الخميس ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

رحلة الخَلاءِ والقِفارْ

حدّثني أبو ضياءٍ؛ قال:

لم أجد صديقتي في بيتِها، ولا الصديق الجديد (الرّجل الذي استعاذ وجهَه)، القادم من بلاد تيـﭬيزيا، ولا (المصباح) الفارّ من بلاد هِلَّوْفِستان، ولا أيّ أحد من الأصدقاء في بلدي غُرْباتيا؛ فخرجتُ لأستقصي خبرَهم، فقيل لي إنّهم عند أستاذنا الجليل أبي جِنان، الرّحالة الشهير تلميذ الشيخ الرحّالة الأول الإدريسي الغرباتي؛ فجريتُ إليهم، لعلمي أنّهم ما اجتمعوا عنده إلا لأمر في غاية الخطورة.
ولمّا بلغت بيت الأستاذ،، أصختُ السمع لعلّي أتعرّف محاضرةً يلقيها فيهم، فما سمعتُ إلا ضجيج الصمت. وكان البابُ مفتوحاً. فدلفتُ إلى البيت، فوجدتهم مُنكبّين على قراءة الكتب في جوٍّ من الخشوع والرّهبة؛ حتّى أنّني اعتقدتُ أنّهم كانوا يُصلّون.

وما إن رأوْني، حتّى أشاحواْ بوجوههم عنّي كما لو كنتُ كريهاً لديهم؛ فتملّكتني مشاعر الغضب والحيرة لكونهم اجتمعوا على تحصيل المعرفة والعلم ولم يستدعوني؛ بل انتابني الحسد لكونهم استفردوا بلذّة كنوز الكتب، وراحواْ يظهرون لي في صورة الأثرياء وأنا فقير دونهم، ولم (يُحاشيها لي) أحد منهم، باستثناء أستاذي الذي رقَّ قلبه لحالي، وقال لي:

 قد علمتُ أنّك مُقبلٌ على زيارة بلاد الخلاء والقفار، وما نحن فيه هو النّصيحة التي رغبتُ في أن أسديها لك، فانصرف إلى مجهولِك، واتركنا في معلومنا...وأضاف:

 ... أنت تلميذي، ومن العبادة ألا يكذبَ الأستاذُ على التلميذ.

فهل كنتُ غير شاعر بالتهميش؟ والله إنّ الحقدَ مرَّ على قلبي وكاد يعصِف به، ولكنّ رحمة الله شاءتْ لي أن أفهم النّصيحة – الدّرسَ الذي خصّني به أستاذي الجليل؛ وذلك من خلال تجمُّعٍ جميل من طلبة نادِرين غارقين في الكتب ليرشفوا منها رحيق المعرفة وذلك بالجهد والمثابرة اللذين هما أساس التحصيل. ولقد علمت في درس سابق أن شعبا سيأتي يستحلي التثقيف المجّاني من دون عناء. ولكن الثقافة الحَقَّة لا تستقر في الأذهان الكسولة.

فعُدت أدراجي لكي أركب أمواج المحيط الودي رأساً إلى بلد الخلاء والقفار الواقع شرق المعمور. فدخلته من الجنوب وكان في اعتقادي أنني سأجده قفرا بسبب ما أوْحَتْهُ لي تسميته؛ والواقع أنّه كان بلدا آهلا بالناس وكانوا يشبهوننا إلا أن أبدانهم كانت ضخمة. كانوا شبه (الدنافيل)، لهم كروش غليظة وأيادي قصيرة وأعضاء تناسلية بحجم (الفـﮕوس) ورؤوس كروية لكن بها ثقب في أعلاها؛ ثقب يتّصل مباشرة بآذانهم المجزوزة، بحيث إذا ما ولْوَلَت الرياح في الآذان، صفَّرت الرؤوس. وما كان هذا الصفير ليُزعجهم، إذ كانوا يعتبرونه نوعا من التعبير عن مشاكلهم، وأيّ تعبير ممكن لشعب رأسه خاوية؟

وإنّك تسأل لماذا سمَّوه بتلك التسمية ولهم غابات ووديان وسهول وحيوانات وساسة ومشعوذون ومطربون و(مُشقَّفون) ورياضيون واقتصاد؟ ذلك لأن لا شيء يحدث في بلدهم؛ فلا قلاقل ولا حروب ولا اقتصاد ولا ثقافة ولا هم يحزنون، ولا صداقة ولا حب ولا سياسة ولا معاش ولا كرامة ولا أي شيء... فهم قوم؛ عندما يفيقون يأكلون ويذهبون إلى عملهم في ذلّ وخضوع، وعند الغداء يأكلون ويعودون إلى الذل، وفي الليل يأكلون وينامون على مشاهدة صندوق زجاجي فيه صور رديئة وطرب فظيع؛ شعارهم:[الدنيا هانية والسماء صافية] ولم أكن لأفهم هذا الشعار البليد. وأنت أيها القارئ الحزين؛ هل تفهم؟ ولقد قضَّيت فيهم أسبوعا كاملا أتجول في شوارعهم وفي أزقّتهم، فراعني أنّني لم أر ولو كتابا وحدا يباع أو يُقرأ. ولمّا تطرأ فيهم مشكلة، لا يفكِّرون في حلِّها بأنفسهم، بل يستدعون لها من هم أجدر على حل المشاكل، فيأتونهم الأجر الفاحش. وكلّ ذلك بسبب أنّهم فقراء الذهن؛ وهذا أمر طبيعي فيهم إذْ لا مُخَّ لديهم؛ وكيف يُمكن للمُخّ أن يستقر في رؤوس مثقوبة والرياح في الجماجم تصفر؟ ومع كل ذلك، فلقد عرفت امرأة اسمها قمر الزمان... أسم بديع؛ لكن - وعلى الرّغم من جمالها الفاتن - لم تقدر أن تكون مُلهمتي في تلك الرِّحلة؛ وذلك بسبب الصفير الذي يحدثه رأسُها الفارغ متى تهب الريح.

كانت الجلسة معها أشدّ إيلاماً من عذاب جهنم. والواقع عندهم أنّ السعادة تأتي من فراغ الرأس، ولذلك عمد أثرياؤهم إلى فتح رؤوسهم بالآلة، وإفراغها من أيّة بقيّة من المخ لكي يرتاحوا ـ إلى الأبد ـ من ويلات التفكير.

 فهل نقتدي بهم؟

 لا!

 أهلا بك ـ إذن ـ في بلدك الجديد؛ غرباتيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى