفورى، ومن الأفضل له ولنا أن يجرع الآن ـ وليس غداً ـ دواءه ويحسو عقاقيره بأيدينا نحن المصريين، لا بأيدى الأجانب الذين طالما آذوْه جسماً ونفساً وبرَّحوه تجريحاً وإيلاماً.
المؤتمر ضرورة، لذا أويد انعقاده..
غير أننى مع هذا التأييد أعارضه معارضة ربما رأى البعض أنها أنكى وأقسى من معارضة الآخرين، فمعارضتى تأخذ منحى مغايراً لانصبابها على الهيئة والكيفية التى أعلن أن المؤتمر سيكون عليهما؛ ولأنها معارضة مؤسسة على مفهوم الثقافة التى هى أساس ولب المؤتمر، فهى تتضمن مجموعة من الاعتراضات على: التسمية، السياق، الأغراض، الموضوعات، والمشاركين. بل إن اعتراضى يمت ـ حتى ــ إلى اللجنة التحضرية ذاتها تشكيلاً وأداءً.

(2)

لنستعرض النتائج التى توصلت إليها اللجنة التحضيرية.

توصلت اللجنة إلى أنَّ مدة انعقاد المؤتمر لن تقل عن خمسة أيام. أربعة من هذه الأيام الخمسة ستستغرقها الفعاليات النقاشية، أما اليوم الأخير فسوف يخصص للجلسة الختامية وخلالها ستعلن التوصيات.

وحَدَّدَتْ الموضوعات التى سيناقشها المؤتمر وبلغ عدد الموضوعات حسبما نشرت جريدة أخبار الأدب بعددها الصادر فى23 مايو الماضى 32 موضوعاً هى: السياسات والاستراتيجيات الثقافية، الحقوق والحريات الثقافية، التنوير، الثقافة العلمية، المنظمات والمؤسسات الثقافية، تكامل الثقافة والإعلام، تكامل الثقافة والتعليم، التطرف وثقافة الدولة المدنية، التنمية الثقافية، أدباء الأقاليم وتثقيف الريف، نحو ميثاق مصرى لحرية الفكر والإبداع، اقتصاديات الثقافة، تشريعات العمل الثقافى، تحفيز الترجمة، تعليم الفنون، الحفاظ على الذاكرة الشعبية، مشكلات صناعة السينما، المسرح المعاصر، الموسيقى، الفنون الاستعراضية، الكتاب، التدوين الإلكترونى، النقد فى مصر، الثقافة والمواطنة، التنسيق الحضارى، المكتبات العامة وثقافة المجتمع، الوثائق والمخطوطات بين الجمع والإتاحة، تنمية دور المتحف، التحريك الثقافى، والرعاية الاجتماعية.

وقيل إنها وسَّعت نطاق توجيه دعوات المشاركة فى المناقشات العامة لتشمل أعضاء المجلس الأعلى للثقافة ـ الجهة المنظمة ـ ومقررى لجانه، رؤساء النقابات الفنية ورئيس اتحاد الكتاب، أعضاء المجلس القومى للثقافة، أعضاء لجنتى الثقافة بمجلسى الشعب والشورى، ممثلين عن اللجان الثقافية بالأحزاب المصرية والجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى، المنظمات الرسمية العاملة فى مجال الثقافة، أمانة أدباء مصر فى الأقاليم، وممثلين لمجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والهيئات الثقافية المسيحية، ممثلين للوزارات ذات الصلة بالعمل الثقافى، والمسئولين عن تحرير المجلات والصحف الثقافية فى الصحف القومية والحزبية والمستقلة؛ بالإضافة إلى عدد من المثقفين العرب للحضور كمراقبين.

(3)

معارضتى كما ذكرتُ آنفاً مؤسسة على مفهوم الثقافة التى هى أساس ولب المؤتمر، وبما أن الثقافة عنصر متداخل فى كل مناحى الحياة، فهى ماثلة فى كل طبقات المجتمع بمختلف شرائحها، ومتمظهرة فى جميع المهن على تنوع فئاتها، ومتغلغلة فى جميع الملل باختلاف طوائفها؛ فالمثقفون إذن ليسوا فئة بعينها، وإنما هم أفراد المجتمع بأسره، هم أفراد الشعب جميعه. الثقافة هى المُناخ العام الذى ينتجه ويستهلكه ويورثه الجميع للجميع، سياسيين كانوا أم رجال ونساء أعمال وإدارة، علماء أوعمال، فلاحون أوأجراء، خدم أوباعة جائلون. لا يصح إذن انتزاع وصف الثقافى من المجتمع بأسره وقصره على فئة بعينها.

وبالمثل فإن إدارة شئون الثقافة فى المجتمع ليست قاصرة على وزارة بعينها حتى إن كانت وزارة للثقافة؛ فكل الوزارات تُسهم بشكل أو بآخر فى هذه الإدارة حتى لو كانت وزارات: للاقتصاد، الصناعة، الزارعة، الرى أو حتى البيئة؛ ولا ننسى بطبيعة الحال وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر. أقول هذا لأصحح مفاهيم رائجة تقصر الوزارات المتماسة مع وزارة الثقافة فى نشاطاتها على وزارات: الإعلام، التربية والتعليم، التعليم العالى، والبحث العلمى. ويا لضيق أفق الثقافة لو اقتصر مفهومها على الفنون والآداب، أو امتد ـ حتى ـ إلى العلوم والأديان فقط؛ فأفق الثقافة أوسع وأشمل لأن الثقافة هى الحياة. من هنا فإن العنوان الذى تم اختياره للمؤتمر (مؤتمر المثقفين) هو عنوان كاذب ومضلل ـ بالمعنى العلمى لا الأخلاقى ـ لأنه يسلب الثقافى من جموع المثقفين الحقيقيين وينسبه إلى فئة بعينها ويجعله حكراً عليها.

الأقرب إلى الصواب من حيث العلمية أن يحمل المؤتمر العنوان الذى يعبر عن المجتمع الذى ينتمى إليه؛ ولا أجد ضرراً سيحيق بأصحابه لو حمل عنواناً يحدد هويتهم، عنواناً من قبيل (مؤتمر الصفوة المثقفة) أو (مؤتمر النخبة المثقفة) أو حتى (مؤتمر المثقفين الرسميين)، والرسمية هنا لا تعنى الاعتماد من السلطة السياسية قدر ما تعنى الحصول على الاعتراف المجتمعى، وهو اعتراف يجعل هؤلاء الرسميين فى مواجهة مع الشعبيين أو يضعهم معهم على خط متواز؛ والاحتجاج بأن المؤتمر الذى نحن بصدده ليس مؤتمراً لمثقفين من هذه النوعية لأنه يتضمن موضوعاً متعلقاً بالذاكرة الشعبية هو احتجاج مردود عليه، فليس ثمة ما يمنع فريقاً من المثقفين من دراسة شئون الفريق الآخر، ثم إنَّ موضوعاً واحداً من بين إثنين وثلاثين موضوعاً يبين حقيقة انتماء المؤتمر الذى يشتمل عليه.

ما سبق هو الأقرب إلى الصواب كما توضح، لكن الأكثر قرباً من الصواب هو تسميته بـ (مؤتمر وزارة الثقافة) وإنْ حرص منظموه على قول العكس، فالمؤتمر يُعقد فى مَعِيَّة هذه الوزارة وبتوجيه من وزيرها وتمويل من خزانتها، ويرمى إلى تطوير العمل بها ووضع تصور لعملها المستقبلى وذلك من خلال الاستماع إلى المستفيدين من خدماتها والمتعاملين معها سواء داخل أروقة مؤسساتها أو خارج هذه المؤسسات.

أما الأكثر صواباً فهو نسبة هذا المؤتمر إلى المجلس الأعلى للثقافة فيصبح اسمه (مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة) لأن المجلس ـ من بين مؤسسات الوزارة ـ هو الذى اضطلع بالمهمة كاملة، وإطلاق اسمه على مؤتمره أمر لا يجافى الحقيقة من ناحية وللتمييز بينه وبين مؤتمرات أخرى تقيمها مؤسسات أخرى بالوزارة وفى مقدمتها "الهيئة العامة لقصور الثقافة"؛ فإن اُحْتِجَّ بأن المؤسسات الأخرى ممثلة فى المؤتمر، تم رد الاحتجاج بأن الأمر لا يخرج فى حقيقته عن دواعى التنسيق والتكامل، أو الإحاطة علماً.

وإذا كانت ثمة حساسيات تثيرها نسبة المؤتمر إلى منظميه ـ ولا أرى لهذه الحساسيات محلاً هنا ـ فقد يكون من المفضل تسمية المؤتمر بالغرض الرئيس المرتجى من انعقاده، كأن يحمل على سبيل المثال شعار ( فلسفة العمل الثقافى فى مصر) أو (نحو سياسات ثقافية مصرية جديدة) أو (التخطيط الثقافى طويل الأجل فى مصر) أو (استراتيجية العمل الثقافى فى مصر).. وهكذا فتحديد بؤرة الاهتمام ييسر الوصول إلى النتائج المرجوة، إن لم تكن كلها فبعضها، وهذا يفضل بكثير ترك حبل الأمور على غاربها، فيصبح المؤتمر مفتوحاً لكل شىء، وقد لا يتحقق من كل شىء هذه أى شىء.

(4)

تدنى أوضاع الثقافة والتراكمات التى تُركت طويلاً هى التى أوجبت التفكير الجدى فى عقد المؤتمر فى هذا التوقيت؛ فالمهمة مهمة إنقاذ لسياق آخذ فى التدهور. هذا ما يقوله مؤيدو انعقاد المؤتمر.

والسياق واحد من الموضوعات التى يحلو لمعارضين المؤتمرالضغط عليه، وهم فى ضغطهم هذا لا يتوقفون بأبصارهم عند حدود التدنى والتراكم إلا بقصد العبور إلى الهدف البراجماتى الكامن وراء فكرة عقد المؤتمر.
وثمة مقولات معارضة أربع يمكن سوقها فى هذا الموضع:

لا يخرج المؤتمر عن كونه محاولة من وزير الثقافة فاروق حسنى لتحقيق ذاته فى سياق معركة انتخابات اليونسكو وهزيمته أمام السيدة بوكوفا.
المؤتمر محاولة منه لإثبات وجوده الدائم فى الوزارة بعد دنو موعد خروجه منها باقتراب أجل آخر الحكومات التى انتسب إلى عضويتها.
المؤتمر محاولة يقوم بها الوزير لدعم نظام الحكم بإضفاء وجه ثقافى على حربه القلقة مع التيار الدينى السلفى.
الوزير إنما يستخدم المؤتمر كورقة رابحة لمواجهة المتغيرات المجهول كنهها فى الأيام المقبلة التى ستشهد الانتخابات النيابية والرئاسية.

تربط هذه المقولات الأربع إذن بين بروز الاتجاه نحو العمل الجدى من أجل عقد المؤتمر وإرادة الوزير، وجميعها يَرُدُّ هذه الإرادة إلى ظروفه هو وظروف نظام الحكم الذى شارك فيه لمدة تزيد على ثلاثة وعشرين عاماً.
وعلى وجاهة قول المؤيدين والأقوال المعارضة الأربعة، فالموضوعية تقضى بألا يؤخذ القول المعارض الأول على إطلاقه، ففكرة المؤتمر طرحت منذ عشرة أعوام، أى فى العام 2000م.، وأثارت وقتها نفس الضجة، لكنها ما لبثت أن تبددت مع انزواء الفكرة داخل ملفها، لكن هذا لا يمحو المنطقية عن هذا القول والأقوال الثلاثة الأخرى.

(5)

كثيرة هى تصريحات منظمى المؤتمر عن نبل الأغراض المرتجاة من انعقاد المؤتمر، وهى أغراض نبيلة بالفعل، لكن ما أكثر ما شاهدتُ اجتماعات عقدتْ فى مؤتمرات ومنظمات ثقافية وحقوقية وصفت الأغراض المرتجاة منها بالنبل ـ بل كانت نبيلة فعلاً ـ وانتهت بكوارث أقلها كوارث الانشقاق.

وما لم يسفر هذا المؤتمر عن تقديمه لخريطة واضحة محددة المعالم للاهتداء بها وسط الأدغال التى توجب الإصلاح الثقافى الجذرى، فإنه يكون قد فقد مصداقيته فقداناً تاماً، وبوصلة هذه الخريطة التى لا غنى عنها هى الاستراتيجية التى لا ينبغى بأى حال من الأحوال تأجيل وضعها؛ ولا أتصور استراتيجية للعمل الثقافى فى مصر تخلو من تحديد للمفاهيم والفلسفات التى تحكم هذا العمل لآماد طويلة، فهل هذالمؤتمر مؤهل لكل هذا؟

لا أظن أنَّ واحداً من هذه الأغراض سيتحقق بغير أن تشهد أروقة المؤتمر حوارات عقلانية بين الفرقاء تقوم على مبدأى التعددية وقبول الآخر. حوارات مستنيرة تجمع بين الصراحة والجرأة والموضوعية، وتناقش الموضوعات التى تستهدف وضع الاستراتيجية الثقافية ورسم خريطة العمل المستقبلى بروح النقد الإيجابى، دون وصاية أو تلقين أو احتكار أو تكفير. هل هذا أمر ممكن؟.. أقول هو ممكن لكن الصعوبة تكتنفه فما اعتاد الفرقاء فى مصرنا سوى التنديد والإمعان فى المخاصمة.

وثمة سؤال يخايلنى الآن: هل فكَّر الفرقاء، الذين سيجمعهم هذا المؤتمر، فى الآثار المباشرة وغير المباشرة التى ستعود على وحدة الوطن وأمنه القومى من جرَّاء اجتماعهم فى هذا المؤتمر؟.. نعم.. للمؤتمر آثار مباشرة وأخرى غير مباشرة متصلة بوحدة الوطن وأمنه القومى وإن تغافل من تناولوا هذا المؤتمر بالتأييد أو التعريض عن ذكرها, فنتائجه ـ سلبية ستكون أم إيجابية ـ ستعود بالضرر أو بالنفع على وحدة الوطن وأمنه القومى، فالثقافة هى أساسهما وليست الترتيبات ال عسكرية.

(6)

لا أظن أن أياً من المؤيدين والمعارضين سيختلف على أهمية الموضوعات التى سيناقشها المؤتمر، ومع إيمانى بهذه الأهمية فإننى أرى أنَّ الصواب قد جانب منظمى المؤتمر بتخصيصهم محواراً للسياسات والاستراتيجيات الثقافية يتوازى مع المحاور الأخرى، فالأفضل والأوقع من وجهة نظرى أن يكون هذا المحور هو المحور الرئيس، فكل ما وازاه من محاور وموضوعات سواء كانت الحقوق والحريات الثقافية، التنوير، الثقافة العلمية، المنظمات، التعليم، الإعلام، التطرف...الخ؛ وسواء ناقشها المؤتمر ـ كما أعلن ـ فى الجلسات الصباحية أو المسائية هى فى حقيقتها أجزاء لما ينبغى أن يشتمل عليه هذا المحور، فكلها توابع للاستراتيجية وليست مستقلة عنها.

وثمة مجانبة أخرى للصواب تبدت فى صياغة هذا المحور "السياسات والاستراتيجيات الثقافية"، فالسياسات عنصر من عناصر التخطيط، والتخطيط مكون من مكونات الاستراتيجية، أى أن السياسيات الثقافية هى فرع من فرع، وإذا ما وازى الفرع الأصل فهذا يعنى أن الأصل يعانى من عيوب لا تؤهله للقيام بدوره. ومع ضرورة تعدد الاستراتيجيات الثقافية لتعدد ميادينها فإنه من المفضل دائماً أن تحتضن استراتيجية أم الاستراتيجيات المتعددة، وهذا ما وقفتْ دونه صياغة هذا المحور، ولو تحولت هذه الصياغة إلى "استراتيجية العمل الثقافى فى مصر" واحتل محورها الصدارة التى هو أهل لها لكان هذا من وجهة نظرى أفضل وأوقع.

بهذا المفهوم أرى أن موضوعات أخرى غابت عن منظمى المؤتمر منها على سبيل المثال: الازدواجية الثقافية، ثقافة المواطنة، المثقف التكنوقراطى، علاقة البيروقراطية بالثقافة، الأميتان الثقافية والهجائية، تجديد الخطاب الدينى ـ وهو ثقافة بالأساس ـ ورقابة المؤسسات الدينية والاحتقان الطائفى، التنسيق الثقافى المصرى العربى، الاتجاه الغريب الداعى إلى مراجعة التطبيع الثقافى مع العدو الصهيونى، الخصوصية الثقافية فى مواجهة عصف العولمة، اللغة العربية، ثقافة احترام الملكية الفكرية، ثقافة الطفل، ثقافة رجل الشارع، وأخيراً رد الاعتبار للأيديولوجيا، وأعلم أنَّ كثيرين سوف يتبارون لرفض الموضوع الأخير، فقط أرجو ألا ينسوا أن الأيديولوجيا ثقافة.

(7)

المدعوون للمشاركة فى المؤتمر كُثر، وهذا أمر يُحمد للمنظمين، فاتساع رقعة المشاركين وتمثيلهم لأكبر عدد ممكن من الدوائر المجتمعية يتيح فهماً أعمق لطبيعة الموضوعات المتناولة؛ لكن أول ما ألاحظه على قائمة المشاركين غياب خبراء الإدارة: علماء ومهنيين، لاسيما أولئك المتخصصين فى تحليل النظم والتخطيط والبرمجة والسلوك الإدارى؛ وهذا من وجهة نظرى خلل لابد من معالجته، فسوء إدارة الشأن الثقافى واحد من أهم المسببات التى أوجدت العقم وأوصلت إلى التشوه الذى تعانى منه حياتنا الثقافية الآن. ومن غير المتصور أن ينعقد مؤتمر ينظر فى مشكلات المثقفين ـ وإنْ كانوا من النخبة والرسميين ـ لا يشارك فيه أصحاب هذه التخصصات؛ فالصحيح أن يشاركوا فى كل خطوة من خطوات المؤتمر قبل وأثناء وبعد فعالياته، لكن فيما يبدو، وعلى ضوء ما نشر، غابت هذه التخصصات الإدارية تماماً من مخيلات وأذهان أعضاء اللجنة التحضيرية.

مثلهم غاب خبراء قياس الاتجاهات الثقافية، أولئك الذين يمكنهم،رسم خرائط وتحديد نوعيات ونسب وأسباب التغير فى الاتجاهات الثقافية عبر تعاقب الحقب سواء كانت حقباً معاصرة أو قديمة.

ومع أن تمثيل مَجْمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والهيئات الثقافية المسيحية أمر مهم، فإن غياب تمثيل الخطباء والدعاة التابعين لوزارة الأوقاف وغير التابعين لها، هم والمنتمين إلى الكنائس غير الكنيسة الأرثوذكسية يمثل عيباً تنظيمياً؛ ولا يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما يمتد إلى المجلس الأعلى للشباب والرياضة، فهو أيضاً ـ حسبما نشر ـ غير ممثل فى المؤتمر على الرغم من اتفاقيات التعاون والبروتوكولات الموقعة بين وزارة الثقافة ـ ومؤسساتها ـ والمجلس الأعلى للشباب والرياضة.

وإذا أمكن مدارة بعض أوجه القصور الناتج عن عدم الأخذ بنظام التمثيل الجغرافى من خلال التمثيل النوعى الذى أخذت به اللجنة التحضيرية، فإن ثقافات بعض المناطق الجغرافية سوف تغيب عن المؤتمر وهى ثقافات المناطق الطرفية، فهل يعنى هذا الارتضاء بتغيب ثقافات بدو الصحراء الشرقية وبدو الصحراء الغربية مثلاً؟.. وهل يعنى هذا أن ثقافات النوبيين وسكان حلايب وشلاتين المصريتين خارجة عن نطاق المؤتمر؟

وفوق كل هذا أين منتجو ومستهلكو الثقافة الشعبية؟.. أين ممثلوهم وممثلو المواطنيين العاديين من دافعى الضرائب التى ينفق منها على المؤتمر؟.. أين هؤلاء من المؤتمر الذى ستتردد فى أروقته شكاوى باحثيه من اتساع الفجوة بينهم وبين الثقافة الرسمية التى ينتمى إليها أعضاء المؤتمر؟.. ألا تفرض العلمية دعوة ممثليهم والاستماع إليهم فى هذا الأمر؟

أمر آخر أهمس به فى آذان أعضاء اللجنة التحضيرية الموقرين خاص بالتمثيل والمشاركة: لم يعد فى مصر مؤتمر اسمه "مؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم"، فقد تبدل اسمه منذ ثمانية أعوام، أى منذ الدورة رقم (17) ـ هو الآن مشرف على الدورة رقم (25) ـ ليصبح "مؤتمر أدباء مصر"، إذن فدعوة أعضاء أمانة هذا المؤتمر هى دعوة لأعضاء أمانة مؤتمر أدباء مصر، وهى دعوة تستوجب شكر اللجنة الداعية.

(8)

مَن يملك ويمول يحكم ويتحكم، هذه حقيقة معلومة علم اليقين فى عالم الاقتصاد ودنيا المال والأعمال، لكن طرأت على هذه الحقيقة متغيرات من أهمها أنه ليس شرطاً لمن يحكم ويتحكم أن يدير، ومن ثم ظهر مبدأ الفصل بين الملكية والإدارة.

مع المؤتمر الذى نحن بصدده، أظهرت وزارة الثقافة ـ صاحبة الفكرة والجهة الممولة له ـ عدم إيمانها بهذا المبدأ، فتشكيلها للجنة التحضيرية لم يأت فقط فى معية أحد أهم مؤسساتها "المجلس الأعلى للثقافة"، ذلك المجلس الذى يشغى نشاطاً وحركة منذ ثمانينيات القرن العشرين، وإنما ضم أيضاً عدداً من أبرز العاملين فى الوزارة والمتعاملين معها، واستعراض سريع لأسماء الأعضاء يؤكد أنَّ كل عضو فى هذا التشكيل مشهود له بالكفاءة فى مجاله، فهل يُنكر أحد المكانة المُبَرَّزة التى يحتلها كل من (مع الاحتفاظ بالألقاب ومراعاة الترتيب الأبجدى): أحمد عبد المعطى حجازى، إسماعيل سراج الدين، السيد يسن، جابر عصفور، حسام نصار، سامح مهران، صلاح عيسى، فوزى فهمى، ليلى تكلا، محمد سلماوى، محمود صبرى الشبراوى، ومصطفى الفقى؛ أو أن يضرب كشحاً عن مهارة أمين عام المجلس الأعلى للثقافة عماد أبوغازى؟

ومع أن لشخصى المتواضع فيهم زملاء وأصدقاء وأساتذة، فإن أول ما يلفت انتباهى فى هذا التشكيل، غير كونه مقتصراً على عدد محدود من العاملين والمتعاملين مع وزارة الثقافة دون غيرهم، أنه تم بالاختيار وليس بالانتخاب، وأنه لا يمثل الجغرافية المصرية، والتمثيل الشبابى غائب عنه تماماً، هو وتمثيل الأقليات. وهذه مثالب تتعدى الجانب التنظيمى إلى الجانب الفنى، وتترك آثارها الغائرة على جسد المؤتمر وروحه.

وقد ظهر هذا بالفعل فيما أتيح لى معرفته عن المؤتمر عبر وسائل الإعلام، فمثلما تشكلت اللجنة التحضيرية "بالأمر المباشر"، إذا صح التعبير،احتكرت اللجنة و"المجلس الأعلى للثقافة" وضع الخطوط العريضة للمؤتمر ـ الخطوط الدقيقة غير معلومة وغير معلن عنها للآن ـ وفى تصورى أنَّ مؤتمراً مِن مهامه وضع استرتيجية للعمل الثقافى لهو أكبر من أن تقوم به لجنة مشكلة بهذه الطريقة أو مجلس حكومى بحت؛ فبما أن استراتيجية كهذه من شأنها أن تهيمن على الأداء الثقافى لعقود طويلة قادمة، فهى إذن تعادل دستور الأمة، ولا يكون سن الدستور شرعياً ما لم يخرج عن جمعية وطنية تمثل فيها كل أطياف الشعب؛ وأتخيل المؤتمر المنوط به وضع استراتيجية العمل الثقافى فى مصر مماثلاً لهذه الجمعية.

غير أن المؤتمر بصورته المعلنة يبدو قزماً ضئيلاً مقارنة بما ينبغى أن يكونه، والسبب عائد إلى ظروف التحضير له، إن جسامة المهام المنوط بالجمعية الوطنية للمثقفين المصريين أداؤها ـ هذا إذا ما استقر الرأى على أن تكون للمثقفين حقيقة ـ تتطلب التحضير لها عبر مؤتمر تحضيرى وليس عن طريق لجنة عُين أعضاؤها بقرار إدارى محكوم باعتبارات وظيفية ما أكثرها؛ لكن مع مصر الفقيرة اقتصادياً وديموقراطياً، هو أمر دونه "خرط القتاد" كما يقول العرب.

ولتعويض هذا القصور كان يتعين على اللجنة التحضيرية و"المجلس الأعلى للثقافة" الذى ناقش وأقر ما انتهت إليه لجنته الأخذ ببعض الأساليب التى تُضَيِّق قدر الإمكان الهوة بين المأمول والممكن. أساليب مثل: اللجوء إلى ما يُعرف بجلسات الاستماع، وإجراء استبيان أو استبيانات لاستجلاء الواقع الثقافى، وتحديد فترة زمنية معينة لتلقى آراء المهتمين بقضايا الثقافة والمثقفين على عمومهم وفرز هذه الآراء؛ لكن أياً من هذا لم يحدث.

ثم إنَّ اللجنة تناست الإعلان عن الكيفية التى سيدار بها المؤتمر من الداخل، فنشرت عن المحاور والقضايا والمشاركين ولم تُشر لا من قريب أو بعيد، إلى أمانته وكيفية اختيارها، ولا إلى مستوياته التنظيمية، وتوزيع الاختصاصات عليها، كأن ديموقراطية الإدارة أمرٌ لا يعنيها ولا يعنى المشاركين فى فعالياته، مع ضروريتها لكيان سيضع أسس العمل المستقبلى لثقافة شعب. من هنا تكثر الأسئلة وتتزاحم. أسئلة من قبيل: ما هى آليات نظام الأداء الداخلى؟.. هل سيتشكل المؤتمر من لجنة واحدة أم من لجان متعددة؟.. من سيدير؟.. من سيتلقى ما تنتهى إليه المناقشات؟.. من سيبلورها ويصوغها؟.. الأوراق البحثية هل ستقبل من الكافة، أم أنَّ ورقة واحدة تكفى للموضوع الواحد؟.. وهل صحيح أنه سيؤخذ بنظام المعقبين، أم سيُطلق العنان لمناقشات الفرقاء؟.. وضبط الأداء كيف سيكون؟.. ما هى ملامحه؟.. من سيقوم به؟.. وما هو النهج الذى ينبغى ألا يخرج عليه؟.. التوصيات كيف ستجد طريقها إلى التنفيذ؟.. ما هو التشكيل الذى سيتابع هذه التوصيات؟.. سيكون من عموم المشاركين، أم من موظفى الوزارة؟.. هذه الأسئلة وغيرها كثير كان من الواجب تقديم الإجابات عليها قبل الإعلان عن توقيت انعقاد المؤتمر الذى تأجل غير مرة قبل أن يتحدد نوفمبر القادم ـ حتى الآن ـ موعداً له.

وتستلزم ديموقراطية إدارة المؤتمرات ـ إنْ أُخذ بها ـ استهلال الفعاليات بجلسة إجرائية يُوزع أثناءها المشاركون على لجان المؤتمر ومحاوره وفقاً لرغباتهم واستعداداتهم من ناحية، ومتطلبات تناسب أحجام العضوية بين اللجان والمحاور من ناحية أخرى؛ وفى هذه الجلسة يتم انتخاب أمانة المؤتمر ورؤساء اللجان والمحاور ومقرريها ولجنة الصياغة والرئيس ومعاونيه، فهل هذا موضوع فى الحسبان، أم متغافل عنه؟

كل هذا من وجهة نظرى ضرورى لمؤتمر كالمؤتمر الذى نحن مقبلون عليه، لكن شيئاً منه لم يعلن عنه، على الرغم من كثرة الحديث عن الشفافية التامة والصراحة المطلقة والمسئولية الكاملة.

الخلاصة:

أنا ممن يرون حتمية انعقاد مؤتمر لمناقشة الأوضاع التى أوصلت الثقافة المصرية إلى حال ما عاد بمستطاع السكوت عليها.

هدف المؤتمر الذى أتطلع إليه، وأضعه موضع الصدارة فيه، هو "وضع استراتيجية مبنية على أسس علمية للعمل الثقافى فى مصر".

لى تحفظات غير قليلة على المؤتمر بصورته المعلن عنها، وهى متعلقة بـ: التسمية، السياق، الأغراض، الموضوعات، المشاركون، وطالت هذه التحفظات اللجنة التحضيرية والغموض الذى يكتنف الكيفية التى سيدار بها المؤتمر.
المؤتمر بالكيفية المعلن عنها لا يخرج عن كونه "مؤتمراً لوزارة الثقافة" وليس "مؤتمراً للمثقفين".

وأود أن أشير إلى أمرين:

أولهما: أنه لا يقلل من شأن الوزارة أنْ تعقد مؤتمراً باسمها، أو بأى اسم آخر، ولا أن تطمح ـ حتى ـ إلى عقده باسم المثقفين على عمومهم، لكن ينبغى عليها أن تراعى المجتمع الذى سيعبر عنه كل مؤتمر، وأن تأخذ بشروطه العلمية والعملية عند وضع فكرته موضع التنفيذ، وإلا إصيب بتشوهات خِلْقِية تعوقه عن أداء ما هو مأمول منه، وأنا أربأ بالمؤتمر المُعْلن عنه أنْ يأتى بهذه الصورة.

ثانيهما: أننى تلقيتُ دعوة شفهية من الدكتور عماد أبو غازى أمين عام المجلس الأعلى للثقافة للمشاركة فى المؤتمر ببحث يتناول أساليب الرعاية الاجتماعية المطلوبة للأدباء والفنانين، ولأن هذه الرعاية هى مطلب كل مَن يمارس الإبداع الأدبى والفنى قبل أن تكون مطلبى الخاص، فقد قبلتُ الدعوة شاكراً، وطلبت موافاتى ببعض البيانات الكمية (الرقمية) حتى يمكننى إجراء دراسة مبنية على أسس علمية سليمة، إلا أنها لم ترد إلىَّ للآن وما زلتُ أنتظر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى