الأحد ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠

عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص

زهير كمال

كان غضب عمرو بن العاص لا يوصف فقال:

"يا محمد بن مسلمة، قبّح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل، والله إني لأعرف الخطّاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب، وعلى ابنه عمر مثلها، وكلاهما يلبسان بردة لا تبلغ رسغيهما.. والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزيناً بالذهب."

ردّ عليه محمد بغضب رداً مفحماً:

"أسكت، والله إن عمر لخير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار، ولولا الزمان الذي سبقك به، لوجدناك تحلب الشياه، وتبكي قلّة إنتاجها."

تنبّه عمرو لما قال، وطلب من محمد أن يكتم ما جرى بينهما قائلاً:
"هي عندك بأمانة الله"،فلم يخبر عمر.

جرت هذه المحادثة بعد ان حضر بن مسلمة مسؤول الولاة في دولة عمر الى مصر وقاسم واليها كل ما يملك ووصل الامر الى نعليه فاخذ واحداً وترك له الآخر.

رد بن مسلمة توصيف ملخص لواقع اهل الجزيرة قبل الاسلام، وحالهم لو لم يأت ويعطهم فرصة ان يصبحوا شيئاً مذكوراً اسماءهم يرددها التاريخ، فمن الذي سيسمع براع اسمه عمرو بن العاص يحلب الشياة ويبكي قلة انتاجها رغم كل ذكاءه وتوقّد قريحته.

غيّر الدين الجديد حياة الناس وقلبها رأساً على عقب وفتح لهم الابواب واسعة على مصراعيها للمجد والشهرة وقبل ذلك تحقيق الذات واستعمال الملكات التي منحهم اياها الله خير استعمال لصالح البشرية التي وصلت معاناتها الحد الاقصى في بداية القرن السابع الميلادي.

في كلام بن العاص عن الملابس مقياس للغنى والفقر، وربما لا زالت كذلك لو لم يتدخل ذوق الشعب الامريكي فيجعل الجينز الممزق قمة الموضة.
الملابس الجيدة ذلك الزمن كانت في غاية الندرة ولا يستطيع اقتناءها الا موفوري الثراء.

ولكن زهاد المسلمين العظام واقتداءً بالرسول الاعظم قلبوا المعادلات فأصبح الجوهر وليس المظهر هو المقياس. لم تغير السلطة والنفوذ عمر بن الخطاب فتنعكس على مظهره وتجعله يلبس الديباج والحرير، فما زال الامبراطور العربي يلبس بردة لا تبلغ رسغيه ولا يهتم ان كان بها رقع كثيرة ما دامت تفي بالغرض وتغطي جسده الفارع. المظاهر لا تدخل في حسبان الزاهد الذي لا يهمه سوى نشر العدل بين الناس وجعل حياتهم أسهل ومنع اعتداء صاحب منصب او نفوذ عليهم.

لا شك ان المنصب يلعب دوراً في جعل الناس يوجهون نظرهم نحو الوجه والعينين اولاً ثم الاستماع الى ما يقوله ثانياً، ثم ينظرون الى الثياب فيجدون امامهم ملابس متواضعة فيزدادون اعجاباً واحتراماً بصاحب الشخصية المميزة. ولعل احترام وتقدير حكام امبراطورية بريطانيا لغاندي وملابسه البسيطة يصب في هذا المنحى، واختراع التصوير جعلنا قادرين على رؤية تواضع هؤلاء العظام الذي يندر وجودهم في تاريخ البشرية، وفي هذا السياق نجد مثلاً حياً هو نلسون مانديلا. صحيح ان ملابسه ليست مثل ملابس غاندي ولكنها في غاية البساطة. المسألة بالنسبة لهؤلاء اختيار للجوهر قبل المظاهر.

بعد سجال بينهما حول ثروته كتب له عمر في رسالته التى حملها محمد بن مسلمة: "أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك في الكلام في غير مرجع، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة، فشاطره مالك، فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال، لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبناءكم وتمهدون لأنفسكم..."
يضع لنا عمر القانون التالي من قوانين ادارة الدولة الاسلامية
لا يحق لموظفي الدوله الاستفادة من مناصبهم، ويحق للدولة أن تحاسبهم في اي وقت تراه.

وقد طبق عمر هذا القانون على معظم ولاته فقاسمهم اموالهم، وكان بذلك يضع حدوداً بين المال العام والخاص.

ما يلفت الانتباه في هذه الرسالة انتقال عمر من الوضع الخاص الى العام عندما أشار صراحة الى مشكلة اساسية في الدولة وهي الولاة، يجمعون لأبناءهم ويمهدون لأنفسهم، وكأن عمر يتنبأ بالمستقبل لأن هذا ما جرى فعلاً.

ارجاع نصف أموال عمرو الى الخزينة العامة كانت تتويجاً لعدة أحداث فرض فيها عمر على واليه نظرة الدولة الاسلامية للأمور، ولعل اشهرها هي حادثة القبطي الشاب مع ابن الوالي المعروفة والتي رفع فيها عمر غطاء رأس عمرو وقال للقبطي: اضربه فوالله ما ضربك الا بسلطانه، وكان الشاب لبقاً وقال انه أخذ حقه من غريمه. ولكن مقولة عمر في هذا الحدث ما زالت تدوي عبر التاريخ عندما صرخ قائلاً:

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً؟

كيف كانت مشاعر عمرو وهو يجد نفسه في هذا الوضع المهين امام احد رعاياه.
لا شك ان المثل التالي أسوا كثيراً لمشاعر الوالي.

جاء رجل آخر من مصر إلى عمر في المدينة..

قال: "يا أمير المؤمنين، إن عمرو ناداني (يا منافق)، فأقسمت ألا أغسل رأساً ولا أدهنه حتى آتي عمر بالمدينة.

يا أمير المؤمنين، لا والله ما نافقت، فقد أسلمت"

فكتب الفاروق إلى عمرو:

"إلى العاصي بن العاص، فإن فلاناً ذكر أنك اتهمته بالنفاق، وقد أمرته إن أقام عليك شاهدين، أن يضربك أربعين سوطاً"

عندما رجع الرجل، ذهب إلى المسجد، وصاح:

"أنشد الله رجلاً سمع عمرو بن العاص نفّقني (اتهمني بالنفاق)، إلا قام وشهد.. فقام عدد منهم"

وهكذا، أصبح الحكم الوارد في كتاب عمر سارياً.

قال أحد الحاضرين مستهجناً: "أتريد أن تضرب الأمير"؟ وعرض عليه مالاً كثيراً ليسكت..

قال الشاكي: "والله لو ملأت لي هذا المسجد مالاً ما قبلت..
لاحظ الشاكي التردد عند عمرو واالناس على تنفيذ أمر عمر، قال: "ما أرى لعمر أمير المؤمنين هنا طاعة"

وخرج مغضباً فقال عمرو: "ردّوه"

جلس عمرو بين يدي الرجل وأعطاه السوط.

قال الرجل: "تقدر أن تمنع عني بسلطانك"

قال عمرو: "لا، فامض لم أُمِرْتَ به"

قال الرجل: "فإني قد عفوت عنك يا عمرو.. لا ظلم وعمر بالمدينة"

الرواية السابقة صحيحة في جوهرها ولكن المؤرخ القديم كتبها بتصرف فالشاكي كان قبطياً اسلم ولم يصدقه عمرو، لم يستطع المؤرخ الوصول الى اسم الرجل فقال فلان وقام بعمل حوار في مسجد الفسطاط يشعرك انهم عرب مختلفون مع بعضهم، ولكن قول الرجل لا ظلم وعمر في المدينة الذي كان يردده الناس ووصلنا يؤكد صحة الرواية.
ما هذه السطوة لكتاب مع مظلوم على من يتخيل نفسه ملكاً مطاعاً؟

كم تبلغ مشاعر الغضب والغيظ وعمرو يقوم من مكانه ويجلس مستسلماً بين يدي الرجل منتظراً تلقي اربعين سوطاً أمام رعيته التي تأتمر بأمره؟

ألا تلعب المصالح دوراً في وقوف البعض وجهل البعض الآخر مع الحاكم الظالم
هل يجرؤ عمرو على عصيان ما ورد في كتاب صغير إلاّ إذا أراد الإستغناء عن وظيفته، وهو لن يفعلها بحكم تكوين شخصيته.

لنفرض أن حاكماً آخر غير عمر في المدينة، أي ليس بمواصفاته، وجاء الشاكي الأول محب السباق والخيل، ورفضت شكواه أو أهملت. من المؤكد أن الشاب المصري سيشعر بخيبة الأمل من غزاة آخرين من ضمن طابور الغزاة الذي مر على أرض المحروسة، وستنتقل هذه الخيبة الى باقي الشعب، الذي يشكل جسماً واحداً، ومن المؤكد أيضاً أن المثل الثاني لن يحدث! فالناس أذكى من أن تضيع وقتها مع غاز آخر ولآمنوا بأن الظلم قدرهم، ولكن........... لا ظلم وعمر في المدينة.

دولة عمر هي كل دولة يقف فيها المواطن البسيط نداً لاكبر موظف فيها، فحقه محفوظ تكفله له الشريعة والقانون، والموظف لا يستعمل منصبه ونفوذه لفرض سطوته على الناس ومفضلاً مصلحته على المصلحة العامة.

ما سبق لا ينتقص من قيمة عمرو كقائد عسكري وكوالٍ استطاع ادارة الولاية بكفاءة فقد بنى الفسطاط واعاد شق القناة التي تصل بين النيل والبحر الاحمر اضافة الى تطهير الترع عصب الحياة في مصر والتي اهملها الرومان مدة طويلة. ومما يلفت الانتباه ان الدولة الاسلامية كانت تخصص اموالاً لصيانة الكنائس انطلاقاً من مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق مثل دفع راتب للمسنين الغير قادرين على العمل بغض النظر عن الدين. والدارس يلاحظ ان اكبر كمية من المراسلات التي وصلتنا بين عمر وأحد ولاته هي التي بينه وبين عمرو.

ورغم تطبيق عمر الدقيق للقانون بحق واليه الا انه كان معجباً بدهاء الرجل فقد رأى رجلاً يلعب ببعض الحجارة في الطريق فقال له عمر سبحان الذي خلقك وخلق عمرو.... وقد ذهبت مثلاً

ثمانون جلدة تضرب بشكل جدي كفيلة بقتل المعاقَب، وهذا هو حد الخمر.

ومع هذا، لم يمت من تطبيق هذا الحد طيلة فترة خلافة عمر سوى عبدالرحمن ابنه .
هناك شاربوا خمر عوقبوا سبعة مرات متتالية بهذا الحد مثل أبو محجن الثقفي الذي كان سكره المتكرر هو سبب وضع الحد الذي لم يرد في القرآن ولا السنّة..

كان عمر قد سأل علياً عن رأيه في عقاب الشاربين

فقال له: "يا أمير المؤمنين، أليس إذا شرب هذى وإذا هذى افترى؟" قال عمر: "بلى"،
فقال علي: "فحد الخمر هو حد القذف والافتراء، ثمانون جلدة".
وافق عمر على عقاب شارب الخمر، وأمر بإقامة الحد على أبي محجن.

لم يكن الهدف من تطبيق هذا الحد، سوى ردع الناس عن شرب الخمر، ونقلهم إلى مرحلة جديدة.. وينبع هذا من مفهوم الدولة الاسلامية للعقاب ، انه ليس انتقاماً من المعاقب بل هو عبرة للآخرين حتى لاتسول لهم انفسهم تكرار عمل المعاقب. وذلك من اجل هدف اسمى في الطريق الى خلق مجتمع مثالي. ولهذا السبب تم ايقاف بعض الحدود عند الضرورة ، فالمجتمع المثالي يمكن ان ينتظر ولكن حياة الناس وسعادتها لا تفعل.

لم يخطر في بال المشرّع أن يكون تطبيق هذا الحد قتل الناس، ولهذا صاحبت اقامة الحد طقوس أخرى ، منها حلق شعر الرأس في ميدان عام أمام الناس، زيادة في الإهانة، حتى يفكّر المشاهد عميقاً قبل أن يمارس الشرب.. وافضل مثل على مفهوم العبرة وليس الانتقام هو غضب عمر الشديد على ابي موسى الاشعري وانذاره إذا غالى في العقاب

كتب لواليه : لئن عدت لأسودن وجهك ولأطوفن بك في الناس.
فقد أقام الحد على شارب للخمر، جلده ، حلق شعره ، سوّد وجهه، وطلب من الناس ان لا يجالسوه ولا يؤاكلوه.

أعطى عمر الشاكي مائتي درهم وأمر أبا موسى ان يدعو الناس إلى مجالسته ومؤاكلته وأن يمهله ليتوب، ويقبل شهادته في المحاكم إن تاب.
هذا الحدث.....قد أرسى فيه عمر قانوناً هاماً
أن الدولة عندما تخطىء في حق مواطنها، تعتذر له وتعوضه عن غلطتها مادياً.

وغالباً لا يعرف المواطن البسيط حقوقه وما هي الحدود التي لا يستطيع النظام تخطيها في حقه. ويتطلب هذا ان يكون الفصل واضحاً ومعروفاً بين السلطات وشعوره ان القضاء اعلى من السلطة التنفيذية وممثليها.
كتب عامر بن الجراح لعمر:"إن نفراً من المسلمين أصابو الشرب، منهم ضرار، وأبو جندل"،
فبعث إليه عمر: "أدعهم على رؤوس الناس وسلهم: أحرام الخمر أم حلال؟ فإن قالوا حرام، فاجلدهم ثمانين، وإن قالوا حلال، فاضرب أعناقهم."

سألهم أبو عبيدة، فقالوا: حرام، فقام بجلدهم.. فلزموا بيوتهم حياءً.

كتب لهم عمر: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فتوبوا، وارفعوا رؤوسكم وابرزوا، ولا تقنطوا. وامتثلوا لقول الله تعالى ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم﴾ آية 53 من سورة الزمر.
فخرجوا إلى الحياة العامة ثانية بعد هذه الكلمات المشجعة من عمر أمير المؤمنين.

اقام عمر حد الخمر على قدامة بن مظعون وعزله عن ولاية البحرين ، وقدامة هو خال اولاد عمر من زوجته الاولى عبدالله وحفصة ، وحفصه هي احدى زوجات الرسول (ص)، وكان شهد بدراً مع الرسول .
وهذا المثل هام ، ففي الدولة الاسلامية يجب ان يخضع الجميع لقوانينها ، لم يشفع لقدامة سبقه للاسلام ولا حضوره بدراً لما في ذلك من اهمية قصوى ، فهي معركة الاسلام الاولى ، ولم يشفع له صلة القرابة لعمر .

الفائدة الوحيدة التي استفادها هي تأجيل الحد حتى يشفى من المرض ، وهذه الفائدة تمنح للجميع وتعطينا القانون التالي:

لا يجوز تطبيق الحد على مريض

وإذا كان لا بد من تطبيق الحد فلا بد من ان تكون الشروط صحيحة لتطبيقه ، فقد احضروا سوطاً دقيقاً صغيراً ، فامر عمر بتغييره إلى اخر كامل فهو لا يقبل المخالفات التي فيها محاباة ، وقام اسلم بجلد قدامة. وتم عزله من منصبه . وهذا يعطينا القانون التالي:

الوالي يجب ان يكون مثلاً اعلى للناس

وكلمة الوالي تنطبق على كل من يتولى مسؤولية عامة سواء كان رئيساً او وزيراً او قائد جيش
بقي قدامة غاضباً من الخليفة ، ولكن عمر صالحه في الحج التالي.
لم يمت قدامة او أبو محجن ولا ضرار ولا أبو جندل، وغيرهم كثير ممن إقيم عليه الحد بسببه ، فالهدف كان تغيير عادات مجتمع بأكمله.

هذا الشاب، عبدالرحمن بن عمر وصديق له يدعى ابو سروعة، وهو أخ لعقبة بن الحارث، ذهبا إلى مصر وأحبا أن يجربا نبيذ العنب حيث قيل لهما أنه يختلف عن نبيذ التمر وأنه غير مسكر ولكنهما سكرا ، وفي الصباح، ندما على ما فعلا، فذهبا إلى عمروبن العاص وقالا له: "لقد سكرنا ونحن نادمان، فطبّق علينا الحد"
فحلق شعر رأسيهما في صحن داره ، وطبق عليهما الحد..
بعد شهر مات عبدالرحمن بن عمر في المدينة ولم تذكر كتب التاريخ ان صديقه قد مات ايضاً.
في رسالته لواليه على مصر التي استدعى فيها ابنه قال:

بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص:

..... عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ وخلاف عهدي. فما أراني ألا عازلك فمسيء عزلك. تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني. إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت ألاّ هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع....

للوهلة الأولى هذه رسالة تتكلم عن المحاباة وكره عمر لها فكل الناس عنده سواسية كأسنان المشط. ولكن ما هو مستغرب في الرسالة نهايتها، وطلب عمر ارسال ابنه في عباءة......

والقتب هو الرحل الصغير او المقعد الصغير على قدر سنام البعير، وكلمة عباءة تثير الرعب في هذا الموضع. لماذا لم يقل في رسالته: فابعث به ...... مباشرةً ، وكأنه يعرف وضع ابنه الصحي، وكأنه يريد ان يلملم اشلاؤه وظهره الممزق.

عندما قدم عبد الرحمن على أبيه عمر ودخل عليه، كان لا يستطيع المشي، ويتدخل الراوي معللاً: من سوء مركبه، أي أن سفره كان مهلكاً له، وهذا الأمر لا يستوي والمنطق، فكل الناس، صغاراً وكباراً، كانت تسافر مسافات أكبر، ولا يصيبها ما أصاب عبدالرحمن..
ويذكر الراوي أن عمر قال: "يا عبدالرحمن، فعلت وفعلت.."
المؤكد أنه عرف أن ابنه يموت بسبب التطبيق المبالغ فيه للحد، فلم يملك سوى القول: لا حول ولا قوة إلا بالله".

أول تناول لهذه الواقعة كان في العصر الأموي، وعمرو في هذا العصر هو الرجل العظيم الذي قامت بفضل جهوده ودهائه وحكمته الدولة الأموية..
ولم يهتم بها بالتفصيل إلا كتاب المنتظم في تواريخ الملوك ج 4، للجوزي، المتوفي سنة 597هـ، أي أن هذا الكتاب قد دون بعد 500 عاماً من الواقعة..
يذكر بعض من كتب عن عمر ومنهم الاستاذ الكبير عباس محمود العقاد ان عمر قد طبق الحد مرة ثانية على عبدالرحمن مبالغة في العدل لانه ابنه ، وانه مات بعد شهر ليس بسبب الحد.

وقد خلط الاستاذ العقاد بين عبد الرحمن الاصغر وبين اخيه عبدالرحمن الاوسط الذي اقام عمر عليه حد الزنا . وهذا الخلط نتج عن استعمال مرجع تاريخي واحد وهو كتاب الجوزي.
عمر، لا يجعل للعاطفة مكاناً في أحكامه ، مهما كان غضبه، لن يقبل على نفسه أن يعاقب ابنه مرة ثانية ولو اراد عقابه لأنه ابنه لأنتظر شفائه من مرضه ، كما فعل مع قدامة .

التحليل المعقول لهذا الموضوع ، أن عمرو بن العاص، قد قام بجلد عبدالرحمن بكل ما أوتي من قوة ، فلقد جاءته الفرصة المؤاتية لينتقم من عمر، بدون أي شبهة، فهو يطبق حد الإسلام، ولا أحد يمكن أن يعترض على ذلك.

وفي هذه النقطة يحق التساؤل : لماذا قام عمرو بالجلد في صحن داره بعيداً عن أعين الناس والمفروض أن الغرض من إقامة هذا الحد هو إعطاء امثولة للناس حتى لا يقوموا بالشرب ، وردع المخالف حتى لا يكرر الفعلة فالتشهير أمام الناس عقاب كبير في حد ذاته ، وكيف سينظر الناس الى ابن خليفتهم وهو يعاقب امامهم ، الا يعزز ذلك مشاعر المساواة ، وهو من اعظم المفاهيم التي اتى بها الاسلام.

وتحق الإجابة، لمعرفتنا بالنتيجة، بأن عمرو لا يريد لأحد أن يرى مدى تعسفه في إقامة الحد على ابن عمر أنتقاماً، ثم تغليفها بمبرر خير فهو لا يريد التشهير بابن الخليفة.

في حديث المغيرة بن شعبة مع عمرو بن العاص قال له:

أأنت كنت تفعل او توهم عمر شيئاً فيلقنه عنك..... والله ما رأيت عمر مستخلياً بأحد الاّ رحمته كائناً من كان ذلك الرجل . كان عمر والله أعقل من ان يَخدع ، وأفضل من ان يخدع.

يمكن ترجمة رسالة العبقري عمر الى الداهية عمرو على النحو التالي:

أنت تعرف المقصد الشرعي من الحد ، الذي كان من وضعي ، وهو منع المسلمين من السكر ولهذا كان العقاب أمام الناس. لو كنت تريد محاباتي فعلاً، الأمر الذي أرفضه، لأرسلت المذنبين الي لإقامة الحد عليهما في المدينة (قدّما نفسيهما واعترفا) ولكنني أعرف هدفك وهو الإنتقام وتعرف أنني لا استطيع فعل شيء فارسل الضحية.

وعرف الداهية أن العبقري يعرف وليس أمامه سوى التمسك بموقفه فقال: انما أقيم الحد في صحن داري على المسلم والذمي .

زهير كمال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى