السبت ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم مروان أبو صلاح

القيم الأخلاقية في المسيحية والإسلام

مفهوم القيمة الأخلاقية

تتصدر القيم الأخلاقية حيزا مهما في حياة الإنسان، وبالتالي شغلت مساحة عريضة من بحث المفكرين والمهتمين بالجوانب الإنسانية والاجتماعية عبر التاريخ.

ولتحديد مفهوم القيم بالمعنى العام نستعرض رؤى متعددة، عرّف جيمس فيري القيم "بمجموعة من المعايير التي يضعها المجتمع ويلزم بها الأفراد"، ويضيف روبن وليامز أن "مفهوم القيم يتضمن عناصر متعددة ترتبط بالشعور والعاطفة، وأن القيم ذات تأثير مباشر على سلوك الأفراد وأفعالهم، بل هي في الواقع الدافع وراء كل سلوك"i. ويرى عبد اللطيف خليفة أن القيم انعكاس للأسلوب الذي يفكر به الأفراد في ثقافة معينة، وفي فترة زمنية معينة، كما أنها هي التي توجه سلوك الأفراد، وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه، أو مرغوب عنه من أشكال السلوك في ضوء ما يضعه المجتمع من قواعد ومعايير"ii

فالقيم عبارة عن نظام معقد يتضمن أحكاما تقويمية إيجابية أو سلبية مقبولة أو مرفوضة نحو الأشياء أو الأفعال أو حتى نحو الأشخاص، وبذلك فالقيم تعكس أهداف الإنسان واهتماماته الذاتية كما تعكس حاجات النظام الاجتماعي والثقافي الذي يعيش الإنسان فيه، أو الذي تحدر منه.

الشرائع السماوية، الغاية والوجود من الإنسان

الشرائع السماوية هي رسالة الله للإنسان، وهي تقوم على أساس أن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى، وإنما لغاية محددة معلومة، وبالتالي أرسل له الرسل والأنبياء وأنزل عليهم الكتب والشرائع، التي توضح لهم ما هو مطلوب منهم ليحققوا غايته.

وتجمع هذه الشرائع السماوية على غاية أساسية مركزها تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا، ولتحقيق خلافته في الدنيا وبالتالي تحقيق خلافته في الأرض:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"iii فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له ودفع المضار عنه فترشده إلى الخير وتهدية إلى سواء السبيل وتدله على البر وتأخذ بيده إلى الهدى القويم وتكشف له المصالح الحقيقية، ووضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلا ودليلا له في تلك الرحلة.

فالشرائع ترمي لتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة أو في العاجل والأجل، قال تعالى: "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا"، و ويوضح العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه تلك الفكرة "اعلم إن الله سبحانه لم يشرع حكما من أحكامه إلا لمصلحة آجلة أو عاجلة تفضلا على عباده...، وليس من أثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا أجلة لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه"iv، فمصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر, ودفع الفساد إن عاجلا أو آجلا.

لقد أبرزت جميع الديانات السماوية ما للتعليم والوحي السماوي من شأن في الحكم على قيم الأشياء والأعمال، والحكم على قيم الفعل تكبر أو تقل بدرجة ما يرتب عليه من ثواب أو عقاب، وأمر الله سبحانه وتعالى كل الناس بالامتثال لأوامر أنبيائهم، يقول الله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"v، فخطاب الله سبحانه وتعالى لعباده من خلال أنبيائه هو الفيصل في الحكم على الجيد والسيئ الحسن والقبيح المباح والمحرم.

لقد جاء كل دين من عند الله ليكون نظام حياة نافذ في الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي، لا ليبقى مجرد شعور عاطفي متمركز في الضمير، ولا حتى مجرد شعائر تعبدية أسيرة لدور العبادة، هكذا هي التوراة، يقول تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء"vi، وهكذا هو الإنجيل، يقول تعالى: "وقفّينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور و مصدّقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقينvii.

القيم الأخلاقية من منظور ديني

إن المجتمع الديني يرى قيمه الأخلاقية منطلقة من المصادر الدينية التي توارثها عبر مراجعه الأساسية، ومرجعياته الدينية سواء الممتدة عبر التاريخ أو المعاصرة له، فيشكل من تلك المصادر منظومة قيميّة متعددة الاتجاهات يحتكم إليها ويرى نفسه بمقدار التزامه بها، ومنظومة القيم كما يراها عبد اللطيف خليفة هي "مجموعة القيم المترابطة التي تنظم سلوك الفرد وتصرفاته، ويتم ذلك غالبا من دون وعي الفرد، وبتعبير آخر هي عبارة عن الترتيب الهرمي لمجموعة القيم التي يتبناها فرد أو أفراد المجتمع، ويحم سلوكه أو سلوكهم دون وعي"viii

فأخلاق الإنسان في نظر المجتمع الديني ببساطة إما أن تكون صالحة أو شريرة، وعلى أساس صلاحها من عدم يتحصّل نتيجة لها الثواب أو يكون العقاب، وربطت الديانات بين خوف الله والخلق الكريم ليكون طريق الجنة من خلالهما، وجاء الأنبياء عموما ليحققوا مكارم الأخلاق، وبذلك فلقد توثقت العلاقة بين القيمة الأخلاقية والمعتقد الديني لكون المعتقدات الدينية في الأساس توجيهية مباشرة، ولكون المعتقدات الدينية متمركزة في توضيح ما يتعلق بما هو حسن أو سيء، وما هو حقيقي أو مزيف، وما هو مرغوب أو غير مرغوب، وذلك لأن الإنسان الذي يحتكم في قناعاته لما هو حسن وقبيح لمصادره الدينية يجعل من التوجيهات التي يرجع إليها، وتمثل قناعاته منظومة قيميّة يراها كاملة وبالتالي يرى نفسه متجها إلى الكمال بها، و من ثم يحكم على مجتمعه من خلالها، فيقيم الآخرين من تلك المنطلقات، ويحاكم مجتمعه على أساسها، من ذلك تكمن أهمية دراسة القيم العامة بشكل تفصيلي لكل قيمة وبإطار شمولي يجمع كل تلك القيم بإطار مشترك لتكتمل الصورة في ذهن المتبني لمنظومة القيم، وبالتالي يصبح حكمه على نفسه بداية صائبا، وعلى المحيطين به ومن ثم على مجتمعه الصغير والكبير في هذا العالم، أي على الآخر الذي هو غيره، بشكل صائب أيضا.

لقد أظهرت تعاليم الإسلام ذلك في صورة واضحة وبينت ما يربط الحياة الدنيا بالآخرة, وما لهذا الارتباط من شأن في تقويم الأفعال والأعمال والحكم عليها، فالحسن والمباح والجيد ما وافق الشرع واستجوب الثواب والسيئ والقبيح والمحرم ما خالف الشرع وترتب عليه العقاب في الآخرة فأعمال الدنيا مقومة حسب نتيحتها في الآخرة وقيمة الأشياء من حيث ما يحصله الإنسان من حسن الأفعال أو قيمها.

وكذلك أظهرت الديانة المسيحية عمق الارتباط بين معتقد الإنسان ومنظومة القيم المتبناة بناء عليها، ويظهر ذلك كنتيجة في السلوك العملي، فالإنسان الذي تبنى قيمه الدينية وتمثلها بما بان على سلوكه وأعماله لا يمكن أن يكون إلا إنسانا خيرا معطاء كما أراده الله، يقول نبي الله عيسى عليه السلام: " هكذا كل شجرة جيّدة تصنع أثمارا جيده وأما الشجرة الرَدِيَّة فتصنع أثمارا رَدِيَّة لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا رَدِيَّة ولا شجرة رَدِيَّة أن تصنع أثمارا جيّدة"ix

إن الأخلاق الدينية لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية روحية أو جسمية، عقلية أو عاطفية، فردية أو جماعية إلا رسمت له المنهج الأمثل في السلوك الرفيع، فما فرقه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة وباسم العرف أو المجتمع قد ضمه القانون الأخلاقي الديني في تناسق وتكامل وزاد عليه، وتجب الإشارة هنا على أن القيم الدينية تنماز عن غيرها من القيم الفلسفية بتقديمها من خلال النموذج، والتطبيق العملي، فالأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه كانوا منتظمين ضمن السلوكيات المحكومة للقيم التي نادوا بها، وبالتالي فأتباع هذه الديانات لم يكونوا يتلقون توجيهات نظرية فقط، بقدر ما كانوا يرونها مطبقة بشكل كامل في أنبيائهم و بصورة كبيرة في صحابة وحواري هؤلاء الأنبياء.

والدارس للقيم الأخلاقية الدينية يجدها ضمن اتجاهين، الأول قيم كبرى عامة، تضم في معناها وتطبيقاتها الكثير من القيم الجزئية،

القيم الكبرى

أولا: كرامة الإنسان

أ - كيف يرى الله الإنسان؟

إن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرم بني آدم غاية التكريم وفضلهم على سائر المخلوقات وسخر لهم ما في الأرض جميعا وما في السموات وجعلهم الخلفاء في الأرض، نرى ذلك في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا..."x وكل ما بني الإنسان عليه من صورة ظاهرة ومضمون ملاحظ يدلل على صدق قوله عز وجل، فالإنسان من بين سائر المخلوقات من يملك الأدوات والأفكار التي مكنته من عمارة الأرض وسيادتها، وفي الآية إشارة واضحة بأن التكريم للإنسان بعموم لفظة، وبالتالي فالله عز وجل كرم بني آدم كلهم بمعزل عن لونهم أو عرقهم أو أنسابهم، ورزقهم من طيب رزقه وفضلهم على كثر مما خلق تفضيلا ملحوظا، وعليه فكل الأشكال التي يبدوا الإنسان عليها هي رائعة بذاتها يقول تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"xi، ويقول: " وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات"xii، وأقر له بالسيادة بقوله عز وجل: " وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمائ مسنون* فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"xiii.

وقال عيسى عليه السلام في إنجيل يوحنا:"الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه. إن كان الله قد تمجّد فيه فإن الله سيُجِدُّهُ في ذاته ويمجِّده سريعا"xiv

ب - النفس البشرية بديع صنع الله، حفظها ورعايتها

والمراد بها الروح وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين وفي الحفظ والرعاية، والله عز وجل يقدس الروح المخلوقة، في أي كائن حي، نرى ذلك في قول الرسول "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلم تطعمها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض"xv، فهذه الروح للحيوان تحرم أذيتها و تستحق كل الاهتمام بمعزل عن طبيعة المخلوق وجنسه، فلقد روي عنه صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر وملأ خفه وسقى الكلب فكفر الله له وغفر له، فقالوا يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرا، قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر"xvi، فإن كانت روح الحيوانات لها تلكم القداسة والدور الكبير في تقرير مصير العبد للجنة أو للنار فكيف بالروح البشرية.

وشرع الإسلام لإيجاد تلك الروح وتكوينها الزواج، للتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري من أطهر الطرق وأحسن الوسائل ولاستمرار النوع الإنساني السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنا وبقية أنواع النكاحات الفاسدة الباطلة التي كانت في الجاهليةxvii.

يعد حق الحياة أول الحقوق الأساسية وأهمها بين حقوق حفظ النفس فهو الحق الأول للإنسان، وبعده تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية الحقوق وعند انتهائه تنعدم الحقوق وحق الحياة هو حق الإنسان الظاهر ولكنه في الحقيقة منحه من الله تعالى الخالق البارئ وليس للإنسان فضل في إيجادها وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الديانات السماوية.

وقد اعترى هذا الحق الخلل والخطر في أحقاب التاريخ ثم جاءت المواثيق المعاصرة لتؤكد على حق الحياة فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك في مادته الثالثة التي تشير إلى أن" لكل فرد الحق والحرية وسلامة شخصه" ونصت أيضا وثيقة منظمة المؤتمر الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة الثانية: أ: حق الحياة مكفول لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ب: لا يجوز اللجوء إلى وسائل تفضي إلى فناء النوع البشري كليا أو جزئيا"xviii

ونص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في طهران على هذا الحق بصيغة إسلامية فقال:"الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان على أفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرع"xix

فحق الحياة في الإسلام حق مقدس ومحترم في نظر الشريعة الإسلامية ويجب حفظه ورعايته وأكد على عدم الاعتداء عليها، وأثنى تعالى على المتقين الذين يعفون بعد حوادث القتل ثم يحسنون، قال الله عز وجل:" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل"xx، وقال أيضا: "من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"xxi، وتشير النصوص القرآنية صراحة إلى أن قدسية النفس كائنة بذاتها بمعزل عن أي إضافة لها من جسد أو سلوك أو اعتقاد، فالمسلم وغير المسلم والرجل والمرأة والطفل والشيخ والغني والفقير والصحيح والسقيم كل أرواحهم وذواتهم مقدسة ومصانة.

وفي سبيل حماية النفس حرم الإسلام الانتحار لأنه اعتداء على النفس الإنسانية، يقول الله عز وجل:"ولا تقتلوا أنفسكم"xxii، ويقول رسول الله صلى الله علية وسلم: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن احتسى سمّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا"xxiii.

وبطبيعة الحال فقد شرع القصاص في النفس والأعضاء والجروح لحماية النفس من جهة، وإبقائها على أحسن صورة خلقها الله تعالى, ونص القران الكريم على الحكمة من القصاص وهي التنعم بالأمن والحياة الطيبة المستقرة، قال تعالى:"لكم في القصاص في حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون"xxiv

ولم تغفل الديانة الإسلامية الأحكام المساعدة والمؤدية لحفظ النفس، والحفاظ الكامل على الذات الإنسانية فشرع لبنائها ودوامها الرزق الحلال الطيب, فأباح الطيبات من المطعومات والثمار, كما أهتم برعاية الجسم رعاية كاملة، وأمر بالتحري عن الفوائد والطيبات والحذر والابتعاد عن المضار، ليبقى الجسم صنيعة الله باقية بأبهى هيئة وصورة.

ثانيا: التسامح

أ - موقف الإسلام من الديانات الأخرى

أهل الكتاب موحدون

كان الإسلام واضحا في تحديد موقفه من كل الديانات سواء الوثنية أو السماوية، أما الوثنية فقد جابهها بالإنكار والمقاومة وتسفيه المعتقدات ورفضها، ولكنه كان وديا وإيجابيا من الأديان السماوية المنادية بوحدانية الإله، ويعترف بدورها في الهداية والإصلاح، وذلك بالرغم من نقده لبعض المواقف والمفاهيم التي سادت بين معتنقيها في تلك المرحلة، وهناك آيات عديدة توضح طبيعة الحوار منها: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"xxv، ويعترف بالتوراة كتابا للأمم التي احتكمت إليه، ويؤكد أن القرآن مصدق له وهو باللغة العربية ليستكمل مسيرة التوحيد عبر التاريخ، يقول تعالى: "ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا"xxvi، ويؤكد الله عز وجل في معرض حديثة عن التغييرات الحاصلة لأتباع سيدنا موسى عليه السلام على أن القرآن قد نزل تصديقا لما سبقه، يقول تعالى: "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين"xxvii، وهو بذلك يقرر مواقع الالتقاء والتوافق ويعززها "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"xxviii.

من هذه الآيات تتضح النظرة الإيجابية من الأديان السماوية كاليهودية والمسيحية والتأكيد على إنصاف دورها والاعتراف به، أما قوله تعالى:" ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"xxix فالمقصود بالإسلام هو دين التوحيد مطلقا، دين إبراهيم كما يدل على ذلك سياق الآية، وقد أجمع المفسرون على ذلكxxx.

الحرية الدينية

لقد ضمن الإسلام حرية الاعتقاد للناس كافة، ومنع الإكراه على الدين، وقرر التسامح الديني مع سائر الأديان السماوية، مما لا يعرف التاريخ له مثيلا، ويمكن تبيان ذلك ضمن الاتجاهات التالية:

حرية الاعتقاد: إن الإسلام لا يلزم البالغ العاقل من غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وإذا اختار الدين الذي يريده يتحمل نتيجة هذا الاختيار لما ورد في قوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم"xxxi

وقال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين* وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون"xxxii، وقال تعالى: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء"xxxiii، فالهداية من الله تعالى، وما عمل الرسل والدعاة والعلماء من بعده إلا مجرد التبليغ والنصح والتذكير، قال تعالى: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر"xxxiv، وبالتالي فإن الإسلام يترك للإنسان حريته، واختياره في العقيدة، بالطبع مع بيان الدلائل والمعجزات الدافعة للإيمان، وتوضيح ما للموحدين والملتزمين بشرعه من حياة عامرة بالخير وآخرة في النعيم المقيم يقول تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا"xxxv.

وقد تثار هنا مسألة الردة عن الإسلام، وموقف الشرع منها، وقد رأى كثير من الفقهاء أن حكم القتل هو جزاؤها، وفي هذه المسألة تتشابك قضايا عدة تتجاوز حق الاختلاف والحرية، وذلك بكونها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته تعد خيانة للإسلام كمجتمع ودولة، ولذلك تجند أبو بكر لقتال المرتدين، والمرتدون بهذه الحالة كالمحاربين الذين يخرجون على نظام الدولة ويحاربونها، ويخلون بالأمن ويسلبون الأموال، وقد ربط الفقهاء بين أحكامهم وأحكام المحاربين للدولة الإسلامية، أما المرتد بالمعنى الفردي الضيق، أي المعتنق للإسلام ثم العادل عنه دون أن يعادي الإسلام، ودون أن يلحق الضرر بالمسلمين، فقد وردت فيه آيات كثيرة ليس قيها ما ينص على قتله، وإنما تكتفي بتأكيد غضب الله ولعنته عليهxxxvi، ومنها قوله تعالى: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"xxxvii،ولا خلاف أن من خرج عن دائرة الإنسان قد حبط عمله وهو خارج عنه بإرادته.

احترام بيوت العبادة:

وهذا فرع من حرية الاعتقاد واحترام العقيدة التي يختارها الإنسان، لذلك يترك الإسلام لغير المسلم من أتباع الديانات السماوية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها أو الاعتداء على القائمين فيها سواء في حالتي السلم والحرب، والوثائق التاريخية في ذلك كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الفتوحات وأهمها الوثيقة العمرية مع أهل (إيليا) وهي بيت المقدسxxxviii.

المعاملة المالية بين المسلمين وغيرهم:

قرر الشرع الإسلامي أن غير المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وبالتالي أجاز الإسلام التعامل الكامل مع غير المسلمين، وقرر لهم الحقوق والواجبات نفسها التي وضعت للمسلمين، وكفلها لجميع المواطنين في دار الإسلام، ولقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم الوعيد على من يعتدي على حقوق أهل الذمة من أتباع الديانات السماوية الأخرى في الحديث النبوي: " ألا من ظلم معاهدا وانتقصه, وكلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة وأشار رسول الله بإصبعه إلى صدره ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسول حرم الله عليه ريح الجنة وأن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا"xxxix.

المعاملة الإنسانية من المسلم لغير المسلمين:

يطلب الإسلام من المسلم إن يعامل الناس جميعا بالأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة، وحسن المشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وحسن المعاشرة ورعاية الجوار والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير بدءا من معاملة الأبوين المشركين إلى الإحسان للأسير إلى الإنفاق على الأقارب، وصلة الرحم والجيران وغير المسلمين، وكان رسول الله يزور أهل الكتاب، ويكرمهم ويحسن إليهم ويعود مرضاهم ويحذّر من أذيتهم، يقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم:" من آذى ذميا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله"xl، وسار على سنته ونهجه الصحابة والتابعون وباقي المسلمين طوال التاريخ.

وعرف التسامح الإسلامي في التاريخ بصورة مشرقة لم تعرف البشرية له مثيلا ولا نظيرا في القديم والحديث وشهادات المستشرقين والمؤرخين ألمنصفين تؤكد ذلك.

ب- التسامح ضمن الرؤية المسيحية

اهتم المسيح بتمثل قيم المحبة والتسامح في الإنسان، وهي قيم سعى لأحيائها في كل أتباعه، وعززها كقيم موجودة في أعماق الإنسان، ولا يكتسبها بواسطة التأثيرات الخارجية فقط، وإنما يحسها في داخله نابعة من محبته لله ومحبة الله له، فتكون حياة يستطيع الإنسان أن يعيشها بمحبة الله ومحبة الإنسان، يقول عيسى عليه السلام "وصيّة جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم بعضكم بعضا"xli، فالمحبة هي القوة التي تمكن الإنسانية من أن تتجاوب مع أعماق ضميرها، محبة الله تمكن مريديه من أن يفهموا قيمة الإنسان وبالتالي يعاملوه ضمن محور التسامح، ويكون ذلك حالما يمارس أفراد أو جماعات هذه المحبة الشاملة فيستطيعون من خلالها أن يقدروا قيمة الحياة، والعلاقة بين المحبة والتسامح واضحة، فالتسامح بين الإنسان والأخر هو تجاوب طبيعي لمن يعرف أن الله سامحه ورحمه، بل وتسامح الله ورحمته وغفرانه لعباده هو تجاوب طبيعي لتسامح الناس بعضهم لبعض، فسلوك الله هو قمة الكمال، وهو أيضاً المعيار الأخلاقي المُلزِم، يقول عيسى:" فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم الذي في السماء. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم"xlii، لذلك فالتسامح هو التزام على كل عبد محب لله، فيكون واجب عليه أن يطيع الله على نحو يتطابق مع مقياس أعماله.

يؤكد سيدنا عيسى على كمال وروعة أصحاب القلوب الطهورة المحبة والداعية للسلام، في قوله:"طوبي لأطهار القلوب فأنهم يشهدون لله، طوبي للساعين إلى السلام فإنهم إنشاء الله يدعون، طوبي للمضطهدين على البر فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذب من أجلي، افرحوا وابتهجوا أن من أجركم في السموات عظيم فهكذا اضطهدوا الأبناء من قبلكم"xliii، وهنا نلمح روعة التسامح التي نادى بها عيسى عليه السلام.

وهذه المحبة غير مقتصرة على مجتمع مغلق على ذاته، لأن الديانة المسيحية تدعو إلى المساواة بين جميع البشر، وتحث على كرامة الإنسان وتعلي فضل التعالي على الإساءات، فلقد أوصى المسيح تلاميذه بأن يعاملوا الناس بكل المحبة والتسامح، ليس فقط شركاءهم وإخوانهم بل وأعداءهم أيضا، قال عيسى عليه السلام: "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ. وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ. لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم. أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك. وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون. أليس العشارون أيضا يفعلون هكذا. فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ كَامِلٌ"xliv

ج- التعايش بين أتباع الديانات السماوية

لم تكن الديانات السماوية منفصلة عن بعضها البعض يوما، فكل نبي إنما جاء ليكمل مسيرة من سبقوه، يصوّب ويتم ما قد بدأه الله منذ بدء الخليقة وأرسل الأنبياء، يقول المسيح عليه السلام:" لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمّل"xlv، ويقول تعالى في القرآن: "ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا"xlvi.

غير أن الواقع السياسي المحيط ببدايات الدعوة الإسلامية في يثرب من تحالفات لبعض القبائل اليهودية مع المشركين اقتضت فرزا للتحالفات السياسية، يقول تعالى وذلك بعد اصطفاف بعد العشائر اليهودية في صف المشركين والكفار:"ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون* وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"xlvii، فالفصل هنا بين اليهودية والمسيحية لم يكن عقائديا بقدر ما كان انعاكاسا للموقف من الدعوة الإسلامية، من خلال طبيعة التحالفات الناشئة بين اليهود والكفار في تلكم البقعة والمرحلة.

وتوضيحا لهذه الفكرة نذكر بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"xlviii.

والتجربة التاريخية للإسلام مع اليهود والنصارى دللت على أن قضية التعايش بين المسلمين وأهل الكتاب هي قضية متجذرة في الواقعية، فاليهود والنصارى كانوا موجودين في المنطقة منذ نشأة الإسلام واستمر وانتشر حتى وقتنا الحاضر، وإن كانت قد حصلت مشكلات بين المسيحيين والمسلمين من جهة، واليهود والمسلمين من جهة أخرى فإنما هي عارضة وطارئة قد تحدث بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم واليهود أنفسهم، كما تحدث داخل كثير من المجتمعاتxlix.
غير أنه من المهم الإشارة أيضا إلى أن أي تعددية دينية أو سياسية في أي عالم متخلف لا بد أن تتحول إلى استغراق في الذات يؤدي على نفي الآخر، فيكون العنف هو الظاهرة المعبرة عن حركة التمدد خارج النطاق الطبيعي لها، وبذلك يمكن لعناصر الإثارة أن تخضع لأي حركة استغلال من الخارج، بالمستوى الذي يجعل من الإثارة امتدادا للتاريخ في الحاضر والمستقبل، الذي يجعل العنوان الكبير للحل هو الوعي الثقافي المنفتح على الوعي السياسيl.

والتعايش المقصود هنا يعني أن يحتفظ المسلم بخصوصيته الإسلامية كما يحتفظ المسيحي بخصوصيته ولكنهما يلتقيان على الأرض المشتركة وعلى الكلمة السوداء التي هي تعبير قرأني حي.

إنني اعتبر أن التجربة الإسلامية في مسألة التعايش من أغنى التجارب الإنسانية الناجحة فقد حكم الإسلام هذه المنطقة ومناطق كثيرة في العالم في الوقت الذي كان يوجد فيه مسيحيون ويهود، وقد لاحظنا إن المسيحيين واليهود عاشوا مع الإسلام حياة طبيعية يملكون فيها حرية انتمائهم، بحيث لم يتحرك الإسلام في عملية إلغاء لهذا الدين أو لذاك, ولم يتحرك في عملية ضغط مباشر على المسيحيين في أن يتركوا دينهم وأن على اليهود أن يتركوا دينهم مما يعني أن مسألة التعايش ليست من المسائل التي تخضع لجدل فكري نظري نبحث عن قواعده وشروطه وما إلى ذلك، فالإسلام يعترف بأهل الكتاب كأتباع دينين يمثلان تاريخ الدين الإسلامي وتمثل مقدساتها مقدسات الإسلام على مستوى الرمز من خلال الشخصيات المقدسة في الدين، أو على مستوى الكتاب في الكتابين اللذين هما كتابان لهذين الدينين، ولذلك فإنني أتصور أن مسألة التعايش المسيحي الإسلامي وهي من المسائل التي لا تمثل مشكلة فيما هو المعنى الاجتماعي الإسلامي والمسيحي، لاسيما إذا عرفنا أن القيم الإسلامية والمسيحية التي تمثل حركية الإسلام في الواقع الفردي والاجتماعي على مستوى الخطوط الأخلاقية تلتقي بأكثر الخطوط الأخلاقية المسيحية، وإذا كان المسلمون والمسيحيون يختلفون في فهمهم لله فإنهم لا يختلفون في وحدانيته وإذا دعا الإسلام أهل الكتاب إلى كلمة سواء فذكر الوحدانية كعنوان للكلمة السواء فهذا يعني أن الإسلام يعترف بأن المسيحيين موحِّدون وأن اليهود موحِّدونli.

ثالثا: العدل

أ- المفهوم العام

يمكن تعريف العدل ببساطة على أنه عكس الظلم، فلإصدار حكم عادل, ينبغي استعادة حق قد سلب بالقوة بواسطة معتد, وإعادته إلى صاحبه الأصلي، وبصفة عامة فإن ما يقوم به القاضي أو الحاكم... الخ من تصرف بغرض الحفاظ على حقوق الناس, إنما يعتبر ذلك عملا من أعمال العدالة, وتسمى في هذه الحالة بالعدالة التصحيحية, لأن الحاكم قد قوّم الظلم وأعاد الحق إلى نصابه كما ينبغي شرعا أو عرفا أو أخلاقا.

وعندما يطلب شخص ما, شيئا يستحقه شرعا أو يجوز له الحصول عليه إباحة فإن طلبه في هذه الحالة يعتبر مطلبا عادلا, وإلا كان معتديا يسعى إلى الظلم.

ولكن إذا تنازل الشخص عن حق له إلى شخص آخر, فإن فعله يعتبر ضربا من الإحسان (تصرفا أخلاقيا)lii.

يعرّف بعض الفلاسفة العدل على أنه فضيلة من الفضائل التي يجب أن يتحلى بها الإنسان. في هذا الصدد, يشير الباحث الإسلامي محمد بن كرم بن منظور إلى ما قاله الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو بأن الإنصاف (العدل الطبيعي) يعتبر مرتبة عليا من مراتب العدل, أي يحتل منزلة أعلى من منزلة العدل القانونيliii إلا أنّ أرسطو يرى أن للعدالة وجهين هما: الشرعية والمساواة, وبذا فان أي شخص يخالف القانون أو يأخذ ما هو أكثر مما يستحق فإنما يعتبر من وجهة نظر أرسطو شخصا غير عادل، وبتالي فإن العدل يعني كل ما هو قانوني, أو متكافئ أو منصف.

كما يرى أرسطو أن مفهوم الشرعية أوسع وأشمل من مفهوم المساواة إذ" ليس كل ما هو غير مشروع غير عادل, بالرغم من أن كل ما ليس عادلا فهو غير مشروع" وبناء عليه فإن العدل بمفهوم الشرعية هو الفضيلة الكاملة، أو بمعنى آخر إن العدل بالمفهوم السالف الذكر هو الفضيلة الاجتماعية.

ويضيف أرسطو أن "جميع الأشياء المشروعة عادلة من ناحية واحدة للكلمة، إذ أن المشرّعين يقررون ما هو مشروع أو قانوني, ونحن نطلق على مجموعة قرارات المشرعين, قواعد العدالة.

وفي رأي أرسطو "أن العدالة التوزيعية تمارس أثناء توزيع المراتب والثورة والموارد الاجتماعية الأخرى القابلة للتوزيع, التي يمكن تخصيصها بين أفراد المجتمع بالتساوي أو دون التساوي بواسطة المشرّع.

أما العدالة التصحيحية فهي التي تؤتي مبدأًًًًًًًً تصحيحياً في المعاملات الخاصة، "المعاملات الطوعية والمعاملات غير الطوعية، والعدالة التصحيحية، إنما تمارس بواسطة القاضي في تسوية النزاعات وإنزال العقوبات على المخالفين للقانونliv.
قيمة العدل في مضمون الديانات السماوية

الإسلام

يرى الإسلام أن العدل بالمفهوم المطلق هو العدل الإلهي الذي أرساه الله سبحانه وتعالى من خلال أنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، والعدل هو أحد أسماء الله الحسنى ويعني أن لله الكمال المطلق، وبالتالي فإن جميع أفعال الله تعالى منزهة كاملة، وأن حكمه عادل.

ويرتكز منهج الإسلام في قيمة العدل حول مفهوم المساواة بين البشر، فهو لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو العقيدة حال تحاكمهم وطلبهم للعدل، فكل الناس من آدم وآدم من تراب، وبذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة قال الله عز وجل: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكّرون"lv، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالأنصاف ولو مع العداوة وإخلاف الدين, قال الله تعالى: "يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون"lvi، ويقول أيضا في سياق ضرورة العدل ولو كان أحد المتخاصمين غنيا وصاحب جاه :" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوُ ا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا"lvii

فالعدل الإسلامي كائن في حال كائن في حال كان المتخاصمان مسلمين كلاهما، أو كان أحدهما مسلم، أو حتى لم يكن بينهم أحد من المسلمين في حال تحاكمهم للإسلام، يقول الله تعالى:" وما تفرَّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمّى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب* فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير"lviii

وهذا الأمر بالعدل هو أساس حكم كل الأنبياء صلوات الله عليهم وسلم يقول الله عز وجل في خطاب وجهه لداوود عليه السلام: "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"lix

وتوعّد الله عز وجل الظالمين بأشد العقاب فقال:" ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع"lx "، وقال عز وجل: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"lxi، وتكون قمة العذاب والتنكيل إن استمرئ الظلم وكان عاما طاما في أهل بلد يقول الله تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد"lxii، وحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الظلم والوقع به: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"lxiii، ومثّل صلى الله عليه وسلم بالاستيلاء على أموال الآخرين كأحد أنواع الظلم مبينا عاقبته في الآخره فقال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين"lxiv، وبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن عاقبته الظالم قد لا تكون عاجلة ولكنها آجلة تمحق ما كسب ولو بعد حين يقول صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"lxv، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكمال والعدل هما مفهومان مطلقان لله ولا يجوز لنا أن نسلك ما يخالفهما ألا وهو الظلم، وذلك في الحديث الذي يرويه عن الله تعالى: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"lxvi، وأشاد بالعبد المظلوم حال صبره على مظلمته في الحديث الذي يرويه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقه، ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر"lxvii

المسيحية

حال البحث في مفهوم العدل في الديانة المسيحية نجد أنه يدور في ذات المحور الخاص بالإسلام، فأولا نرى الله هو العادل في ذاته، وفي حكمه وصنيعه وشريعته وتوجيهه، ورد في المزاميرً:""بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ. عدلا أمرت بشهادتك وحقا إلى الغاية... عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى الدَّهْرِ وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ... عادلة شهادتك إلى الدهر فهمني فأحيا"lxviii.

إن كل أحكام الله عادلة ومستقيمة، لأن الله متسام على الشر، وهو دائماً يحكم وفقاً لمقياس العدل والثبات عليه، نرى ذلك في محاججة أليهو في سفر أيوب: "لأجل ذلك اسمعوا لي يا ذوي الألباب. حاشا لله مِنَ الشَّرِّ وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ. لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ. فَحَقّاً إِنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءاً وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ"lxix

يوضح الكتاب المقدس فكرة أن صفات الله هي المعيار الأسمى للعدل الأخلاقي المطلق عن طريق تشبيهه بالنور، ولا يأتيه الظلم بتاتا، فقد علّم الرسول يوحنا: "إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ. وَلَكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ"lxx

والعدل في المفهوم المسيحي ينحو نحو المحاسبة بشدة على التصرفات العدائية الأولية قبل أن تتحول إلى سلوك عدائي إجرامي، يقول النبي عيسى عليه السلام: "سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستجوب الحكم. ومن قال لأخيه رفا يكون مستجوب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم. فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك. وحينئذ تال وقدّم قربانك. كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق. لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير"lxxi، فسيدنا عيسى يوجه بصفته نبي رعيته إلى ضرورة أن تكون أعمالهم بعيدة كل البعد عن الظلم حتى يشير إلى المراتب الدنيا من الظلم وهي الغضب، فليس العدل في قصاص القاتل فقط بل يكون ذلك حال الغضب أو الشتم وهو ما يمكن إيجازه بتجريم السلوكيات الأخلاقية الخاطئة والمحاسبة عليها قبل أن تتحول إلى تصرفات جنائية.

فالمسيح عليه السلام يقر بنظام التقاضي غير أنه يقدم نظام العدل التصالحي القائم على الاعتراف بالحقوق وأدائها بالدافع الشخصي.

ويقول المسيح عليه السلام أيضا: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن أما أنا أقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده"lxxii

وهذه الرؤية حول العدل ضمن بوتقة المسامحة، والتعالي عن مواجهة الشر بالشر، من خلال إيراد مثال عرض الخد الآخر بعد لطم الأول فهي قمة العفو عن الناس، وأما بذل الرداء بعد التحاكم على الثوب فهي قمة الإخلاص في الإيمان، وهي مرتبة الإحسان التي نعرفها في قوله تعالى: "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، والصبر على الأذى في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده بها عزا"، وكما تبين فالمسألة لا تقف عند حد العدل بقدر ما تتجه الرؤيا السماوية إلى فضل الإحسان وهي المرتبة التي تتجاوز مفهوم العدل البسيط، يقول تعالى: «إنَّ اللّه يَأمُرُ بِالعَدلِ والإحسان وَإيتَاءِ ذي القُربى وَينَهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمنُكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلّكُم تَذَكَّرُونَ»lxxiii.

رابعا: البذل والعطاء ومكافحة الفقر

أكدت الديانات السماوية على التكاتف والتضامن بين كل فئات المجتمع، الغنية والفقيرة، سعيا لجعل المجتمع إطارا متجانسا تتوافق شرائحه الفقيرة والغنية على إعماره، فالمال بداية هو رزق الله، قسمه للغني بواسع فضله عز وجل، ونهاه عن الإسراف والتبذير في هذا المال، لما للتبذير من نشر للسلوكيات الخاطئة وإفساد للذائقة الإنسانية وبذرة تفريق بين طبقات المجتمع، كل ذلك حين يقرن المبذر بالشيطان رمز الكفر بالنعمة والجحود بها، يقول تعالى: "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا* إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا"، ويوجه الأغنياء إلى بذل المال للفئات المحتاجة بدلا من تبذيره وذلك ابتغاءً لوجه الله المعطي والرازق أصلا للمال، يقول تعالى: "أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون* فئات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون"lxxiv، ويقول أيضا: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير"lxxv، ويقول أيضا: "إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"lxxvi
وكان المسلون بداية الدعوة الإسلامية كذلك يدفعون المال الذي يزيد عن حاجتهم حسب ما يرونlxxvii، يقول الله تعالى:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"lxxviii، أي أنفقوا على الفقراء ما زاد على حاجتكم، ونسخت هذه الآية بفرض الزكاةlxxix.
ويؤكد سيدنا عيسى عليه السلام على ضرورة التبرع والبذل بما زاد على حاجة الإنسان، لتكون ممارسة محمودة عند أتباعه، حتى أنهم حال دعائهم لا يطلبون سوى ما يقيتهم، يقول عيسى عليه السلام في دعاء له: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم"lxxx.
وقد أكد سيدنا عيسى عليه السلام أيضا على نصرة المحتاج والمضطهدين والداعيين إلى السلام, والوفاء والتسامح وغيرها من القيم الإنسانية السامية حيث تضمن ذلك الفصل عظة يسوع الكبرى:"فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس, فدنا منه تلاميذه فبدأ يعضهم فقال: طوبي للفقراء فإن لهم ملكوت السموات, طوبي للودعاء فإنهم يرثون الأرض، طوبي للمحزونين فإنهم يعزون, طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"lxxxi.

وحدد الإسلام المحتاجين لهذه الصدقات فيما بينته آية كريمة بالتفصيل، يقول تعالى:"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة آتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا..."lxxxii، فالمحتاجون للصدقات هم ذوي القربى والمقصود الأقرباء المعوزون، واليتامى الذين لم يترك لهم آباؤهم ما يعتاشون منه، والمساكين وهم من لا تكفيهم أقواتهم وأرزاقهم، وابن السبيل وهو المسافر الذي تقطعت به الطريق، والكل يعلم ما لظروف الحضارة السابقة من بعد عن الأهل والعشيرة، والتعرض للصوص خلال السفر، والسائلين أي الذين يسألون الناس الصدقة سواء بسبب الفقر أو لأي سبب آخر، والرقاب أي العبيد وذلك لأجل إعتاقهم وتحصيلهم لحريتهم.

والمتمعن في الآية السابقة يلحظ أن هذه الأموال المتحصلة لهذه الفئات هي أموال صدقة طوعية، وهي غير الزكاة بدليل أن الزكاة مذكورة أيضا بنص ملحق للإيمان وبذل المال والصلاة ضمن الآية كحالات بر متنوعة، وكلها أساسية في الإسلام، والزكاة الواجبة كفرض على القادر، وكركن إسلامي من الأركان الخمسة كالصلاة والصيام الخ، وتحسب بنسبة محددة تبعا لنوع المال، وتوزع على فئات معلومة في قوله تعالى:" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم"lxxxiii، فهذه الفئات منها ما هو مشترك مع الصدقة وسبق ذكرهم وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب، أما الجديدة منها فهم العاملين عليها أي الذين يتولون جمعها وإنفاقها على مستحقيها، مقابل جهدهم وعملهم، والمؤلفة قلوبهم وهم من يرجى دخولهم في الإسلام، والغارمين وهم من كثرة ديونهم عليهم حتى عجزوا عن السداد، وفي سبيل الله أي في مواطن الجهاد لاسيما فقراء المجاهدين الذين يلزم تجهيزهم ورعاية من خلفهم، وكما نلحظ فالزكاة أقرب ما تكون لموارد الدولة تنفقها في صالح المجتمع ككل، حتى تسيّر أمورها الهامة التي تحفظ كينونتها، والزكاة التي يدفعها المسلمون للدولة تتوازى مع الجزية التي دفعها أهل الكتاب، فالجزية تدفع للدولة مقابل الخدمات المكتسبة من حماية وأمن...

رهبت الديانات السماوية من كنز المال وشح الأنفس، قال تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، وأبان للبخلاء الذين يضنون على الناس بأموالهم بأن فعلهم هو نذير شؤم عليهم وجزاؤه في الآخرة عظيم، يقول تعالى: "لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، فهذا المال هو مستبقى عند الغني ليقضي حوائجه به دون أن ينسى الفقير، والذي من خلاله يزكي ويطهر ونفسه وماله بما يؤدي منه يقول تعالى:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"، ويحذر سيدنا عيسى أيضا من كنز المال، ويوجه رعيته إلى تخزين العمل الصالح بدل المال الذي يتلف، يقول:" لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يُفسِدُ السوس والصّدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا كنوزا في السماء"lxxxiv

وهذه الصدقات المستوجبة للفقراء والمساكين لها آدابها في الديانات السماوية، وأول هذه الآداب أن لا تكون جهريَّة مرائية، يقول عيسى عليه السلام:" احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدّام الناس لكي ينظروكم. وإلا فليس أجر عند أبيكم الذي في السماوات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع والأزقة لكي يمجّدوا من الناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية"lxxxv.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى