الأحد ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

استدعاء التراث الأدبي - قسم ٢

في تجربة فوزي عيسى الشعرية

تحاول هذه الدراسة الكشف عن علاقة الشاعر «فوزي عيسى»"بالتراث(1)، حيث تناولت أهم المصادر التراثية التي استقى منها، وتعامل معها في شعره، وهو التراث الأدبي، وذلك من خلال الوقوف عند المحاور الآتية: تضمين النصوص الأدبية، واستدعاء الشخصيات الأدبية، والمعجم التراثي.

وقد توصلت الدراسة إلى أن علاقة الشاعر «فوزي عيسى» بالتراث كانت علاقة وثيقة، فهو ينظر إلى هذا التراث بصفته مصدر إلهام وإيحاء هام، لا غنى للشاعر عنه، وأن هذه العلاقة لا تقوم على المحاكاة أو إعادة إنتاج التراث كما هو، بل تقوم على التفاعل العميق مع عناصره ومعطياته؛ قصد تطويرها، واستغلال طاقاتها وإمكاناتها الفنية؛ للتعبير عن التجربة الشعرية المعاصرة، وإيصال أبعادها النفسية والشعورية إلى المتلقي.

تناولت الدراسة في الجز الأول منها المحور الأول الذي دار حول توظيف النصوص الأدبية، وستتناول في الجزء الثاني المحور الثاني الذي يتناول توظيف الشخصيات التراثية، وكذلك المحور الثالث الذي جاء تحت عنوان: توظيف المعجم الشعري.

ثانياً - توظيف الشخصيات التراثية:

يعد توظيف الشخصيات والرموز التراثية سمة بارزة في شعر الشاعر فوزي عيسى، وهي تشير إشارة جلية إلى عميق قراءته للتراث، وقدرته على استغلال عناصره ومعطياته التي من شأنها أن تمنح القصيدة فضاء شعرياً واسعاً غنياً بالإشارات والدلالات.

ويقصد بتوظيف الشخصية التراثية " استخدامها لحمل بعدٍ من أبعاد تجربة الشاعر المعاصر، أي أنها تصبح وسيلة تعبيرٍ وإيحاء في يد الشاعر يعبر من خلالها، أو(يعبر بها) عن رؤياه المعاصرة "(2)، فضلاً عن أن استدعاء الشاعر المعاصر للشخصيات التراثية المحملة ببعديها: التاريخي والفكري يهدف إلى أن يؤدي دوراً محدداً في إنتاج الشاعرية، سواء أكانت الشخصية تتشابه في موقفها مع الموقف الحاضر، أم كانت بينهما علاقة ندية. فمن علاقات التشابه بين الشخصية التراثية وشخصيات هذا العصر، تتضح الصورة المراد رسمها.
ولما كان من الطبيعي أن يعد الموروث الأدبي من أكثر المصادر التراثية التصاقاً بنفوس الشعراء وعواطفهم، فإن من الطبيعي كذلك أن تعد شخصيات الشعراء من أكثر المصادر التي امتاح منها الشعراء شخصياتهم التراثية؛ " لأنها هي التي عانت التجربة الشعرية، ومارست التعبير عنها، وكانت هي ضمير عصرها وصوته، الأمر الذي أكسبها قدرة خاصة على التعبير عن تجربة الشاعر في كل عصر" (3).

وقد جاء توظيف الشخصيات التراثية الأدبية عند الشاعر فوزي عيسى على صورتين هما: الصورة الشعرية الجزئية والصورة الكلية. وسيتم تناولهما في الصفحات الآتية:

أً ـ الصور الجزئية

ويقصد بهذا النمط من الاستخدام توظيف الشخصية التراثية؛ لتكون صورة جزئية أو عنصراً في الصورة الشعرية في القصيدة؛ ليعبر بها الشاعر عن أبعاد رؤيته المعاصرة.
ففي قصيدته " زفرة العربي الأخيرة " استثمر الشاعر الإسقاط التاريخي باللجوء إلى الماضي ليصور الواقع المعاصر ومرارته، فاستدعي شخصية الخنساء التراثية التي ارتبط اسمها بالحزن والتوجع في تراثنا الشعري في إشارة سريعة إلى هذه الشخصية، ذلك أن استدعاءه لشخصية الخنساء جاء بصفتها محوراً مساعداً لشخصية أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة التي تقع في بؤرة اهتمام النص، يقول على لسان أبي عبد الله الصغير(4):

تقول أمي .. واحتي وموطني
وفي عيونها أستحضر الخنساءْ
"ابكِ كما بكت من قبلك النساءْ
أعطيتٌ للغازي مفاتيح المدينة العريقهْ.

استثمر الشاعر هنا شخصية الخنساء؛ للتعبير عن الجانب الباكي الحزين من تجربته الشعرية، وهو لم يستدعها؛ لتبوح بحزنها ولوعتها على فقد أخويها صخراً ومعاوية، وإنما ليسقط عليها دلالات سياسية معاصرة. فالخنساء في رؤيته ترمز إلى واقع الأمة العربية التي تتكاثف عليها المحن وتتوالى عليها الأحزان والهزائم، وتتساقط مدنها التراثية واحدة تلو الأخرى مثل: القدس وبغداد في أيدي الغزاة الطامعين، كما سقطت قبلهما مدينة غرناطة .

وقد كثف الشاعر الدلالة حين مزج شخصية الخنساء بشخصيتين تاريخيتين هما: شخصية الأمير أبي عبد الله الصغير، وشخصية أمه عائشة، حيث استدعى مشهداً من أكثر مشاهد التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس إيلاماً، إنه مشهد تسليم أبي عبد الله مفاتيح مدينة غرناطة سنة 898 هجرية إلى " فرديناند" ملك الفرنجة، وقد هطلت عيناه بالدموع؛ لطرده ذليلاً من مُلك لم يحافظ عليه، فقالت له أمه قولتها الشهيرة التي تناقلتها جميع التواريخ: " أجل عليك أن تبكي بكاء النساء على ما عجزت أن تدافع عنه دفاع الرجال". وفي رواية أخرى قالت له (5):

ابكِ مثل النساء ملكا مُضَاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال!

وفي قصيدة أخري ينقلنا الشاعر إلى قضية الحب والعشق، وما آلت إليه في زمننا المعاصر، أراد من خلالها أن يولد نوعا من الإحساس بالمفارقة بين لونين من الحب ، الحب الغريب الزائف ، والحب الصادق الصافي، مستلهماً في ذلك التراث العربي الأصيل، يستمد منه العون والسند ، فيستدعي شخصيتين تراثيتين هما شخصية عنترة وشخصية مجنون ليلي اللتين تمثلان رمزاً للحب الوفيٍ الصادق ؛ ليقابل بينهما وبين الحب الضائع الغريب في هذا الزمان.
يقول الشاعر: في قصيدة بعنوان "الحب والرماد" وقد استدعي فيها شخصية عنترة عبر ذكر اسمه، ومن خلال أقواله، حيث يقول في قصيدة" الحب والرماد" (6):

بالأمس يا رفاَقْ
قلَّبتُ في دفاتر العشاقْ
عشاق عهدنا القديم
قرأت قولَ عنترة
"وددت تقبيل السيوف
في الوغى لأنها
تبدو كمثل ثغرك الوضاح الضحوك"

ففي هذه الأسطر تضمين لبيت عنترة الذي يخاطب فيه محبوبته عبلة التي اخلص لها الحب وكان وفيا لهذا الحب يقول في بيت مشهور له مخاطبا فيه محبوبته (7):

فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كثغر بارقك المتبسم

استدعي الشاعر شخصية عنترة وهي شخصية متعددة الجوانب، بيد أنه وظف من ملامحها ما يتماهى مع طبيعة التجربة يريد التعبير عنها من خلال هذه الشخصية.

وعلى الرغم من أن الشاعر حاول أن يجري تغييراً في صياغةً هذا البيت؛ قصد إخضاعه لطبيعة أسلوب الشعري، فإن تحويره جاء طفيفاً وشكلياً؛ الأمر الذي أضعف من القيمة الإيجابية لبيته الشعري، بدلا من يدعم الدلالة، ويثري مضمون النص لديه.

أما الشخصية التراثية الثانية التي استثمرها الشاعر فهي شخصية قيس بن الملوح " مجنون ليلي " الذي أصيب بالجنون من شدة تعلقه بمحبوبته ليلي، يقول (8):

قرأت شعر العاشق المجنون
أيقنت أنه مجرب حكيم
وإننا نحن ذوو الجنون
لأننا نعيش كالنعام
نخفي رؤوسنا.. في ظاهر الرمال

يستدعي الشاعر في هذه الأسطر شخصية مجنون ليلي؛ ليسقط عليها بعداً من أبعاد تجربته الشعرية الخاصة. فهو يري في تجربة حب هذا الشاعر صورة صادقة للحب الحقيقي البريء المتزن، بينما يري في تجربة الحب في الزمن المعاصر تجربة حب كاذب منافق المجنون، وبذلك أثرى مضمون التجربة وعمق دلالاتها. فهو يعيد تشكيل الدلالة بما يتناسب مع خصوصية تجربته يستثمر تجربة النص المضمن وأحاسيسه لخدمة ما يريد البوح به.

ومن الشخصيات التي تنتمي إلى الموروث الأدبي في بلاد الأندلس والتي استدعاها الشاعر فوزي عيسي في شعره شخصية الشاعرة ولادة بنت المستكفي، وهي شخصية متعددة الملامح، بيد أنه استغل من ملامحها ما يتفق وطبيعة تجربته التي يريد أن يعبر عنها بواسطتها، وهو ملمح حياة اللهو والعبث ومجالس الأنس التي عاشتها ولادة في أحد قصور ملوك الأندلس.
وقد حاول الشاعر أن يخلع على الملامح التراثية لهذه الشخصية الأبعاد المعاصرة لرؤيته الشعرية، بقصد نقد الواقع نقداً يبينا واضحاً، ضياع الأندلس وانفراط عقدها في رؤيته الذاتية الجمعية لم يكن سوى ثمرة من ثمرات حياة اللهو والعبث التي انغمس فيها ملوك وأمراء الأندلس، كما هو الشأن في ضياع فلسطين، يقول الشاعر في قصيدته " زفرة العربي الأخيرة "(9):

ولادة في قصرها تغازل العشاق
تخط فوق ثوبها المزركش الطويل:
" خلقت للجمال والعلا
والفن والدلال والهوى النبيل "
وقينة .. تشنف الآذانْ
بصوتها الجميل ..
( يضحكن عن جُمان
يسفرن عن بدور
إن ضقن بالزمان
يحُفظن في الصدور )

لقد نقل الشاعر في هذه الأسطر صورة من صور حياة الأندلس اللاهية حيث مجالس الأنس والطرب، وقد اعتمد في رسم ملامح هذه الصورة، وتظليل جوانبها الفنية على الإشارات والتلميحات التي زادت من قدرتها على الإيحاء بأبعاد رؤيته الخاصة، وعمقت من أثرها في النفوس .

فقوله: " ولادة في قصرها تغازل العشاق"

إشارة عابرة إلى علاقة الحب والعشق التي ربطتها بالشاعر الأندلسي العاشق ابن زيدون الذي هام بولادة حباً، وخلد اسمها في غير قصيدة من قصائده الشعرية. وقوله:
تخط فوق ثوبها المزركش الطويل:

" خلقت للجمـــال والعـلا
والفن والدلال والهوى النبيل "

إشارة إلى ما روي عن أن ولادة كانت قد كتبت من شعرها على أحد عاتقي ثوبها مطرزاً بالذهب قولها (10):

أنا والله أصلح للمـــعالي

وأمشي مشيتي وأتيه فيها

وفي قوله: "وقينة تشنف الآذان بصوتها الجميل"

إشارة إلى أنه كان لولادة مجلس أدبي تشدو فيه الجواري المغنيات أشعار الحب والهوى والعشق، من مثل موشح الأعمى التطيلي التي يقول في مطلعها (11):

ضاحكٌ عن جُمانْ سافـرٌ عن بدْرِ
ضاق عنه الزمانْ وحَواه صـدرِي

اقتبس الشاعر فوزي عيسى مطلع موشح الأعمى التطيلي الذي ذاع صيتها عند المنشدين من أهل الأندلس والتي تعد من أعذب ما تغني به من موشحات في مجالسهم، وقد أجرى على مطلع الموشح المبني على مجزوء بحر الرمل تغييرا طفيفا؛ ليتوافق مع إيقاع قصيدته المبنية على بحر الرجز.

ب - الصورة الكلية:
ـ هو النمط الثاني من أنماط توظيف الشخصية الأدبية ورموزها التراثية، وهي أن تستغرق الشخصية الكلية القصيدة من أولها إلى آخرها، حيث يسقط الشاعر على ملامحها التراثية كل أبعاد تجربته المعاصرة (12).

وقد جاء هذا النمط من استدعاء الشخصيات عند الشاعر في أربع قصائد هي: قصيدتان وردتا في ديوان لدي أقوال أخرى " هما: قصيدة " أقوال أخرى للحلاج" وقصيدة "تداعيات ديك الجن" وقصيدتان وردتا في ديوان" لغة بلون الماء " وهما قصيدة "محاكمة ابن رشد". وقصيدة " زفرة العربي الأخيرة " وقد اختار الباحث دراسة شخصية الشاعر " ديك الجن "؛ لأنها أقرب تلك الشخصيات إلى الموروث الأدبي موضوع هذا البحث.

وفي قصيدة " تداعيات ديك الجن" يلجأ الشاعر إلى إحدى الأساليب التي تمكنه من الإفادة من التراث ألا وهو القناع بوصفه يمثل مرحلة متطورة من أساليب التعامل مع النص التـــراثي.
وحقيقة أسلوب القناع تتمثل في أنه " رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليضفي على صورته خبرة موضوعية نسبة محايدة تأتي به عن التدفق المباشر للذات"(13).

وغالبا ما يكون القناع شخصية تاريخية يختبئ الشاعر وراءها؛ ليعبر عن موقف يريده وينطق من خلاله، كما يعطيه إمكانات عديدة وآفاقا أرحب منطلقا من التوافق بين تجربة الشاعر ورؤيته، ومواقفه الفكرية مع رؤى الشخصية التي يختارها بأبعادها الإنسانية (14).

وهذا ما وجده الباحث في هذه القصيدة عندما اختار الشاعر شخصية ديك الجن (15) قناعا له للبوح بتجربته العاطفية الخاصة بعد أن بعثه؛ ليصور قمة إحساس الإنسان العربي المعاصر بالضياع والحزن والغربة، وقد بنى الشاعر قصيدته على نمط المقاطع والتي تكونت من ستة مقاطع ، يقول في المقطع الأول منها، بعد أن يتدخل الشاعر ليمهد في السطر الأول فقط للشخصية لتتحدث عن نفسها (16):

صاح ديكُ الجن في جمعِ العشائر:
أنتم الأولى بطعناتِ الخناجرْ
لم تكن ليلايَ يوماً فاجرهْ
لم تخُني مع فاجرْ
إنني أقرع سنّي.. نَدَما
إنني أبكي على ليلاي.. دَمَا
ليتني كنــت ترابا.. عَدَما

تشف هذه الأسطر عن موقف ديك الجن من مجتمعه الذي يشي بأنه ضحية لتقاليد المجتمع الظالمة، وأن المجتمع / القبيلة هو المسئول عن تحويله إلى قاتل، وأن يصبح أباً رمزياً لجميع الشعراء القتلة الذين جاءوا بعده، أما الوشاة رمز انحراف القيم وفسادهاـ فهم وحدهم ـ الذين يستحقون العقاب لا محبوبته.

يحاول الشاعر في هذا المقطع أن يسقط على الشخصية التراثية الأبعاد النفسية لتجربته المعاصرة التي تتمثل في الإحساس بالحزن والغربة والوحشة لضياع الحب في زمن القهر والسأم ، ورفضه لكل القيم السالبة في المجتمع حيث يقول (17):

صحبتني ونحن تائهان في مدائن الدخان والدمى
توحشت لحاظنا
وأنهك الطريق رحلنا
وليس ثم حولنا سوي السفائن المحطمهْ
ولافتات باهتات .. مظلمهْ
وثلة من الجنود والعسس
ووحشة القبور والظلام والسكون

وفي هذه القصيدة يعمد الشاعر عند استدعائه شخصية " ديك الجن " إلى تقنية حديثة في بناء قصيدته الشعرية الجديدة تتمثل في تقنية" تعدد الأصوات "؛ لإضفاء لون من الدرامية على تجربته الشعرية، فضلاً عن قدرتها على " تجسيد الأبعاد النفسية والشعورية المختلفة لرؤيته الشعورية في صورة أشخاص تتصارع وتتحاور، ومن خلال تصارعها ينمو بناء القصيدة وتبرز دور أهميتها" (18).

ففي المقطع الثالث يستدعي الشاعر ثلاثة أصوات لشعراء قدامي دون أن يذكر أسماءهم، معتمداً في ذلك على الخلفية الثقافية للمتلقي، يقول الشاعر(19):

صوت أول(20):
أضاعوني وأي فتى أضــــاعوا
ليـــــوم كريهة وسداد ثغر
صوت ثانٍ ( 21 ):
مفاعليــن مفاعليـــن فعولن
حديث خرافة يا أم عمــــرو
صوت ثالث: ( 22 ):
أرى تحت الرماد وميــــض نارٍ
ويوشـك أن يكون له ضــــرامُ

يدور الصراع في هذا المقطع بين طرفين أساسين: يتمثل الطرف الأول في الشاعر ديك الجن الذي يرى أن عشيرته هي سبب مأساته وضياعه، ويتمثل الطرف الثاني في عشيرة الشاعر التي تري أن اتهام ديك الجن لها أمر باطل لا مجال لتصديقه.

أما الصوت الثالث: فهو صوت محايد، يتمتع برأي صائب، ونظرة ثاقبة للأمور، ويدرك أن نتيجة هذا الصراع بين الطرفين ستفضي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها؛ الأمر الذي يؤدي إلى اشتعال نار الكراهية بينهما.

ويبدو أن تعدد الأصوات في هذا المقطع والذي انسجم وتشابك مع الرموز التراثية المتعددة التي استزرعها في نصه الشعري، والجملة الحالية والاستفهام وتنوع الضمائر ما بين ضمير الغائب والمخاطب، فضلاً عن تآزر هذه الإشارات التراثية والرموز جميعها مع إيقاع بحر الوافر ذي النغمات القوية المتدفقة، يعبر عن أبعاد فكرية وشعورية متصارعة من أبعاد رؤية الشاعر أكثر من أن يعبر عن أحداث درامية، تتطور وتنمو، " أي أن هذه الشخصيات المتحاورة المتصارعة هي بمثابة رموز لأفكار الشاعر وأحاسيسه"(23)، والنزعة الحوارية في هذه القصيدة تجذب انتباه الشاعر، وتستثير شاعريته وتدل على الحيوية والثورة والاحتجاج وديمقراطية الحوار وبوادر من النزعة الدرامية(24).

وفي المقطع الرابع يصور الشاعر معاناة ديك الجن النفسية لإقدامه على قتل محبوبته البريئة، وما تولد في نفسه من مشاعر الأسى والحزن والندم. والشاعر فوزي عيسى، وهو يصور هذه المأساة يحتفظ بكل ملامح الشخصية التراثية، وهو بهذا العمل لا يعيد صياغة ما مر بالشخصية من أحداث إعادة حرفية ـ بل يعيد قراءتها بشكل يتناسب مع تجربته الشعرية التي تخدم الرؤية العامة للنص ، يقول ديك الجن مخاطبا محبوبته في أسلوب درامي مغلف بمشاعر الأسى والحزن والألم(25):

صدّقت الواشين وأغمدت بقلبك سيفي
وظننت أني أغسل عاري،
أمحو سوءة تاريخي،
وبكيت طويلاً..
حين رأيت على شفتيك حروفي
وبعينيك ندائي
وعلى ساعدك اسمي منقوشاً ـ
بمداد أخضرْ
وعلى الجسد الواهن يلتف ردائي..
لكن لم يشف الدمعُ نتوءات القلب ـ
المكلومْ
فجعلت رفاتك كأسا أشربها كل صباح ومساءْ
علّي ألقاكِ خيالا يقهر ظمئي،
يحرق ندمي.. يغتالُ اللغةَ الخرساء

وقد استدعى الشاعر في الأسطر السابقة بعض مضمون أبياتٍ للشاعر ديك الجن قالها ندماً على فعلته (26):

روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتي من شفتيها
مكَّنتُ سيفي من مجال خناقها
ومدامعي تجري على خديـها

وفي إطار إلقاء اللوم على العشيرة؛ بكونها سبباً في مأساة الشاعر، وما يعانيه من ضياع وتشرد، فقد استدعى الشاعر فوزي عيسى في المقطع الخامس بيتاً لديك الجن، يعبر فيه عن موقفه من تضييع قبيلته له وتخليها عنه. وفيه يتوقع أن يحل الخزي والعار والعاقبة الوخيمة على أهل حمص؛ لموقفهم السالب منه، حيث يقول (27):

يا آل حمص توقعوا من نارها
خزياً يحل عليـــكم ووبالا

وفي محاولة الشاعر رسم ملامح شخصية ديك الجن وأبعادها التراثية وتوظيفها للتعبير عن تجربته الخاصة، نجده يستعين بمجموعه من وسائل التعبير الفنية؛ لتوفير بناء درامي لقصيدته التي من شأنها أن تعمق التجربة وتثري الدلالة، ومن هذه الوسائل: تعدد الأصوات، واستحضار الرموز التراثية، وتضمين النصوص الدينية والأدبية، واستخدام لأسلوب المونتاج وتعدد المقاطع.

وهكذا يتبين كيف أفاد الشاعر في توظيفه للمورث الأدبي من خلال استخدامه لشخصية "ديك الجن" بما يتوافق ما في تجربة الشاعر من قناعة وإيمان في طرحه لقضايا الإنسان المعاصر وهمومه، وإكساب تجربته موضوعية، وبعداً إنسانيا أشمل.

ثالثاً ـ توظيف المعجم الشعري.

وإذا كان الشاعر فوزي عيسى قد برع في توظيف النصوص الأدبية المختلفة التي استدعاها من خلال أبيات الشعر والأموال المأثورة والشخصيات التراثية، فإنه – بالقدر نفسه برع في توظيف الأنماط التعبيرية التراثية على مستوى المفردات والتراكيب والأسلوب، توظيفا؛ً يقوم بوظيفة دلالية نخدم الدلالة العامة التي تنبثق عن تجربة الشاعر المعاصرة ورؤيته الفكرية.
فحين يعبر الشاعر عن عقم الواقع العربي الحالي وهوانه، واستكانته للمذلة، فإنه يلجأ إلى توظيف معجم القصيدة العربية الإسلامية مستدعيا الأطر التعبيرية التراثية، يقول في قصيدته " الطريق إلى طليطلة" (28):

من أين نبدأ المسيرة يا طليطلة
وطارق يغيب ،
والسيوف قد أصابها الكلال
والخيول في العراء مهملة ؟!
من أين نبدأ المسير
والزمان لم يعد هو الزمان
والوجوه لم تعد هي الوجوه
والقلوب بالهموم مثقلة ؟
وأنت في القيود ترسفين
ترقبين ساعة المنازلهْ
ووجهك الحزين غاض ماؤه
وجفف الخريف جدوله

ويرسم الشاعر درب الخلاص من هذا الوضع الرديء عن طريق إحياء عصر الفروسية والقوة، ويرى في شخصيته طارق بن زياد رمزاً للمنقذ والفادي الذي حادت الأمة عن طريقه ونهجه، وهو استعادة الحقوق بالقوة والمحبة معاّ، يقول(29):

لا شيء يفتديك
غير أن يعودَ طارقٌ
فيجمع الكتائبَ المهلهلهْ
ويحرق السفائن التي تآكلتَْ
ويشعل الحماسَ في المقاتِلهْ
فهل ـ بعد ـ يا مدينتي
وفي يديه سيفُهُ وسُنبلَهْ

نجد الشاعر في هذه الأسطر يوظف معجم القصيدة العربية الإسلامية توظيف بارعاً حيث استخدام المفردات والتراكيب التراثية من مثل: " طليطلة، طارق، السيوف التي أصابها الكلال، الخيول المهملة، الكتائب المهلهلة، حرق السفائن، إشعال الحماس، المقاتلة، ساعة المنازلة، غاض ماؤه". كل هذه مفردات أصيلة في معجم القصيدة العربية، وظفها الشاعر لتستشير الشفقة والحزن على ما آل إلية الوضع العربي الحالي، وتبث في وجدان المتلقي الأمل في الخلاص والخروج من هذا المأزق الصعب.
وفي رحلة الشاعر المضنية للبحث عن محبوبته " هند " رمز الأمة العربية التي أهينت كرامتها، وضاعت عزتها، وديست قيمها النبيلة، ودب إليها التناحر والفرقة يوظف مفردات معجم القصيدة الجاهليـة؛ لتحمل أبعاد تجربة الوجدانيـــة، حيث يقول في قصيدته " هوامش على لامية العرب "(30):

تيَّمتنى هند المليحةُ
حيناً من الدهر
يتمتني لحاظُها...
لاطمتنى رياحُها...
ماطلتنى..
حين استبدَّ بي الشوقُ
آذنتني ببينها..
ناءَ متني مما حملتُ
تحاملتُ..
قيل: أَتْهمْ.. لعلّها ،
فاتُّهمتُ
قيلَ: أنجْدْ .. فدارُها ثمَّ
فأرعويتُ
قيل: أيْمنْ .. تفرَّق الركبُ
فانثنيت ...
قيل: أشئمْ .. فهالني ما رأيت
فانزويتُ..

فالألفاظ والتراكيب: تيمتني هند المليحةُ، آذنتني ببينها، أتهم، أنجد، فدارها ثمّ، أرعويت تمتاح من أجواء الماضي حيث عبق التراث، ومما زاد من جمال هذا التراث وأصالته في صياغة الشاعر ، اتكاؤه على القيم الصوتية التي تنبعث من التجنيس الصوتي مثل: تيَّمتنى ويتمتني، ولاطمتنى،ماطلتنى. إلى جانب ما يحمله اسم كل من " هند " و"أسماء" ـ من دلالات تكتنز بالإيحاءات السخية بوصفهما من الأسماء التراثية التي ترددت كثيراً عند غير شاعر من الشعراء العرب القدامى ـ. فضلاً عن تضمين الشاعر جزءاً من مطلع معلقة الحارث بن أبي حلزة التي يقول فيها (31):

آذنتنا ببيــنها أسماء
رب ثاوٍ يمل منه الثواء

واللافت للنظر أن مثل هذه المفردات والتراكيب التراثية لم تكن مقصودة لذاتها. بل تداخلت وتشابكت في نسيج الخطاب الشعري للشاعر، وكانت لبنة أساسية من لبنات بنائه الفني، وقد تآزرت في دعمها وسائل التعبير الأخرى من رموز وصور شعرية متتابعة، وأسلوب الحوار الدرامي.

ومن الرموز التراثية التي لجأ الشاعر إلى توظيفها رمز( الجواد ) حيث رمز بالجواد المريض لوجه الأمة العربية الوضيء المشرق في عهد الفروسية والتألق العربي، وهو رمز يثير في النفس أجواء الماضي بكل ما فيها من مجد وعزة وانتصارات، وقد وظفه ليقابل به واقع الإنسان العربي المزري اليوم . يقول في قصيدة " الجواد الذي كبا" :

الجواد الذي كان يثير النقع،
ينهب الأرض،
يفتح المدائن المنيعة شرقاً وغرباً.
أصابه الإعياء.
قيل: إن المماليك قد أهملوه
ثم القوا به إلى الجب
فعضته حية رقطاء.

استخدم الشاعر في هذه الأسطر الألفاظ والتراكيب التراثية الآتية: الجواد، يثير النفع، ينهب الأرض يفتح المدائن المنيعة، أصابه الإعياء، المماليك، ألقوا به إلى الجب، حية رقطاء، وهذه كلها ألفاظ تراثية محملة بدلالات شعورية ونفسية تسهم في تصوير أحاسيس الشاعر وانفعالاته الحزينة، لما آلت إليه حال الأمة العربية من ضعف وتقاعس عن الجهاد، وإعداد القوة، وهو يرى انه لا شفاء لهذا الجواد المريض الذي أصابه الإعياء بسب إهمال الغرباء المحتلون له وإجهادهم إياه من أمثال المماليك - إلا من السماء، وهذه نزعة دينية تبث في النفس الأمل والحياة، لأن ما عند الله قريب، وسيمنحه القوة من جديد، وقد أضفى التركيب المستمد من النص القرآني" القوا به إلى الجب" في قوله تعالى:" فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ". (32) مسحة من إكبار التراث وإجلاله .

ومن أنماط المعجم التراثي التي لجأ الشاعر إلى توظيفه في قصائده المعجم الصوفي، فحين يعبر عن علاقته بالمحبوبة، فإنه يصل بمشاعره وأحاسيسه إلى درجة الامتزاج والحلول الصوفي، يقول على لسان ديك الجن في قصيدة " تداعيات ديك الجن" مناجياً محبوبته بعد أن قتلها (33):

ها أنذا أجمعُ أشلاءكِ
من ذاكرة الأيام السوداء،
أحاول لثمك،
أحضن هذا الجسد المتألِّة،
أنسج من ريشي فيئاً،
وجناحي نسيماً
حتى أبعث في شريان القلب الساكن
نبضَ حياةٍ
يُورق في أزمنة الجدبِ الصفراء

أضفي الشاعر على هذا المقطع جوّا صوفياً شديد الصفاء والشفافية، فأحد مكونات هذا الجو هو محاولة توحيد الأنا بالآخر, ويتبدى هذا التوحد في الألفاظ والعبارات التي صاغها الشاعر في إطار تجربته الجديدة. وقد لجأ الشاعر في هذا النص إلى استغلال الإمكانات اللغوية الدقيقة في التركيب استغلالا بارعا للإيحاء بأدق المعاني والأفكار التي يريد التعبير عنها .
ومن نماذج توظيف الشاعر المعجم الصوفي قصيدة " مناجاة " التي عبر فيها الشاعر عن أحزانه وآلامه النفسية وإخفاقاته في تجارب الحب التي خاضها، فلم يجد أمامه سوى التعلق بجناب الله يناجيه، ويبثه خوفه، لعله يجد في رحابه العزاء والسلوان والراحة من الهموم ومتاعب الدنيا ومغرياتها، يقول في قصيدة "مناجاة "(34):

أتيتُ إليكَ
مؤتزراً بآثامي
وتسبقني ذنوبٌ
لستُ أُحصيها
أتيت إليك محمولاً
بقلبٍ خائفٍ وجلِ
بلا زادٍ بلا عملِ
بلا خِلٍ يؤانسني
وليس معي
سوي أملي

تفيض هذه السطر بالألحان الروحانية الشفيقة التي تقترب إلى حد ما من أحاسيس الصوفية وتضرعاتهم، مستلهمة مفردات معجمهم وعباراتهم مثل: الائتزار بالآثام ،والذنوب التي لا تحصى، القلب الخائف الوجل، بلا زادٍ بلا عملِ، بلا خِلٍ يؤانسني، فقدان الأمل في النجاة.
ومن المعطيات التراثية التي لجا الشاعر إلى توظيفها المعجم اللغوي :النـــحوي والعروضي؛ للتعبير عن تجربته الشعرية ومواقفه الفكرية، فاستخدم المصطلحات النــحوية والعروضية؛ بحسبانها وسيلة من وسائل التعبير عن جمال اللغة العربية وسحرها، وأنها لغة خالدة ، وهي تشكل رمزاً للشخصية العربية، ومقوماً أساسياً من مقومات وجودنا، وأنها لا تزال قادرة على مواجهة كل الدعوات الهدامة التي تبغي محوها أو تشويهها. يقول في قصيدة " مفتتح " (35):

لغة تباغت مفردات النصب
والتحذير،
والفعل المؤول
والمراوغ
تنتمي للجزم،
لا للنفي
تبعد عن أساليب التفجع
و التحسر
عن ألاعيب الحواة
أو النحاة
وعنعنات الشكِ،
تنزع خافضات الحرف لا،
والخوف
تغمد نصلها
في قلب من قلبوا الحروف
و بدلوا الأفعال
والأسماء
والأحوال
وانتصبوا
على جثث الضحايا
رافعين لواءهم
فلتحذروا. .
هذي قراءة من روى
بالباء، لا التاء،
من سأل الحروف
فأنبأته بما رأت،
لا ما رأوا. .

يحاول الشاعر أن يوظف المفردات و المصطلحات النحوية، ويسقط عليها أبعادا سياسية من أبعاد تجربته الشعرية، وموقفه الفكري، فهو يصور حبه وعشقه للغة العربية ، وجمال أساليبها،ويبدي غيرته وحرصه على هذه اللغة، ويقف منها موقف المنافح من الذين يسعون إلى طمسها. ومن تلك المفردات والتراكيب:"مفردات النصب و الجزم و النفي وخافضات الحرف، قلب الحروف و تبديــــل الأفعال والأسماء والأحوال، الفعل المؤول، سأل الحروف" بحيث تلعب هذه المفردات على مستويين، مستوى دلالي عادي، ومستوى رمزي إيحائي، والمستوى الخير هو المقصود.

والمتأمل في استدعاء الشاعر لهذه المفردات والمصطلحات يتبين له أن استخدامه لها لم يكن أمراً شكلياً خالصاً، وإنما ورد استخدامه لها في إطار محاولة جادة لتوظيف معطى تراثي لنقل مضمون معاصر.

ومما خفف من حدة هذه المصطلحات جفافه اتكاء الشاعر على بعض صور الجناس الناقص التي تدعم الجانب الموسيقي وتقويه مثل: " الحواة و النحاة، الحرف والخوف،َ قلب و قَلبوا، فضلاً عن استخدام الألفاظ ذات الدلالات الغنية بالإيحاء .

وفى قصيدة "من ليالي الإمتاع والمؤانسة " يستثمر الشاعر مصطلحات علم العروض "الوزن والقافية "؛ للتعبير عن تجربته الشعورية ورؤيته الفكرية، حيث قدم لقصيدته هذه بمفتتح تراثي نثري هي: " قال الوزير ابن سعدان لأبى حيان من حديث إذ يقول: " إنني كلف بالنساء، فقل في ذلك، وأغرب، فقال على لسانه " (36):

النساء قواف مجنَحةٌ
وأنا كلف بالشوارد
ممتحن بالآل،
وقد قيل:إن القوافي تسع،
ثلاث مقيدة،
ضعفها مطلقات
فهل أنت ردف لها أم رديف ؟
وهل أنت منسرح أم خفيف ؟
تبصر،
فإن الغواية تحمل في بحرها المتواكس ،
والمتراكب، والمتواتر
فاختر، ولا تضمر الوصل،
كن كالروي لها .. ريَّها
فالنساء قصائد مسكونة بالتعاويذ،
مفعمة بالمعاني
موقعة باللحون
وهن الشوارد
مثل الظباء .. ومثل المها .

إن استخدام الشاعر مفردات ومصطلحات علم العروض لم يكن القصد منه استعراض ثقافة الشاعر العروضية، ومهارته العقلية التي ليس فيها كبير غناء من الناحية الفنية ، وإنما الغرض منه توظيف هذه المفردات وتلك المصطلحات محاولاً مخاطبة التكوين النفسي والوجداني للمتلقي، ليتمكن من توصيل الأبعاد النفسية والشعورية لرؤيته وتجربته الشعورية.

فلم تقف المفردة والعبارة عند الدلالة التي وضعت لها، وإنما تتعداها لتحمل دلالات أخرى قادرة على نقل المحمول الدلالي الذي أراد الشاعر أن يوحي به. مثل قول الشاعر: تبصر،فإن الغواية تحمل في بحرها المتواكس، والمتراكب، والمتواتر فاختر، ولا تضمر الوصل." الغواية تحمل في بحرها المتواكس، والمتراكب، والمتواتر، وإضمار الوصل " مصطلحات عروضية، ولكنه لم يكن المقصود هاهنا، وإنما المقصود هو دلالات أخرى، مثل: "التحذير من الغرق في بحور الغواية، ومد حبل الوصل والمحبة للمحبوب".

فقد حاول الشاعر مخلصاً أن يحدث مزاوجة بارعة بين الدلالة التراثية للمفردة ، والدلالة المعاصرة للمعطيات التراثية التي يوظفها ، ولقد تم هذا التفاعل البارع بين الدلالتين بشكل عفوي، دونما تكلف، لتشع المعطيات التراثية بإيحاءات بالغة الغني والرحابة.
وصفوة القول، فإن لغة الشاعر هي في مجملها لغة صافية، متماسكة النسيج، رصينة، ساهم التراث في إغنائها، وإضفاء طابع الأصالة والمعاصرة عليها ، فكانت تراثية في أنساقها اللغوية، وبناء جملها ومعاصرة في آن واحد.

الخاتمة.

يتضح مما تقدم أن علاقة الشاعر فوري عيسى بالتراث كانت علاقة وثيقة، فهو ينظر إلى التراث بصفته مصدر إلهام وإيحاء مهم، لا غني عنه. وأن هذه العلاقة لم تكن قائمة على التقليد والمحاكاة أو إعادة إنتاج التراث كما هو. بل كانت قائمة على التفاعل العميق معه. وتوظيفه فنياً للتعبير عن تجاربه الشعرية الخاصة. وقد تجلي هذا بوضوح في تعامله مع معطيات الموروث الأدبي وعناصره المختلفة، الذي شكل محور هذا البحث.

المتأمل في كثير من النصوص الشعرية في الدواوين الأربعة للشاعر فوزي عيسى، يجد أن الإشارات التراثية الأدبية المتنوعة المصادر قد شغلت حيزاً واسعاً من اهتمامه وعنايته البالغة، ولعل السر في ذلك يعود إلى طبيعة التكوين الثقافي للشاعر وإلى مهنته، بحكم كونه دارساً للتراث العربي، ويعمل أستاذاً جامعياً ، وناقداً أدبياً، قدم دراسات أدبية ونقدية متعددة، إن مثل هذه الحصائل المعرفية: ثقافية وأدبية والتي امتاحها الشاعر من ينابيع التراث العربي الأصيل، قد انعكست بلا شك في شخصيته الثقافية، وكان لها دور فاعل في طريقة توظيفه لعناصر التراث الأدبي في شعره، وتعامله معها، فأغنت بذلك تجربته الشعرية، وزادتها ثراء وعمقاً .

لقد كان تعامل الشاعر مع النص الأدبي أو استدعاء الشخصيات الأدبية، أو المعجم الشعري يتم بوعي تام، بدءاً من إدراكه لما تزخر به النصوص الأدبية من وسائل تعبيرية وإيحائية، لها فعاليتها وقدرتها على التأثير في نفس المتلقي، إلى استخدامها استخداماً فنياً له وظيفته وغايته؛ الأمر الذي يشي بفهم الشاعر العميق للتراث، وقدرته على محاورته واستغلال إمكاناته، ولم يكن اختياره للنصوص التي استدعاها في شعره عشوائياً،. بل كان يخضع لطبيعة رؤيته الذاتية وموقفه الراهن الذي يريد أن يجسده من خلالها. ومن هنا كثيراً ما كان يلجأ إلى التحوير والتغيير في النص الذي يستخدمه، أو يضعه في سياق شعري جديد مغاير للسياق الأصلي الذي ورد فيه، أو يحمله دلالة معاصرة مفارقة لدلالته القديمة، إلى غير ذلك من صور التضمين التي يرى الشاعر أنها تخدم غرضه في مجال التعبير عن تجربته .

وكذلك يبرز استغلال الشاعر فوزي عيسي للتراث من خلال استدعائه لعدد من الشخصيات والرموز الأدبية، سواء تلك التي وردت في صورة جزئية أو جاءت في صورة الاستغراق الكامل، فضلاً عن أن استدعاءه لهذه الشخصيات جاء منسجماً مع واقع تجربة الشاعر، وأن توظيفها غدا وسيلة تعبير وإيحاء مهمة في النص الشعري، وكان لها دور فاعل في تأكيد جانب الشعرية فيه، ومد آفاقه الدلالي؛ الأمر الذي أسهم في جعل النص أكثر ثراء وخصوبة، وقدرة على إثارة المتلقي، وتفعيل دوره؛ ليصبح مشاركاً منتجاً، بدلاً من كونه مستهلكاً فحسب.

هوامش البحث:

1- ولد الشاعر فوزي سعد عيسى في محافظة البحيرة بمصر، سنة 1949م، وفيها تلقى مراحل تعليمه، وبعد أن حصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة الإسكندرية عام 1978 م عمل أستاذاً للأدب العربي في كلية الآداب جامعة الإسكندرية وجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية. وقد أصدر أربعة دواوين شعرية هي: أحبك رغم أحزاني 1983، لدي أقوال أخرى 1990، وثقوب في ذاكرة النهر 1996 ، ولغة بلون الماء 1999، كما أصدر عدداً كبيراً من المؤلفات في الأدب العربي، وموسيقى الشعر والدراسات الأندلسية والدراسات النقدية، ونشرت له بحوث ومقالات وقصائد في كثير من الصحف والمجلات العربية. وتُوّج أخيراً بجائزة "يوسف بن أحمد كانو" في مجال الأدب العربي التي تعد جائزة "كانو" أرفع الجوائز البحرينية؛ تقديرا لمسيرته وإنجازاته عن كتابه "صورة الآخر في الشعر العربي"(بتاريخ 2/9/2009 http://www.moheet.com (.

2- استدعاء الشخصيات التراثية ص15.
3- الشعر العربي المعاصر، عز الدين إسماعيل ، ط 3 ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1978 ص225 .ص307.
4 ديوان لغة بلون الماء، قصيدة " زفرة العربي الأخيرة ص 71 ، 72
5 خلاصة تاريخ الأندلس إلى سقوط غرناطة : شكيب أرسلان، مطابع التبصير، الرباط، 1935 م ص.
6- ديوان " أحبك رغم أحزاني" ، فقصيدة "الحب والرماد" ص 53
7- تاريخ الأدب العربي حنا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسية، ط 12 بيروت ، 1987 ص 179.
8- ديوان " أحبك رغم أحزاني" ، فقصيدة "الحب والرماد" ص 53.
9- ديوان لغة بلون الماء، قصيدة " زفرة العربي الأخيرة ص 74
10- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام ، تحقيق إحسان عباس ، القسم الأول، المجلد الأول ، دار الثقافة بيروت1970،ص 429
11- المغرب في حلى المغرب: ابن سعيد، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1980، ج 2 ص 453.
12- استدعاء الشخصيات التراثية ص 264.
13- أقنعة الشعر المعاصر د. جابر عصفور، مجلة فصول المجلد الأول، العدد الرابع، يوليو ، 1981 ، القاهرة ص 123.
14- انظر: اتجاهات الشعر العربي، إحسان عباس ص
15- هو عبد السلام بن زغبان من أهل حمص شاعر عباسي ت 236 هجرية له ديوان مطبوع، وكان له جارية تدعى "دنيا"من أهل حمص يهواها، فتزوجها، ثم اتهمها بغلامه وصيف، فقتلها وهي بريئة، وأحرق جثتها، وصنع من رمادها كأسا يشرب فيه الخمر حزنا عليها.( _ _ وفيات الأعيان ح3 ص 184- 189).
16 ديوان لدى أقوال أخرى ص 69
17- السابق ص 93
18- عن بناء القصيدة العربية ص 219
19- ديوان لدى أقوال أخرى قصيدة تداعيات ديك الجن ص 95
20- البيت للشاعر العرجي، انظر: الشعر والشعراء ابن قتيبة ص 365
21- البيت لأبي العلاء المعري وشطره الأول هو: حياة ثم موت ثم نشر حديث الخرافة أم عمرو
انظر :ديوان أبي العلاء المعري
22- البيت قائله مجهول، ويليه بيتان هما:
فإن النار بالعودين تذكي وإن الحرب مبدؤها كلامُ
فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
( البداية والنهاية ج ص 36)
23- عن بناء القصيدة العربية ص 219
24- يوسف نوفل ص 112
25- ديوان لدى أقوال أخرى قصيدة تداعيات ديك الجن ص 96
26- وفيات الأعيان ح3 ص 184- 189
27- ديوان لدى أقوال أخرى قصيدة" تداعيات ديك الجن" ص 75
28- السابق ،قصيدة " الطريق إلى طليطلة" ص 27
29- السابق ص 28
30- ديوان ثقوب في ذاكرة النهر،قصيدة هوامش على لامية العرب ص 5 ، 6
31- شرح المعلقات السبع للزوزني، مكتبة المعارف، بيروت ،1983 م.ص 190
32- سورة يوسف الآية 15"
33- ديوان لدى أقوال أخرى قصيدة" تداعيات ديك الجن" ص 155
34- ديوان أحبك رغم أحزاني، قصيدة "مناجاة "ص 55
35- ديوان " لغة بلون الماء، " قصيدة " مفتتح "ص6-8
36- ديوان " لغة بلون الماء، " قصيدة " "ص 63،64

المصادر والمراجع:

 ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، القسم الأول، المجلد الأول، دار الثقافة، بيروت، 1970 م.
 ابن جني: سر صناعة الإعراب ، دراسة وتحقيق حسن هنداوي، بيروت،1970.
 ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م.
 ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1980.
 ابن الشجري: مختارات ابن الشجري ، تحقيق محمود حسن زناتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1980 م.
 ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الثقافة، بيروت،ط4،1980 م.
 ابن كثير: البداية والنهاية، دار الفكر العربي ، القاهرة، ط1، 1933 م
 ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت،1994 م.
ابن هشام الأنصاري :السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط2،1955 م.
- أبو حيان التوحيدي : الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، 1944 م
 أبو العلاء المعري، لزوم ما يلزم، دار صادر، بيروت، 1961 م
 أبو فرج الأصفهاني: الأغاني، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1936 م
 إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي، دار الشروق، بيروت، ط2، 1992 م.
 أحمد الزعبي: التناص نظرياً وتطبيقياً، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، الأردن ، ط، 2000 م
 أحمد مجاهد : أشكال التناص الشعري، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة، 1998 .
 الأعشى: ديوان الأعشى، تحقيق عمر فاروق الطباع، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت بدون تاريخ.
 امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1958م.
- ت. س. إليوت: مقالات في النقد الأدبي، ترجمة لطيفة الزيات، مكتبة الأنجلو المصرية، د. ت .
 جابر عصفور: أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، يوليو، 1981.
 حنا الفاخوري: تاريخ الأدب العربي، منشورات المكتبة البوليسية، ط 12، بيروت، 1987
 شكيب أرسلان : خلاصة تاريخ الأندلس إلى سقوط غرناطة، مطابع التبصير، الرباط، 1935م.
 ديك الجن :ديوان ديك الجن: عبد السلام بن زغبان، تحقيق أحمد مطلوب وعبد الله الجبوري، دار الثقافة، بيروت، 1964 م
 ذو الرمة: ديوان ذي الرمة، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1964 م.
زهير بن أبي سلمى: ديوان زهير بن أبي سلمى ، تحقيق عمر فاروق الطباع، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت.
 الزوزني: شرح المعلقات السبع، مكتبة المعارف، بيروت،1983 م.
عبد النبي اصطيف: خيط التراث في نسيج الشعر العربي الحديث، مجلة فصول، مجلد 5، عدد2 يوليو،1996 م .
 عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ، ط 3 ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1978
 علي عشري زايد :استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط،1 ،1978 م.
 علي عشري زايد: توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر، مجلة فصول، مجلد 1، عدد1،أكتوبر، 1995 .
 علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية، مكتبة الشباب، ط 4، القاهرة، 1995 م
 عمر بن أبي ربيعة: ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق فوزي عطوي،الشركة اللبناني للكتاب والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،1971 م.
 عمرو بن معد يكرب: ديوان عمرو بن معد يكرب، تحقيق مطاع الطرابيشي، دمشق ،مجمع اللغة العربية،1974 .
 فوزي عيسى: ديوان أحبك رغم أحزاني: فوزي عيسى، مركز الدلتا للطباعة، الإسكندرية، 1984م.
 فوزي عيسى: ديوان لدي أقوال أخرى: فوزي عيسى دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية،1990م.
 فوزي عيسى: ديوان ثقوب في ذاكرة النهر، مركز الدلتا للطباعة، الإسكندرية، 1996م
 فوزي عيسى: ديوان لغة بلون الماء: فوزي عيسى، الدار المصرية 1999 م.
 فوزي عيسى: النص الشعري وآليات القراءة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997 م.
 المتنبي: ديوان المتنبي، تحقيق عبد المنعم خفاجي وآخرون، مكتبة مصر ، القاهرة، 1964.
 محمد فتوح أحمد: التشكيل بالموروث في الشعر العربي المعاصر، مجلة شعر، عدد17، أكتوبر 1979م
 محمود درويش: الأعمال الكاملة، دار العودة ، بيروت، مجلد 2،ط1 ،1994 م.
 المقري : أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهـرة،د. ت
 المقري: نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس ،دار صادر، بيروت، 1988 م
 موسى ربابعة: التناص في نماذج من الشعر العربي الحديث،مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية، الأردن، ط،2000 م.
 نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، ط13، بيروت، 1993 م
 يوسف نوفل: أصوات النص الشعري، الشركة المصرية العالمية للنشر – لو نجمان، ط أولى، القاهرة، 1995

في تجربة فوزي عيسى الشعرية

مشاركة منتدى

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ارجو من الاخوة القائمين على هذا النشاط التأكد من المؤلف المذكور للدكتورفوزي سعد عيسى والموسوم ب(صورة الاخر في الشعرالعربي) والذي حاز على جائزة يوسف بن احمدكانو في البحرين لأنني ألفت كتابايحمل عنوانا قريبا جدا لهذا العتوان وارسلته للمسابقة نفسها ولم يأتني ردا منهم مع العلم انني لاأتهم أحدا مع شكري وامتناني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى