الأحد ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

نِسْيان

ربّما أنا الآن في ظروف السقوط في هذا البار الصاخِب اللعين. أشربُ لكي يمُرَّ الزمن... لكي أشيخ... لِكَيْ أنسى الهموم.

لكن همومي تزداد يوما بعد يوم. كأنَّ قوّةً مّا تتعمَّدُ قهري (؟).

سأشربُ المائة درهم التي اقترضتُ قبل قليل.

يقول المتنبّي:

بِمَ التعلُّلُ لا أهلٌ ولا وَطَــنُ

ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكَنُ...

لم أعُدْ أذكُرْ. أحِسُّ بذاكرتي وكأنّها ليستْ ذاكرتي... ليس في ذاكرتي (الآن) سوى برودةُ هذه البيرة، وضوضاءُ تلك الجِهة الباهِتة.

في تلك الجهة، جماعةٌ صاففَتْ قنانِيَ كثيرة؛ خضراء ومتساوية كأسنان المُشط (هل هي فعلا متساوية؟).

لا همومَ لديهم على ما يبدو... هل لديهم هموم؟... من المؤكّد أنَّ لهم هموماً لكنّهم يسترونَها.
أحدُهم ينهض. يتمايل. يتوجَّه إلى المرحاض... ثانيهم ينحني على ثالثهم؛ يقول له شيئاً وهو ينظر إلى جهة المرحاض. يضحكان. مقعدٌ رابعٌ فارغ... على الطاولة جُثَتُ 24 قنّينة سْبـِيسْيالْ...

... أريدُ مِنْ زمني أن يُبلِغَنــي

ما ليسَ يَبْلغُهُ من نفسِه الزمنُ.

أحسُّ بالتعب... بالبرد... البيرة باردة على بالرغم من حمّام الأضواء والضجيج... حياتي كلُّها برودة... وجودي من برد...

آه؛ عادتْ تلك الصورةُ الملعونة! طفلاً كنتُ أشعر بالبرد الشديد. لم يكن غطائي القليل قادراً على إدفائي...

بدأتْ تُمطِر في الخارج...[يمكنُ لكِ أن تُمطِري ما شِئْتِ؛ هذا لا يهمُّني... فلديَّ صديقةٌ تغطّيني وأخرى تُدْفِئني] هذا ما كنتُ أُنشِدُ أيّامَ الجامعة؛ أيّامَ كنتُ أحتمي من الفقر في أبخرة الصدور الكاعبة...
كانتْ سارة المظلّةَ؛ وكانتْ نعيمة المِدْفأة.

أينهما الآن؟

سارة تزوّجتْ بائعَ خرداوات ثرياً، وأنجبتْ منه وَحْشَيْن صغيرين... كرهتُ لمّا رأيتُها تخدمهما كعبدة.
ونعيمة سافرتْ إلى الخارج لتُكمِل دراسَتَها؛ ولن تعود... ليسامحني الله.
ليس في هذا البار مُسخِّنُ هواء. البرودةُ تَسري من قدمَيَّ إلى ضُلوعي... الآخرون اتَّقواْ البرد بالجلاليب الثقيلة والشربِ الكثير.

آه يا ليتني كنتُ غنيّاُ! ...

كفى من الأحلام. الغِنى لا يجيءُ إلى مثلك؛ فأنتَ مُثقفٌ، ذو مبادئ، إنساني، وحيد، فقير.
 بيرة أخرى من فضلك.

 سْخونة أو باردة؟

 ... باردة... البيرة الساخنة مثل البول. البيرة الباردة تؤزِّمُني لكنّ مذاقَها ليس كالبول، ومفعولُها بطيء... هكذا يجيءُ السُّكْرُ مثل تاجٍ على رأسٍ متروكة... هل هذا ما أريد؟... أن أترك رأسي هنا، وأحمل إلى بيتي تاجاً من الوهم؟

أنا؛ ماذا أريد؟

لا أرى هنا سوى قنانيَ تُفرغُ في ثقوب تتوسّطُ أشياءَ يُسمّونَها وُجوهاً... خلف الكونطوار (المنضدة) عقربٌ منحوثٌ في الفولاذ (؟)... أسود؛ وقناني مختلفة الأشكال والأحجام، وتمثال لرجلٍ مشّاء بريطاني ممسِكاً بعصا أو عكّاز (!)، وآلة جمع النقود على مُثلّـِجة عريضة، و(بارميطة) باردة، و(بارْمان) أصلع.

بالأمس كانتْ ساخنة، طازجة، جديدة.

وفي هذا المساء الماطر البارد، أراها تفتحُ ميكانيكياً قنّينة البيرة لذلك البني آدم، وعينُها على ذلك البني آدم الآخر.

ماذا سوف أتعشّى الليلة؟

ماذا سأُفطِر غداً؟

 هل يُسْمحُ لي باستعمال المهتاف؟

ابنُ الأصلع جرَّ المِهْتافَ، ووضعه بين يديَّ من دون أن ينظرَ إليَّ... كفاني الإحساسُ بالإهانة! فهو لا يقصدُ شيئاً.

 بيرة سادسة؟... متى طلبتُها؟...

هل سأجدُها في البيت؟... قالتْ أنْ أتصلَ بها وقتما شِئْتُ. في بيتِها سأجِدُ الدِّفءَ والأكلَ . نِسْيانْ لذيذةٌ كلذَّةِ الخبز الخارجِ توّاً من الفُرْن.

إنّه يرِنّ... يرِنّ... نسيان غائبة... العاشرة ليلا؛ أين عساها تكون؟

أ يكون لها عشيقٌ آخر غيري؟

رنين مِهْتافِها كصوتِ جرس المُنبِّه ذي المِطرقتين. رنينُه يجعلُنيَ أقفِز من مكانِي وأُفلِتُ الكأسَ من يدي...

 أهلاً بكَ يا عُمَر!

 (من يكون هذا البني آدم؟... يبدو أنَّه يعرفني... متى وأين عرفتُه؟)

 لقد أعجبني موقِفُك عندما رفعْتَ دعوى قضائية ضِدَّ مصلحة الهاتِف... أنا معك؛ يقطعون عليكَ الخطَّ عمْداً لكيْ تدفعَ غرامةَ إعادتِه...

 ...

رنينُ مهتافِها كأنّه أُصيبَ بنزلة برد؛ مجرَّدُ قرقعة تُشبِهُ قطعَ ثلج في إناءٍ معدِني... رنينٌ جليدي... لا أحِبُّها أن تخرُجَ ليلا...

للمرّة الأخيرة أعيدُ تركيبَ رقم مِهتافِها:4 8 6 2 ...

يرنُّ ولا أحدَ يُجيب.

هل أخطأتُ الرقم؟

أستخرج مذكّرة وأقرأ رقمَها: 5 7 3 1 ... نعم.

كنتُ أركِّبُ رقمي. وما هاتفتُ إلا نفسي ولمْ أجِدْني... وأنا لا أحبُّ الأعدادَ الفردية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى