الثلاثاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

أسهم واتجاهات

يدعى أبو نوال... فقد أعتاد عليه الناس في تلك المنطقة من المدينة الصغيرة، وهو يجوبها جيئة وذهابا حاملا نسخة من جريدة لم يعرف تأريخها، هل هو قديم أم حديث؟ فارقاً شعره الكث من الجانب الأيمن، فحين ترى رأسه كأنك ترى جبلا وواديا معبد الطريق، يحب الاعتناء بلبسه، خصوصا متى ما رفع البنطال إلى أعلى من سرته، كاشفا بذلك عن الجورب، الذي نحلت خيوطه من كثرة سحب، حتى استقرت كحجل في بوع أرجل، أما الحذاء فقد ندم على حظه حين قطن مع تلك الأقدام، التي لم تكل من الدوران في شوارع كانت دلالتها أسهم لاتجاهات مختلفة، حفظها هو عن ظهر قلب، يبدو سعيدا في ذلك اليوم الذي جلس في أحد المقاهي، طالبا كأسا من الشاي الأسود مع كأس من الماء البارد، فتح الجريدة ووضع رجلا على رجل، فكشف عن ساقا مردة ضعيفة فقدت العافية كصاحبها، كان يجلس قبالته اثنان سرعان ما ضحكا فيما بينهما على وضعية شكله وحركته تلك، فقال: أحدهما للآخر، سبحان الله من يرى شعر رأسه لا يمكن أن يقول إن هذه الساق تعود إلى نفس الشخص، قهقهه صاحبه وعلق قائلا:
 إن ما تقوله صحيح!! ولا أدري كيف يكون شكله بلا هذا الشعر، والذي أعتقد أنه لم يحلقه منذ عشرين عاما ..ها .. ها .. ها، أششش...

قال صاحبه: انظر انه أدرك أن الحديث عنه والضحك عليه، صمتا بعد أن دمعت عينا صاحبه من منظر مألوف لديهم، ولكنه اليوم كان غريبا بعض الشيء لهما، ولا يعلمان ما الغريب فيه لحد الآن، عاد هو يقلب صفحات الجريدة ذات الأخبار القديمة، بعد أن أحضر عامل المقهى الشاي والماء له، وأشار له أن يضعهما في نفس المكان الذي أشار إليه عنه، لم يستغرب العامل فقد اعتاد ان يرى الكثير من الزبائن ألغريبي الأطوار، أما أبو نوال فهو من علامات ورموز المدينة، والذي إن غاب افتقده، لا لأهميته وإنما للتعود عليه وحركاته، اتجه الاثنان إلى قراءة عناوين الجريدة، محاولا أحدهما معرفة تأريخ صدورها، إلا أن أبو نوال كان يتصفح بسرعة، ومن ثم طبقها ووضعها إلى جانبه، رمى بأصابع يده على ملعقة الشاي، ممسكا بها بشكل مميز، أخذ يحرك الشاي وكأنه يجدف بقارب ركد من كثرة انتظار، مد يده الأخرى لشرب الماء، رافعا رأسه إلى الأعلى لسكب أخر قطرة منه، وعينيه لم تفارق دوران وحركة الملعقة، مسح بعدها شفتيه وشاربه، الذي سُقى بعد أن جف من كثرة حديث نفس، أخذ الشارع يزداد بالمارة، وكذلك رواد المقهى، الذين ما أن يدخلوا حتى احتلوا مكانا يبعد عن أبو نوال خوفا من الاحتكاك به، هم يعلمون انه لا يمكن أن يؤذي أحدا، ولكن لا يريدون إثارة حنقه والاستماع إلى خطبه، التي لم تتغير مع مرور زمن، خصوصا حينما يطلب من رواد المقهى الجلوس حيث يؤشر لهم بأصبعه، وفي أي اتجاه يريد، وإن لم تفعل يقوم هو بسرد حكاية الاتجاهات وأسهمها المختلفة، كل هذا والاثنان لا زالا يوزعان الابتسامات على هيئة أبو نوال وشكله، وبعد أن ضاق بهم ومن تغامزهم عليه، نهض واقترب منهم في اتجاه مستقيم وقال: ماذا بكما لقد شعرت بأنكما تحاولان الضحك علي، فقد بقيتما تتطلعان إلى كل حركة وفعل أقوم به، ماذا تريدان؟؟
أسرع أحدهما بالإجابة قائلا: عذرا أبو نوال، الواقع كنا لا نعنيك بما ظننت، ولكن صاحبي هذا أراد وبعد أن قرأ عنوانا في الجريدة لفت انتباهه، بعدها أراد أن يعلم تأريخ صدورها، لكنك لملمتها قبل أن يتم ذلك، فضحكنا على هذا الموقف، استميحك العذر، كان هذا الرد بأدب كفيل بأن يهدي من أعصابه، إلا أن ذلك الصاحب تحدث وقال: هلا قلت لي يا أبو نوال! ما هو تأريخ صدور هذه الجريدة؟ عذرا يبدو أنها قديمة جدا كقدم تسريحة شعرك هذه .. وقهقه بصوت عال، لم يتماسك نفسه صاحبه الآخر فأطلق فمه للضحك، ومن كان قريبا.. فسرت الضحكات كطلبات موزعة، وقف هو يتطلع إلى الوجوه، التي أخذت أشكال مختلفة بين أفواه مفتوحة وأخرى متشنجة، سحب نفسه إلى الاتجاه الآخر، وصعد على أحد المقاعد وقال:
 مهلا .. مهلا يا من تفتقت جيوب وجوهكم قهقهات، والله لا أدري ما الداعي لذلك، إن أبو نوال هذا رجل صنع لنفسه أسما أفضل منكم، فيكفيني فخرا أنني لست ممن يلبسون الأقنعة عندما تتغير المواسم، ولست ممن يدبر حين يقدم الصعب، ما لكم يتطاير الرذاذ من أفواهكم، تلك التي لُجمت خوفا، وصرتم كذباب فتح له باب الحرية، لعلكم نسيتم أننا لا زلنا بين مقصلة وزمن، ولعل دموعكم الفَرِحة من الضحك هذه هي عنوان حزنكم الخفي، لا أدري ماذا حل بكم؟؟ لقد تخبطتم وما عدتم تفرزون الطيب من الخبيث، وأصبحتم كالعنز حين يطلق الريح ويعفط، لم يترك ورائه غير ريح فاسدة، ومخاط متدلي على شفاه يلعقها لسان شبع مرارة من صمت، وغيركم يطلق الريح لساقيه بعد نهب وسلب، تاركا الغبار المتطاير يعمي أعينكم عن الحقيقة، التي تعلمونها ولكنكم توارون، لعلي قديم بشكلي هذا، فأنا لم أتأثر بمستحضرات التجميل، والتي لبستموها وجوها مستعارة، وتعطركم بأريج التجدد الحضاري، ونسيتم عمق تأريخكم وموروثات الأصالة، التي تربيتم عليها، ألم نشبع من قهقهات وأحاديث ممن تسلطوا بعبارات وطنية، حين كان الظلام يغطي حتى العقول التي نحملها، فترانا اليوم نتخبط في اختيار السير والى أيةِ اتجاه، لذا أراكم تضحكون وترموني بالجنون، حين تروني أسير في عدة اتجاهات مختلفة، وأنا أفعلها لا لشيء، سوى رغبة في أن أجد الطريق الذي يؤدي إلى نهاية مطاف، لقد مللت السير نحو أسهم واستدارات تقود دوما إلى نفس الحلقات المفرغة، كانت الوجوه الضاحكة قد لبست وتغطت بغمائم سوداء، أطبق الصمت على مخارج أنفاسهم، بعضهم لام نفسه، والبعض الآخر أدرك أن هذه الخطبة قد سمعها من قبل، لكن لم يتغير شيء، فهو لا زال يلقيها بين حين وحين ويسمعها الناس، وقد يتأثرون حينها، لكن ما أن ينزل من منبر خطابته، حتى تتناثر المفردات مُدبرة ضائعة بين ضجيج وزحام، كإطلاق ريح في زحمة سير، نزل أبو نوال وجلس على كرسيه، واضعا رجلا على رجل، فاتحا الجريدة القديمة العمر، ومن ثم نهض مسرعا مطبقا إياها تحط أبطه، مطلقا لرجليه السير في اتجاهات مختلفة، عله يجد الاتجاه الذي ينشده في وقت ما، من عمر الحياة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى