الثلاثاء ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم سمير صابر الجندي

امرأة القرن

رائعة في كل حركاتها وهمساتها ونظراتها التي تعانق الأفق، أحلامها رقيقة كنسمة تتهادى فوق الروابي الخضراء، كريمة في أحاسيسها، صوتها عذب كصوت ناي يعزف عليها راع تصالح منذ أمد مع الزمان، قوامها مرسوم بعناية إلهية، مصقول كمرآة سحرية، عطرها أخّاذ يذيب النفس، طرية كالبلسم تداوي بنعومتها ثقل الأيام، في ابتسامتها يولد جسد أنثى، ويولد العالم في صدري، هي امرأة العصر، مثلها لا يخرج إلى الحياة إلا مرة واحدة كل قرن، لم يتردد قلبي لحظة واحدة من التعلق بها عندما سمعتها تتحدث أمام حشد من النساء تحثهن على التعلم وبناء قدراتهن، كانت واثقة تخرج الكلمات رزينة، قوية، رنانة، غنية في معانيها، شديدة الحرص على نقل ما تؤمن به إلى مجتمع النساء في قريتها، كان أشد ما يؤلمها؛ المرأة التي تهمل تعليم بناتها، خاصة إذا كانت هي غير متعلمة، تقول لها لا تعتلي هما، فانا كفيل بمتابعة تدريسها...

أحبها كل من عرفها، نالت احترام الجميع، متفانية في عملها، تؤثر الآخرين عن نفسها، أنكرت ذاتها حتى خلتها ظالمة لنفسها... هي المرأة التي أحببت، وهي التي استطاعت تحقيق أبسط وأعظم أمنياتي، مضت الستة أعوام كلمح البصر، جمعتنا المحبة والسعادة والحياة، مضت كأنها ربيع لا ينتهي...

عدت إلى البيت بعد الظهر كعادتي لتناول طعام الغداء مع زوجتي، لم يكن لدينا أولاد، فقد كان حبي لها يفوق أي حب في الوجود، في تلك الظهيرة لم تنجز أي طعام، بل كانت على غير عادتها واجمة حزينة سارحة في فكرها تنظر إلى الفراغ، كانت خائفة راجفة، قابعة في زاوية البيت تجلس عل الأرض ورأسها بين ركبتيها، لم تنهض من مكانها، تلبس فستانها الأصفر الذي ترتديه عند الخروج... نظرت إليّ بعينين ذابلتين دامعتين ينزل منهما خطين أسودين يسيلان على خديها، تناولتُ منديلا ورقيا لأجفف دمعها‘ لم تنبس ببنت شفة، نظرت إلى عيني نظرة فيها عمق مأساة، عندها ألححت عليها ورجوتها كثيرا كي تخبرني بما حصل معها أثناء غيابي، في البداية لم تقل لي حرفا واحدا، لكنها بعد أن تمالكت نفسها واستجمعت شجاعتها، أمسكت كف يدي وضغطت عليها بحنانها المعهود، عادت إلى بكائها، أصابتها حشرجة، سال دمعها غزيرا لا شيء يوقفه، حرت في الأمر، لم أتمالك نفسي بكيت على بكائها، ونهضت من فوري لأحضر لها كأسا من الليمون المثلج الذي تحبه.

هناك أمور تحدث بالرغم عنا، لم نكن نحسب لها حسابا، أمور ليست ضمن خططنا، ولا نخالها تدور في فلكنا، أحيانا كثيرة نمسي بحالة، ونصبح في حالة مغايرة تماما، فلا تهتم يا زوجي العزيز لأمور الدنيا، لا شيء يساوي لحظة حزن نستهلكها، نحن خرجنا إلى هذه الحياة عراة لا نملك من أمرنا شيئا، وها نحن قد أعطانا الله كل ما نحب، بل أكثر مما نستحق، وقد يصيب الإنسان أحيانا بعض النكسات، لكن المؤمن هو الذي يصمد ويتحمل السقوط، لينهض أقوى مما كان.

كانت الزوجة تحدث زوجها كطبيبة روحانية، خبيرة بأمور الحياة وفلسفتها، والزوج يستمع إليها وعلامات الاستغراب تزيد وجهه شحوبا، فهو لم يزل بلباس العمل، لم يحصل على خمس دقائق ليغتسل وليبدل ملابسه، كانت ملامح الزوج دقيقة له شارب خفيف يستقر تحت أرنبة أنفه الصفير، وكان شعره أسود قد تزيّن باللون الأبيض الذي أعطاه هيبة ووقار، قامته قصيرة لكنها قوية، فهو يمارس الألعاب الرياضية كلما سنحت له الفرصة بذلك، لكنه عطوف محب لزوجته لدرجة التقديس، يعمل بائعا في محل للأدوات المنزلية، منذ أكثر من عشرين عاما، كان يجمع القرش فوق القرش حتى استكمل تكاليف بيته الذي بناه بكده وتعبه على قطعة أرض ورثها عن أبيه، وقد استغرق بناءه خمس سنوات، حرما نفسيهما من كل متع الحياة، ليوفرا المال، لم يستريحا من بيوت الإيجار إلا عندما فرغا من بناء البيت قبل عام...

عندما عدت من السوق في الحادية عشرة والنصف بعد أن اشتريت بعض الخضار، وجدت إعلانا ملصقا على باب البيت؛ كتب على ورقة بيضاء باللغة العبرية، نزعته عن الباب برفق وذهبت به إلى جارنا أبو محمود؛ ليقرأ ما فيه، فهو يعرف العبرية التي تعلمها في المعتقل، كان أبو محمود يقرأ ولا يترجم ما يقرأه، وعلامات الحزن ترتسم على محياه، كان ينظر إليّ بين الكلمة والأخرى، وكلما نظر إليّ، ازدت خوفا وحيرة، لم يخبرني بمحتوى الكتاب، قال لي: " عندما يحضر زوجك أعطيه الكتاب وأفهمه ما ينص عليه" لكنني رفضت ذلك بإصرار، وقلت له بالله عليك أن تخبرني، ولا "تجعل الفار يلعب في عبي" ...

إنه بلاغ من بلدية الاحتلال يطالبونا بمغادرة البيت خلال أربع وعشرين ساعة اعتبارا من ساعة استلامنا البلاغ وذلك لتنفيذ قرار هدم البيت...

جفت الدماء في عروق الزوج وتصلبت عضلات وجهه، وبرقت عيناه، مرَّ شريط حياته سريعا أمام خياله، من يوم أن ولدت فكرة بناء البيت وكيف بدأ بتنفيذ فكرته بمعاونة زوجته التي وقفت معه بصلابة وكانت خير معين على تجاوز العثرات، كيف كانا يدَّخران الأموال، صبرا على ضيم العيش، سارا في نفق أدركا بأن نهايته إلى فضاء مضيئ، تحملا مشاق الأيام وباتا ليال طويلة دون عشاء، ولبسا أخشن الثياب، حتى يوفرا مأوى كريما لهما، والآن وبعد كل هذا العناء وقبل أن يتمتعا ببيتهما؛ يأتي قرار الاحتلال بانتزاع أحلامهما من جذورها كما ينتزع الضبع قلب فريسته، لتقع جثة هامدة يتسابق الوحش على التهامها ...

انتفض من مكانه، حمل بيده فأسا، وتوجه من فوره إلى المطبخ، أخذ يحفر بأرض المطبخ حتى تكسر بلاطه، أزال أكوام الحجارة والحصا والرمل، ثم أخرج حزمة بلاستيكية، وأخرج حزمة أخرى بنفس الحجم، وبعد ذلك أخرج حزما صغيرة بحجم كف اليد، ثم أخذ يزيل البلاستيك الذي كان ملتصقا بعضه ببعض بعناية تامة، حتى ظهرت بيده بندقية "كلاشنكوف" قصيرة، وهكذا فعل بالحزمة الأخرى، إنهما بندقيتا "كلاشنكوف" ذات اللون الفضي، وكان محتفظا بذخيرتهما، أقسم بأن لا يدع أي كان بالاقتراب من بيته، وإنه لن يترك بيته فريسة سهلة لمقاصل الجزارين وشفراتهم المسممة، تحصن خلف نافذة غرفة نومه، وتحصنت زوجته خلف النافذة الأخرى، وخططا معا على صد الأنذال كما تعاونا طيلة حياتهما...

تمترسا في مواقعهما وانتظرا ساعة الحسم، فلم يغادرا منزلهما منذ تلك اللحظة، كانا يتناوبان الحراسة خوفا من الغدر، وضعا الأشراك التي تنبههما إذا ما اقتربا أحد نحو البيت، انتهت المهلة المحددة فلم يأت أحد، ومر زمان آخر ولم يأت أحد، مرت الأيام والأسابيع ولم يأت أحد، وبقيا في مهمة الحراسة، صارت زوجته تذهب إلى السوق لشراء ما يحتاجانه، واتفقت مع بائع الخضار المتجول بأن يحضر لها ما يتبقى معه من خضار في نهاية يومه، فتشتريه منه، لتخزنه وتصنع منه مخللا، ومن ثم تبيعه للجيران فذاع صيت إنتاجها، وتوسعت تجارتها بحيث غطت مكاسبها جميع احتياجاتهما، وهكذا فعلا، لم يتركا بيتهما، صمدا، مدافعين عنه بإيمان وإصرار، وما زالا ينتظران من تحدثه نفسه بالمس ببيتهما الذي أصبح قلعة صلبة، وصخرة تتحطم عليها مخططات من يعبثون بأحلامهما...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى