الاثنين ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

في منتهى الشجن

الدنيا شتاء قاس ومريع.
القرية الهرمة عابسة تحتضن علامة استفهام كبيرة، الريح عاتية، غاضبة، تزمجر بصوت مخيف كأنما تنذر بوقوع خطر جسيم. هذه القرية شبه مهجورة تحلم بأعمدة كهربائية منيرة، وماء صاف وفير.

المطر ينهمر كما الطوفان، يغسل الأسقف القرميدية والطرقات من الأتربة، السكون جاثم كالموت الأزلي فوق الصدور، الكلاب الأليفة انكمشت في مخابئها باحثة عن إشعاعات دفء، القطط المتعنتة بعثرت كل محتويات القمامات من قشور عفنة، وأوساخ تتقزز لها النفوس، عمي رمضان طريح الفراش منذ شهور خلت، يتلوى بشدة، ويئن تحت وطأة المرض الرهيب.

أناس القرية اعتصموا ببيوتهم، وطفقوا يستردون أحلى ذكرياتهم وأينعها، يتوغلون في أنفاقها من غير رتابة ولا عناء، ينطون في سمائها اللازوردية البهية، يؤنسهم صخب المطر العاتي، ويدغدغهم دفء المواقد.

في أتون الحمى يحترق الشيخ رمضان احتراقا، يكاد يذوي كما تذوي الشمعة من جحيمها المستطير، أولاده محفوفون به، يتمزقون إربا إربا لهذا الحطام الذي بلغ من العمر عتيا، عرضوه على أطباء عدة سعيا لعلاجه بيد أن الأمل في شفائه كان ضعيفا مئة بالمئة.
يسعل بصعوبة لا مثيل لها، ثم يبصق بصاقا متطايرا يلوثه دم قان.

الليل الزنجي العنيد يبسط جناحيه على كتفي القرية، يحاول مغازلتها برومانسية حالمة، إنها بكماء، صماء لا تستجيب في مثل هذه السويعات بالذات.
مازالت القرية ساهمة، شاردة إلى أقصى حد، تذرف عبرات الغبن والأسى، يعز عليها فراق الشيخ رمضان إلى الأبد.
ـــ خدوجة، خدوجة.
ند من شفتيها صوت تخنقه الدموع: بالله عليك ماذا تبتغي يا شيخ رمضان؟
ـــ هل بوسعي رؤية ابنتي العزيزة مريم؟
ـــ ماذا تقول!؟ ابنتك مريم!؟
ـــ أود احتضانها إلى صدري الأبوي الرحيم، ألاعبها كسابق عهدي، وألثم وجنتيها الحمراوين.
ـــ ابنتنا الصغيرة وافتها المنية منذ سنين، أتذكر ذلك الحصان الجامح؟ داهمها وهي تمرح بصدق في ساحة القرية الفسيحة، لفظت أنفاسها الأخيرة تحت قدميه.

أنشأ عمي رمضان يشهق كطفل صغير مصاب.
ـــ اهدأ، اهدأ يا رمضان
ـــ كنت أتمنى أن أرى مريم في ثوب زفافها الناصع البياض، وأحظى برؤية أحفادي وهم يتحلقون حولي هاتفين بأصواتهم الصبيانية المرحة: نحبك يا جدنا العزيز، نحبك يا جدنا العزيز.
ـــ أتوسل إليك أن تدع الأحلام الوردية جانبا، ولا تحرقني عذابا وأسى.
انخرطت خدوجة في نحيب ساحق مر، بينما عمي رمضان توقف تماما عن الكلام، وحلق آنذاك بعيدا بعيدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى