السبت ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم لمى نور الدين محمد

عن ماذا سأحدثك يا صغيرة؟!

كانت نصيحتها لا تشبه نصائح النساء في بلادي..فلم تتعلق بشروط الإرضاع، ولا بمواصفات الحليب الجيد.. ولا هي صدّعت رأسي بمفردات (حشريّة)..مثل (غلط هيك، حرام عليك، لازم هيك).

وبما أنّي غير خبيرة في عالم الأطفال، فتحت أذنيّ جيدا لكلام جارتي صاحبة البشرة السوداء والقلب الأبيض، التي أهلّت فرحة تحمل الهدية الأولى التي حصلت عليها مولودتي الأولى.

 النصيحة الأهم التي أستطيع أن أقدمها لك.. هي أن لا تصمتي أبداً...

 تقصدين أحكي لها الحكايا، وأغني لها!

 لا.. أقصد حدثيّها.. احكي لها عن التاريخ، عن فنونكم، حضارتكم، عن أقاربها، عن مشاكلكم.. عن حياتكم... حدثيّها لماذا جئتم هنا...لقد حكيت لطفلتي قصة نضال العرق الأسود في أمريكا، وهي لا تزال رضيعة.. هناك أحداث يجب أن تُسقى مع الحليب.. ولا تظني أنها صغيرة، إن كل ما تتحدثين به سيحتل العقل الباطن ليرسم شخصية مميزة.

فكرت كثيراً بكلام «نيكول» بعد أن خرجت، خاصة و أنا أعرف طفلتها ذات السنوات الخمسة والشخصية المميزة.. قلت في نفسي: يا ريت تصبح «ألمى» مثلها.
وألمى هي طفلتي، وهي الروح في اللغة الإسبانية.. وهي روحي في لغة قلبي.

**********

عن ماذا سأحدثك يا صغيرة؟! ومن أين أبدأ؟

في جعبتي تاريخ واسع.. فضفاض.. وممزق.. أأحكيه لك كما قرأته؟ وهل سيسامحني عقلك الصغير على تلك القصص المُخجلة، والنهايات الداميّة؟

وهل ستفهمينني إذا حكيت لك التاريخ كما أراه.. إذا قلت لك أنّ التاريخ عندنا ك(الويسكي).. والويسكي يا صغيرة سائل للشرب كالحليب، لكنه يُسكر ويُحرَّم ويُغش في الخفاء.

عويصة هي مفاهيم الويسكي يا صغيرة.. لن يكون من السهل عليك تخزينها في عقل باطن بنقاء الحليب.

عن ماذا سأحدثك يا صغيرة؟!

هل للجغرافية البعيدة مكان في مخيلتك النضرة.. هل أخبرك عن أراض قريبة من جدك وجدتك قد لا تُدركي يوماً وجودا لها.

أم أنك قد ترحبي أكثر بفكرة تنازع الخير والشر.. ولكن إذا ما تفلسفت أكثر وحدثتك بالتفصيل فما نسميه حروباً أهلية، قومية، وطائفيّة ..هل ستطلقين عليها حرب الأخيار أم حرب الأشرار؟!

معقدة هي الجغرافية، ومكروهة التفاصيل.. لن تتقبلها تلافيف عقلك البريئة التي لا تعلم شيئاً عن الحروب.. لا يوجد أحاديث هنا غير محرجة، وغير (غابيّة) لتسرد لصغيرة ولا حتى لكبيرة.

**********

عن ماذا سأحدثك يا صغيرة؟!

بما أنها أمور معقدة، وحيث أن القضايا الكبيرة أصبحت لا تُستخدم إلا للسخرية.. دعينا نبتعد عن المواضيع الكبيرة.. لأحدثك مثلاّ عن حياتنا البعيدة، عن جذورنا التي أخاف من أن تقتلعيها يوماّ، بينما تمنيت طوال عمري اقتلاعها...

نحن عشنا ونعيش الأفعال يا بنتي.. كفعل التدافع، ولفعل التدافع أكياس من الحكايا..

نحن نتدافع أمام أبواب السفارات الأجنبية للحصول على تأشيرة دخول واحد..نتدافع أمام (السرفيس)، أمام المستشفيات، أمام فرن الخبز.. أأخبرك مثلاً أن عشرين رجلاً في عمر جدك.- وقد يكون جدك أحدهم- قد سقطوا على الأرض وهم يلحقون برغيف مشاكس هارب.. هذا (كرتون) حياتنا يا طفلتي، تعلميه قبل أن تتعلمي الضحك.

أما عن فنوننا، فنحن نستورد الغناء مع أن العصافير في أوطاننا تتبل للشواء...
لا نعرف من الرقص إلا هزّ المؤخرات...
لا نجرؤ على اقتراف الأدب، مع أننا أساتذة في قلة الأدب.

نحن أبناء الحروب، وإن لم نجد مشكلة اختلقنا واحدة.. لا نجيد الفرح لأنه غالي الثمن، كل شيء عندنا يباع ويشترى.. وإن رخص الثمن.
الحب لدينا فرح هارب، وإن نجح في الفرار خارج حدودنا.. كُتبت له النجاة.

نحن شعوب نستورد كل شيء إلا فعل الخسارة..أجل نحن لا نستورد الهزيمة، بل نصنعها.
وهل يحق لي أن أقارن بينك و بيني.. بين تاريخكم وتاريخنا.. بين حاضركم وحاضرنا..
يا عزيزتي ..أخبار المساء عندكم تحمل أنباء الغزال الذي أُُنقذ من حادث سير.. والقط الذي أُنقذ من الغرق، بينما تحمل أخبار الثامنة في أرضنا أنباء عن أطفال (لم) يُنقذوا من القتل.

مهما حَلُكَتْ قصصك يا جارتي فإنك تملكين نهايات سعيدة : ك «أوباما».. لكنني إذا ما أخبرت طفلتي حكاية ما.. سينتهي بها المطاف في مصح للأمراض النفسيّة.

اتركيني مع (سنو وايت) و(سندريلا)، ومع جميع النهايات السعيدة التي تضج بها حكايات الأطفال التي صُنعت في بلدان بعيدة بعيدة..عن أرضنا.. وعن أفعالنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى