الأربعاء ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
تأثير عز الدين إسماعيل على
بقلم أحمد سالم ولد أباه

المشهد النقدي في موريتانيا

عشرون سنة من الآن - أو تزيد قليلا- حين أحيل المرحوم عز الدين إسماعيل إلى المعاش، بعد رحلة حافلة بالعطاء، توقف فيها بمحطات علمية وعملية تكليفية، وتشريفية أبلى فيها جميعا بلاء حسنا، فحصد جوائز الدولة التقديرية ، ونال أوسمة التشجيع داخل بلاده وخارجها، أحيل إلى التقاعد إذا في خضم تجاذبات كانت السلطة السياسية طرفا منتصرا فيها، وقد كان الهدف من تلك المضايقات - حسب اعتقاد بعض المهتمين، قتل الرجل على المستوى الفكري، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن ، فأضحى التقاعد ميلادا جديدا؛ حيث تفرغ أستاذنا من المناصب والتعيينات لشأنه العلمي، فانتدب لرئاسة قسم الدراسات اللغوية والأدبية بمعهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة- خلفا للدكتور طه حسين- ، وللتدريس به والإشراف على رسائل وأطاريح أجيال متعاقبة من طلبة البلاد العربية الوافدين والمبعوثين للدراسات العليا، وكان من حسن حظهم خلو باله من أي شاغل عن مبتغاهم ، فكانوا جميعا – بالنسبة له ولعقيلته الدكتورة نبيلة إبراهيم – أبناء يحتاجون للنصيحة ورعاية الأحلام حتى تتحقق، غير أن الوافدين من هذا الركن القصي من بلاد العرب (موريتانيا) كانوا يقعون من قلبه الكبير وحنانه الضافي الموقع الذي يثلج صدورهم ويخدم مهمتهم في غربة التعلم، وقد تجلى كل ذلك - على المستوى الواقعي – في هذا الكم الهائل – والكيف أيضا – من الرسائل العلمية التي نشر بعضها فأضاف حلقة إلى حلقات النقد العربي المعاصر ، وما يزال البعض مرقونا يساهم في تنوير وإخصاب رؤية من يرتادون المكتبات الجامعية التي تحويها، ينضاف إلى ذلك مالا يمكن حصره من العلم المبثوث في "صدور الرجال" ممن تخرجوا على يديه فكان منهم الأستاذ المحاضر ، والإداري النزيه ، والكاتب العبقري ، والشاعر المفلق ، وقد وصل أحد طلابه في هذا البلاد خلال مرحلة من المراحل إلى هرم السلم التربوي وزيرا للتعليم ، فسفيرا متجولا يمثل موريتانيا في كثير من الدول العربية، إلى أن حط الرحال في السودان ، وللتمثيل على بعض مظاهر تأثير الرجل في مشهدنا النقدي نورد ثلاثة مظاهر أساسية:

:1 أثر التدريس: عرف المرحوم عز الدين إسماعيل لدى القارئ العربي ولدى طلابه بالمؤلفات الرصينة في مجال نقد الشعر، واللغويات، والتراث الشعبي، بدأت ببيانه النقدي الأول سنة 1967 "الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" وهو كتاب نهض فيه بتعريف الشعر وتأصيل مقوماته الحديثة، ثم تتالت الكتب بعد ذلك في المجالات المطروقة، للإجابة على أسئلة الماضي، وتذليل عقبات النقد الحاضرة، ثم أصدر كتابه " المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي " و"التراث الشعبي العربي في المعاجم اللغوية" وكتاب " " الشعر قيمة حضارية "و" الفن والإنسان" وغيرها من الكتب التي تظهر مكانته النقدية، وتظهر كذلك أنه لم يتمركز حول ذاته ولا حول وطنه، إذ راح يكتب عن الشعر في اليمن والسودان وموريتانيا، كما سنرى في تقديمه لأنشودة الدم والسناء.

ولقد كان إلى جانب كل ذلك يتنسم أخبار العلم والفن الآتية من أوربا والعالم عن طريق الترجمة، فترجم كتاب " فرديناند دي سوسير " لمؤلفه جونثان كولر ، و" نظرية التلقي" لروبرت هولب ، وبرغم كل هذا فإن ما أثر في الطلبة الموريتانيين تأثيرا بالغا حقا – وجلهم يحضر معنا الآن – كان "موضوعه الخاص في الأدب" والذي يتغير من فصل لآخر في كرسي الدراسات العليا، كان بالغ التأثير لأنه من المسرح، والمسرح - كما تعلمون - محل للإهمال في هذه البلاد سواء على المستوى النظري في جامعتنا الفتية، أو على المستوى التطبيقي داخل المسارح ، ولذلك كانت هذه المحاضرات لافتة للانتباه كثيرا، وكان المقرر هو كتابه " قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر" ويتناول فيه الدراما بوصفها فعلا إنسانيا، لقد كانت هذه الموضوعات الخاصة في الأدب تسند إليه فيقترح لها مواضيع حيوية وإبداعية، بعيدة عن الركود والتقليد، فلقد أذكر - ولعلكم تذكرون معي- أنه في أحد هذه الفصول اقترح تدريس موضوع "أهمية السؤال في إنتاج المعرفة" فكان الدرس مفيدا وجذابا إلى أقصى الحدود ودام عطاءه لا ينقطع في الموضوع ستة أشهر كاملة دون تكرار ولا ملل .

2- التأثير من خلال الإحالة: مما لاشك فيه أن الكثير من المشتغلين بالنقد قد تأثروا بشكل مباشر كما رأينا بعز الدين إسماعيل، لكن آخرين تأثروا به في شكل غير مباشر عن طريق القراءة، لكن المسألة هنا تأخذ أكثر من طريق، فمن الناس من يقرأ لتتكون لديه نظرة عن موضوع من المواضيع على شكل ثقافة مثلا، ومنهم من يقرأ ليكتب وهؤلاء هم محط اهتمامنا في هذه الزاوية من تأثير عز الدين إسماعيل على المشهد النقدي الموريتاني، ويكفي للملاحظ أن يقرأ المنجز في مجال النقد الأدبي الموريتاني، ليرى حجم الإحالات في هوامشها إلى كتب الرجل، مما يؤكد ما ذهبنا إليه، لكن من هؤلاء من يحيل عند الاستفادة ويكتفي بها ، ومنهم من يحيل الأفكار إلى مواطنها من المصادر، ويضيف إلى ذلك إشهار أخذه وتأثره بفكرة ما من فكر الرجل، ومن أولئك محمد ولد بوعليبه الذي حضرته أكثر من مرة يرد الجميل بعد أخذه فكرة "فهم روح العصر " عند وصف مظاهر الحياة الحديثة في تجارب الشعراء المحدثين،وهي فكرة في الأصل من كتاب الشعر العربي المعاصر، عمقها هو وطبقها على الشعر الموريتاني خاصة في وصف الطائرة لدى ابن حامدن، والإحالة موجودة في كتابه "محاضرات في الأدب والنقد

3- التأثير المباشر: ونقصد به التصدي للكتابة حول الأدب الموريتاني ويجد أصدق تمثيل عليه مقدمته لديوان أنشودة الدم والسناء للشاعر المبدع ببهاء ولد بديوه، ويلخص النص وجهة نظر الناقد عز الدين إسماعيل عن الديوان، وعن الإبداع الشعري بصورة عامة؛ فهو يرى أن الشعر رغم طرق المبدعين لبابه منذ القدم فما زال مفتوحا على مصراعيه لمن يريد ولوجه، إن الخصائص الثلاث التي أشار إليها عز الدين في ديوان ببهاء وهي القدرة الفنية، والجدية، والطرافة ، مازالت رغم مرور الزمن تحتل نصيب الأسد من اهتمام القراء بالآراء النقدية للأدب الموريتاني؛ حيث نرى أن د/ محمد ولد بوعليبه في تقديمه للديوان الثاني نشيد الضفاف للشاعر ذاته ببهاء قد انطلق من الخصائص نفسها ليستنطق المكنون الشعري والدفق العاطفي لدى الشاعر، (راجع مقدمة الديوان) 

وبذلك أصبحت رؤية عز الدين إسماعيل مركزية في هذه البلاد وفي أذهان أبنائها لهذه الدرجة ، ومرجعية يصدر عنها الباحثون والنقاد الموريتانيون وغيرهم ، لتمكنه في مجال الثقافة عامة، ولوضوح رؤيته حول مجمل القضايا المطروحة على الساحة الأدبية ، والنقدية منها بصورة خاصة. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى