السبت ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم نازك ضمرة

موسيقى صاخبة بقوة ست درجات

رعدة هزتني بقوة ست درجات على مقياس رختر، تشويش مختلط وموسيقى لم أدرك كنهها، ظننت أن مساً ألمّ بي، في العام 1999 كنت في أرض غير عربية، بعيداً آلاف الأميال عن أهلي وعشيرتي، إحساس غريب، أو هو اضطراب ظننته عضوياً أو نفسياً، غم يخامرني وهم يعتريني، لا بد من التساؤل عن سر تلك الموجات العارمة، تجتاحني فتلزمني العزلة، جربت الهرب منها، فتابعتني في كل مكان، حاولت التفكير والتأمل والقراءة والتعلم والتثقف والرجوع إلى مصادر موثقة في مواقع كثيرة، علني أكتشف سر ذلك الاضطراب الممزوج بالحزن والفراغ، ومع التكرار والاعتياد على تلك الحالة وخلال أسبوعين، أخذت الأمر على أنه فترة عابرة قد تمر على خير، اعتدت على العيش في أجواء تلك الأفكار والأصوات التي تشبه هبوب ريح في صحراء حاملة معها رمالاً وأمطاراً تجرفك وتحيق بك من كل جانب، حتى لا تدري أأنت في سجن أو هم أو حزن، ومع مرور الأيام الثلاثين الأولى وأنت في أرض الغربة أخذت تسأل أهلك وأٌقاربك ومعارفك، فجاءك الخبر التفسيري، شقيقك الأصغر في مستشفى يعالج من جلطة دماغية قوية، ابنك وربيبك وصديقك يعاني من العزلة والآلام، عرفت أن كل ما مر بك هي وحي بحدوث واقعة شديدة الوقع على نفسك، فهذه الأمواج العاتية والرياح العاصفة وأصوات الأمطار ماهي إلا تعبير روحي عن موسيقى حزينة تعتريك، ويتواصل انهمار ذلك النهر الحزين في مقارعة مشاعرك، تصبح همهمات النهر الحزين موسيقا مضطربة تعتاد على سماعها والعيش في كنفها، فتبقي في حالة عصبية عاصية مستعصية، تسأل عن مريضك وشقيقك في مشفاه وفي منزله وفي مقامه وفي منامه، فتدرك أن الأمر جلل، وأن ربيبك وصديقك، شقيقك وابنك لن يعود إلى وضعه الطبيعي، فتعود.

تعود إلى الأردن، إلى عمان، إلى منزل شقيقك في جبل الهاشمي، قرب دوار عبده نقاوة، هيأتك الأيام والمتاعب لتقبل الحال، أخوك لا يستطيع حتى الكلام المفهوم، سليم العقل والذاكرة، لكنه يفقد الأمل يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، نبحث له عن أساليب لتأهليله وإعادته لممارسة الحياة ولو بشكل جزئي، على أمل أن يحرك نفسه في كرسيه، أو يستطيع أن يتدبر أمره للذهاب للمرافق الصحية، أو لتوجيه كرسيه نحو ساحة الدالية، يتأمل ما زرعت يداه في باح منزلهم، وعلى أمل أن تتذاكرا في ساعة من الزمن، ما مر بكما زائرين لدمشق أو عمان أو القاهرة أو أمريكا، يضحك بملء فيه حين تمازحه، ويكاد يغمى عليه، فتنقطع أنفاسه، تتوقف عن الكلام والمداعبة، حتى لا تقع الطامة، ترحل روحه لبارئها في حضرتك، تقطع ساعة أو ساعات تحاول أن تلاعبه طاولة الزهر، وتعمل على أن يعادلك أو يغلبك أحياناً، فيضحك ساخراً منك، عارفاً ومكرراً كلمات لا تفهم معظمها، لكنه يشير بأصابعه وعيناه باسمتان أنك تهاونت معه خصيصاً، لكن ومع ذلك ساعتان مرتا علينا وهو في حال جيدة، تترفق به فتستأذن بالخروج ، بل قل بالهروب، فمأساتك هي مأساته، وحزنك هو خوفك منه وعليه، تغادر منزله مكرهاً متوعكاً متألماً، ليس هذا فحسب، بل يزداد هبوب العواصف في أذنيك، فتعلو أصوات النفير والموسيقى الحزينة بنغمات قوية مزعجة، تنظر حولك فترى خفافيش تحلق حولك من كل اتجاه، وحين شاهدتها بالآلاف مرة حول منزل ابنتك الأولى في أمريكا، ازددت رعباً، تحولت كأنك طفل يريد النجاة بنفسه، تتذكر خروجك من منزل شقيقك، فتعتريك حالة حزن وخوف وقلق لأيام عدة، تتحسس قلبك ورأسك ومفاصلك، كلما وقفت تحسّ أنك تريد الجلوس، وكلما ابتعدت عن الناس تحسّ أنك بحاجة للناس، للتسلية، فتعلقت بلعبة ورق الشدة، ومع من؟ مع أناس ليسوا بمستواك الفكري ولا الاجتماعي ولا الثقافي، لكنك مضطر إلى ذلك، لتبقى ممسكاً بحبل النجاة والحياة والسراة، شاهدتك ابنتك وأنت تجري فزعاً من آلاف الخفافيش السوداء صوب سيارتك، تفتح باب السيارة مضطرباً، وتدلف بسرعة وتقفل الباب خلفك بسرعة أكبر، تدير مفتاح تشغيلها وتتحرك، لا تفتح زجاج أي نافذة لتوديعها وأحفادك، وتسير، السيارة تسير مبتعدة عن منزل ابنتك، تفطن لتأملها بالمرآة فتراها تقهقه عالياً وتحرك يديها وجسدها هازئة بك. لكن الموسيقى الحزينة تتهيج في أذنيك، وتعيش معك بصوت عال لأيام، وما زلت على هذه الحال منذ أكثر من عشرة أعوام، تحاول نسيان تلك الموجات الموسيقية الحزينة، لكنها تتوالى، تتناقص وتبتعد، تتحول نبراتها مع اتجاهات الريح إلى أي اتجاه، تختفي أحياناً وتغيب، لكنها تعود إليك، وكأنك في لحظات انتظار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى