الأحد ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم مريم الهادي

أنا والظلمة

لا أدري كم مر عليّ في هذا المكان سنة، سنتان أكثر، لم أعد أذكر لقد توقفت ذاكرتي عندما زففتُ كعريس إلى هذا المكان، كانت زفة عجيبة، أنا متأكد أن ليس هناك أحد في العالم أحتفل به كما أحتفل بي ..!! كانت ضربات الطبول لها وقع خاص على جسدي، وأصوات سياط الموسيقى العالية معلّمة على روحي، وحماس الحضور واحتفائهم بي مختوما على وجهي، كان يوما تاريخيا مهيبا.. كانت أنهار الكرامة تسح من خلاياي.. دخلت إلى هذا المكان لحظة التعانق الأبدي بين الظلمة والنور؛ وهو ليس كأي تعانق، لم يكترث به البشر لكثرة تكراره، ولكنه كان اليوم مختلفا لقد اغتال السواد البياض، نعم لقد خيم الظلام، بل ونسج خيوطه، أيضا نعم فهو ينوي الإقامة والاستقرار فقد بدأ الآن يبني بيته، أين؟؟ طبعا في أجمل بقعة في نظر أبصاره. نسمة الهواء تزعجه، ابتسام الورد يعصر روحه، تلاقي الأحباب والأصحاب يذيقه ألوان الألم والبؤس. تُرى كم الوقت الآن صباح مساء؟! صحيح، ولمَ أسأل؟ لن يفرق ذلك فهما سيان عندي.

فجأة ينهض كالملسوع ويقول: عزة .. عزة. ينظر حوله يتذكر موقعه يعاود الجلوس، ويتساءل تُرى ماذا حدث لك أيتها العزيزة ؟ لا يجد إلا الظلمة المطبقة ليعود يرمي نفسه إلى الوراء يرتطم رأسه بالحائظ، مسك رأسه بكلتا يديه، يالي من أحمق مغفل، لقد غيرت موضع جلوسي، كله منك أيتها الظلمة اللعينة.

ينهض على صوت يزجره هو يعرفه تماما ..!! يفتح عينيه ولم يكد يفعل ذلك إلا وضربة قوية على خاصرته من رجل صاحب الصوت، يتلوى من الألم وتنطق أعماقه ليتني أتمكن من رقبته عندها لن يستطيع كل من في الأرض افتداءه.. يستجيب للأمر وينهض ليقوم بالمهمة ذاتها منذ سنوات الحفر في الجبال، دائما يتساءل ماذا يريدون من الجبال؟ لماذا يحقدون عليها؟! هل أخذت منهم أحد؟ لا أعتقد أن للجماد تلك الأفكار الشيطانية إلا إذا رأوها كذلك، فهي كذلك .. آه قد يريدون أن يصلوا إلى نواة الأرض قد!!

يعود إلى ظلمته المعهودة هو متعود عليها. التعب يأكل مادة الحياة فيه، يلقي بجسده المنهك على الفراش، يريد أن يرتاح، وأنى له الراحة في هذا المكان؟ إنما النوم بفلسفته هربا من الواقع من الفكر من الجسد، من كل شيء، ولكن فكره عاداه كما هي العادة، ولم يترك النوم يهجم بمعوله المهشم على عينيه. عزة، أين أنت الآن؟ هل مازالت أنفاسك تجد لها مكانا في الهواء؟ هل نسيت مهران؟ أنت جميلة رائعة كما كنت دائما .. تأخذه دوامة الذاكرة إلى الجوانب الظليلة الهادئة. عزة كانت ابنة الجيران الوحيدة بين إخوة سبعة، كانت أصغرهم. الدلال والرعاية والاهتمام لباس سابغ عليها، أما أنا فكنتُ بعمر إبراهيم أخاها الثالث في الكبر. كانت تلك الصغيرة الجميلة ملازمة لإخوتها، فكان طبيعيا أن تكون مثلهم في الحركات والكلام، لقد كانت تلعب كرة القدم معنا فعدتني من جملة إخوتها. بريئة منطلقة فراشة الطهر والحب، كبرنا وكبرت معنا ذات جمال أخاذ يذوب له الحصى، ويغرد له الطير، وتسرقه الفراشات وتتعطر به الزهور، كنت طول جيرتي لهم أشعر بضرورة أن أكون بجانبها حتى عندما ننقسم فريقين فلابد أن أُرى في فريقها. طارق أخوها الذي يكبرها بعام، دائم الشجار معها، كعادة أي أخوين متقاربين في السن، كنت أزجره وأحيانا أضربه لأجلها ولأجل أن لا أرى دموعها التي أشعر عندما أراها بسكاكين تغرس في فؤادي. أشعر بالسعادة والانشراح والانطلاق عندما أراها. لم أعد أراها كالسابق ولكني أختلق ألف عذر وعذر حتى أراها لاسيما إذا زارت أختي هند؛ التي تقول عنها أنها رجل بجسد أجمل إمراة، ولكني أرى عكس ذلك. تيقنت أختي من مشاعري اتجاهها وبدأت تلعب على هذا الوتر، وتقول: إذا لم ترد أن أخبرها افعل كذا وكذا، إذا أردت أن لا أخبر أمي وأبي افعل كذا وكذا، وكنت كالخادم المطيع، وكالمعجون الذي تشكله بأسوأ صورة بفضل طلباتها التي لا تنتهي، هي تعدني كواحد من إخوتها.

أفقت يوما على صوت أختي تناديني بصوت عال وتقول: يا مسكين، انهض يا مسكين لن تعرف النوم بعدُ. نهرتها وحاولت أن أنام إلا أنها سحبت الغطاء ورددت نفس الكلام، رميتها بالمخدة لعلها تنصرف إلا أنها قالت: أيها العاشق التعس حبيبتك ستتزوج. اشتعلت النار في مجرى الدم، القلب لوى أوردته عليه، انزوت الكبد بدأت تضيق بوظيفتها. حاولت أن أتماسك وأتأكد مما تقوله فإذا بها تقول: يا مسكين هيا لم يعد بمقدورك النوم بعد اليوم.

لا أدري كيف نهضت ولا كيف وصلت إلى بيتها لم أشعر بنفسي وأفيق إلى إلا على ضرب خفيف من إبراهيم على وجهي وسؤاله عما بي، تمالكت نفسي قليلا، أدخلني البيت نمت عندهم، ولم أفق إلا على صوت والدهم يخاطب أبناءه ويسألهم إن كانوا أخبروا أهلي بوجودي، جلست تعلقت بي الأبصار، لا أستطيع أن أتبين ملامحهم، لم أشعر بنفسي إلا في غرفتي وعلى سريري، وأمي عند رأسي. فتحت عيني ببطء ونظرت إلى أمي التي أهلت الدموع، واحتضنتني بحرارة كنت فعلا محتاجا لهذا الحنان الجارف لأطلق كل حرارة أحشائي من نوافذ البصر..

عرفت بعدها ما حدث لي وكيف أني غبت عن الوعي لمدة يومين، وأن ما كنت مغلقا عليه صندوق الصدر بات يعلمه القاصي والداني. طبعا كان أول ما سألت عنه هي.
لقد انتهى كل شيء، وأصبحت ملكا لشخص آخر.. ماذا عساي أن أقول أو أفعل لم يعد هناك ما يقال أو يفعل..

كنتُ أبحث عن شيء يسليني أو يخفف عنى فلم أجد إلا قطتها الصغيرة التي هُجرت هي أيضا.. التقينا لقاء مهيبا حزينا داميا.. احتفظت بهذه القطة، وبمرور الأيام بدأتُ أعود لطبيعتي، وأتشفق لسماع أي خبر عنها. قد علمت أنها تزوجت من رجل كبير في سنه ومركزه، وله علاقة بالنظام، وأن والدها قد أجبر على تزويج ابنته، وأنها غير سعيدة معه، ألمني ذلك كثيرا..

ذات يوم أتتني أمي بمجموعة من الصور وقالت اختر منها، نظرت إليها باستغراب، فقالت: قد عرضت عليك فتيات العائلة فلم ترض بأي منهن، فهذه الصور، أعطتني إياها الخاطبة بعد أن طلبت منها ذلك. تناولتها منها لأضعها على الطاولة. وأمام إلحاحها ورجائها أخذتها وأوهمتها أني أنظر، فأنا لم ولن أنظر لأحد بعد عزة.. لا أدري كيف أصف حبي لها إنه ليتغلغل في حنايا الروح ليشكل خلاياها فهو لم يكتف بالجسد المادي بل استحوذ على ذلك الجسم الأثيري الذي لم يره أحد أو يصل إليه.. عيناها النجلاوان تهوي بمن ينظر إليها إلى سابع أرض، فما بالكم بمن مد البصر على كامل الوجه والقسمات لذاق الموت الزعاف إذا أبعد عنها..

صرختْ، لأعود من عناق الأحلام إلى شوك الواقع قائلة: متى تريحني وتنسى عزة وأيامها وتعيش حياتك كإنسان طبيعي، أتعلم ماذا يقول الناس عنك؟! يقولون إنك لست برجل لذلك تخشى الزواج، وهناك من يقول إنك تعاني من مرض عضال، ومن يقول إنك تحمل عقد الدنيا. اسمع كلامي يا ابني وتزوج وأرحني، فوالدك رحمه الله كان يتمنى أن يراك عريسا ومات بحسرته بسببك.. فماذا بعد يا بني؟ أتريدني أن ألحق به لترتاح؟ لا أملك جوابا شافيا.. لا أستطيع أن أظلم أحد معي..

تمضي الأيام ثقيلة بطيئة مميتة، اليوم يكون مضى على زواجها خمسة أعوام، لم أعد أسمع عنها شيئا انقطعت أخبارها. مازلت كما أنا عازف عن الزواج لا أرى أي امرأة في هذا الكون رغم كثرتهن، لأن من في نفسي أكبر من أن تضاهيها امرأة.

أشعر بألم في جسدي يوقظني ويعيدني مما أنا فيه إلى الواقع فإذا بالسجّان على رأسي وفي يده سوط من جلد البقر يضربني به وقد احمرت عيناه وانتفخت أوداجه، وهو يردد لا تشعر بضربي؟ لا يؤلمك ؟ حسن، سأريك، ويستمر في الضرب. أحاول عبثا أن أتقي ضرباته، فلما رأى ذلك كأنه رُد له اعتباره فكف عما يفعل وأمرني بالذهاب إلى الساحة وخرج. أتلمس جسدي الذي ينز منه الدم لأتأكد إن كان له وجود أم أصبح ركاما .. خرجتُ كما أمرني، ومضى اليوم كبقية الأيام في هذا المكان الموحش، كل من في هذا المكان مشغول بنفسه، لا حديث يدار ولا بصر يتنقل، قصرت الأبصار على مواضع الأقدام، ولا يسمع في هذا المكان إلا الصراخ والأنين. لا أعرف شيئا في السلم الموسيقي وإلا لوجدت في هذا المكان مادة غنية!!

السنوات تتلاحق بت أشك أن يعرفني أهلي، كانوا قبلا يزوروني، ولكن حين يئسوا مني ومن فكري، قلت تلك الزيارات إلى أن انعدمت .. لا شيء يخفف وجيب النفس إلا ذلك الوميض الآتي من الماضي اللذيذ .. تُرى يا عزة هل تستحقين ما فعلته لأجلك؟ كل ما حدث لي وما سيحدث كان من أجل عينيك، ألم أتطاول على من أسال دمعك وأبطش بمن آذاك؟ غير نادم أنا على كل ما حدث، كان ينبغي أن يوجد من يقف في وجه الظلم ويدحره.

أيتها العزيزة حين فقدتك فقدتُ كل شيء.. أمي كانت لا تكف عن الإلحاح عليّ بالزواج، وصمتُ في رجولتي، في سمعتي ولم أكترث، فلم يجرب أحد مثل ما جربت من عذوبة وعذاب هواك .. لا أنسى ذلك اليوم الذي رأيتك فيه دامعة باكية شاكية من زوجك وتخاذل إخوتك عن نصرتك طبعا خوفا من مركزه وسلطته. حينما رأيت تلك الأخاديد تحفر خدك شعرت ببركان يتفجر بين أضلعي، لتنطلق حممه في أطرافي، سمّيه ما شئت طيشا تهورا، ولكن ما قمت به أقل بكثير مما كان ينبغي، لقد دخلت على ذلك المدعو زوجك عنوة لأجده جالسا مسترخيا خلف مكتبه وكأنه تمساح انتهى توا من التهام غزال، لم يفاجئه دخولي وكأنه معتاد على ذلك، رفع عينيه شزرا والسكرتير خلفي يعتذر ويتلعثم في ذلك كمن اقترف ذنبا كل دساتير الوجود تدينه. لم أمهله ليفكر أو يقول شيئا، انطلقت كالسيل الجارف المنطلق من خلف سدود الحرمان، وأسوار الألم. لم أعد أذكر ما قلت بالضبط، ولكن ما صدر مني جعله ينهض كالملسوع من خلف المكتب ويطلب الأمن ليلقوا بي خارجا.. همت في الشوارع وأنا أشتعل فما قمت به لم يطفئ ناري كان ينبغي أن أجهز عليه فالحياة كثيرة عليه وعلى أمثاله؛ إنه بارع في قتل الأرواح دون الأجساد.

تبا لهذا الرأس وما يحويه، لا يريد أن يسلمني للنوم، دائما يذهب بي إلى ذلك المكان البعيد من الذاكرة ليضيف إلى آلام الجسد آلام الروح. أعلم بالتجربة أن جروح الجسد تشفى، تترك أثرا ولكن تشفى، وإن كانت في هذا المكان لا تترك لتشفى، ولكنها أخف وطأة من آلام الروح وتباريحها؛ إنها تجعل الدنيا بثقب إبرة..

لم يكن ليسكت على ما قمت به دبر لي المكيدة تلو الأخرى، وينقذني منها الله بإعجوبة، مما أطاش صوابه وشتت أفكاره .. فأخذا بمضايقة أهلي بشتى الوسائل، لدرجة أنهم لجئوا إليّ يطلبون مني الاعتذار منه، حتى يرتاحوا من أذيته فقد أذاهم في أرزاقهم وفي دورهم وفي كل منفذ من منافذ الحياة، لم أهتز لتوسلاتهم ورجائهم، فقد كنت أتمنى نهشه، فكيف أعتذر إليه، يا الله إن الكلمات لتعجز عن وصف مدى كرهي وحقدي عليه لو أتمكن منه قد أحرقه ثم أخذ رماده وأجعل كل حفنة من هذا الرماد القذر في أرض لن أستثني من هذا الرماد إلا هذا المدينة البائسة فيكفيها ما فعل بها.

قاطعني إخوتي غاضبين حانقين من أقوالي وأفعالي وتصرفاتي التي قد تفقدهم حق المواطنة..!!

مرت أشهر دون أن أسمع شيئا عنه، أو أسقط في حفرة من حفره، فنعمت بالسكينة معتقدا أنه نساني، وكف عن محاولاته، ولكن هيهات، هيهات فقد انتقم مني في عزة هو لم يكن غافلا عنها ولكن زاد الكيل، وتفنن في إذلالها وأهلها لأنه يعلم أنه بذلك سيحرق أحشائي ويعمي بصري، ويأكل كبدي .. لم أكن أعلم بذلك في البداية فقد كانت أمي تتكتم على كل شيء يتعلق بالجيران، نسيت أن أذكر لكم أن أمي هي الوحيدة من أهلي التي لم تقاطعني، وإن كانت تعرض عني المرة تلو الأخرى ويعيدها قلب الأم.

وفي أحد الأيام عدتُ مبكرا لأسمع مخابرة بين أمي وجارتنا حيث كانت تصبرها وتقوي من عزمها لاحتمال ما يفعله زوج عزة بها وبهم، فما كدت أعرف بالأمر إلا وأنا في حوش الجيران أنادي بهستيريا عزة .. عزة، ليخرج كل من في البيت ومن ضمنهم عزة التي كانت مضمّدة الرأس، حينها لم أقوَ على الكلام، شعرتُ بألم أقل ما يقال عنه إنه قاتل يهجم على كل خلية من جسدي ويتركها نازفة.. انطلقت كالمجنون ومناداتهم خلفي لا ألوي على شيء، أتخبط في الشوارع بلا معنى أو هدف، لا أدري كم مر من الوقت أو الأيام وأنا في الشارع، لم أفطن لنظرات الناس المشفقة المحوقلة، والخائفة، والساخرة إلا بعد أن مررت على واجهة أحد المحلات لأرى صورتي وقد استطال شعر رأسي ولحيتي وغارت عيناي وشحب لوني وكأني آت من عالم آخر، أو خرجا لتوي من القبر، أحسست عندها بشيء يدفعني إلى ذلك الزوج اللعين، تلقاني الحرس فقد باتوا يعرفوني!! لا أدري ماذا حدث بالضبط، ولكن عندما عدت إلى وعيي واستثاب لي رشدي وجدت نفسي في ظلمة حالكة ليست غريبة عليّ فأنا معها منذ زمن بعيد اللهم إلا تغير في المكان كانت في داخلي والآن امتدت أيضا إلى الخارج، هذه الظلمة لا يستطيع فيها الإنسان أن يرى يديه. مر الوقت ثقيلا قبل أن أستدعى للتحقيق وأوصم بالجرم، فقد فهمت منه أني قتلت أحد الحراس في فورتي وطعنت الزواج، آه ولو أن الحظ ساندني لكان هو الميت، ولكن للأسف. رغم هول ما حدث في نظر الجميع إلا أني شعرت بنسمة باردة منعشة تهب على روحي..
حكم علي بالمؤبد لأقضي ما تبقى لي من عمر هنا .. لا أعلم شيئا عما يدور خارج هذه الأسوار، ورغم ذلك فأنا غير نادم على شيء .. فقد أصبحت أنا والظلمة شيئا واحدا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى