الأربعاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بِطالْيا

حدثني أبو ضياء؛ قال:

وجَدَتْني المُشرِقةُ في تأمُّل عظمة البحر؛ لا من حيث كونه أكبر منشآت الله الأرضية، لكن من حيث هو سِرُّ الأسرار. وتخيّلت القصص الرائعة التي يمكن أن يحكيها، إذا ما أتيحت له فرصة الحكي وكانت لنا القدرة على الإصغاء. تخيّلت المخلوقاتِ الساحرةَ التي تعيش في عتمته اللّجِّية، اللآلئ والدررَ المُستقرّة في صدور صدفاته المحجوبة، الذهبَ اللمّاعَ الذائبَ في مياهه المالحة، بواخرَه الراقدة في الأعماق، وأطيافَ قتلى الحروب التي دارت على سطح أمواجه المتلاطمة. وتطلّعتُ إلى الشمس التي بدأت خيوطُها الباردة تضايِقُ عينيَّ، وقلت لها:(لقد آن أوان زيارة الجنّة) وكنت أقصد زيارة بطاليا؛ البلدَ الذي زيّنَتْه لي الصحف بوصفها المُغري. قالوا:[هناك العيش رَغَدٌ إلى أبعد الحدود، ويكفي المرءَ أن يقول:[خبز، حلوى، خمر، ديوان، امرأة جميلة، لحمٌ مشوي، عُملةٌ صَعْبة...] فتحضر هذه الأشياء من دون مشقة. وإذا لم تقدر الأرض على تلبية طلبات الطالب، فما عليه إلا أن يتوجّه إلى السماء ويزمِّرَ لها قليلا، فتنسكب عليه أصناف المشتهيات. ولا عمل ولا (باطرون)، ولا فقر، ولا تسريح في بطاليا ... و(لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون). أ ليست هذه الجنّة على الأرض؟

ياه! ما ألذّ العيش إذا كان كلّ ما تحلم به يحضر بين يديك على إشارة من إصبع! وقيل لي:[في بطاليا يعطونك بيتا فاخرا له واجِهتان، وامرأة شهباء طرية على الدوام، ولا تنجب سرتها أوْباشاً، وليس لها عائلة تبتزّ المال، ومعها سيارة فخمة وحساب في البنك، وكلّ ما تريد يا مسكين...] فسِرت في ذاك الصباح الجميل رأسا إلى بيت أستاذي أبي جنان، فوجدته غارقا في عرقه يصلِّحُ ركنا من بيته العتيق ويشرب من ماء بِئْره الأجاج وهو سعيد. فلما رآني، اصطنعَ عدم رؤيتي وبان عليه الغضب، فضربت يدي في مواد البناء لأساعده فثارت ثائرته، وقال لي:]لا يحق للكسول الواهِمِ أن يضرب يده في (بوصْلانة) البنَّاء[ ولَمْ أفهم قصده، فقال:[لقد طغى عليك الوهم والحلم؛ وإذا كنت تعتقد أن الجنّة موجودة على الأرض فأنت والله حمار]. وكتمتها في صدري لأنني لم أفهم، وتوجّهت رأساً إلى صديقتي وفاء لأطرح عليها هذا السؤال:
ـ هل يحق للمسكين المستضعف أن يحلم؟ فكان ردّها:
ـ البلد الذي تسأل عنه؛ لا أريد أن أكون امرأة من نسائه لأنه شكل من أشكال جهنم. وانكبّت على كتاب.

وركبت الرحلة؛ فإذا ببطاليا بلدٌ له بوابة ورقية. دخلتها سنة 840 من سنوات الذلّ. فماذا بعد؟ وجدت حكمةَ أستاذي التي لم أفهم ساعة غضبه مني:فلا فلوسَ ولا حلوى ولا هم يحزنون. والناس ليحْيَوا، توجَّبَ عليهم أن يعملوا كالعبيد:غسلُ الأواني في خمارات أغنياء البلد، مسحُ سياراتهم، جمعُ نفاياتهم وخُرئِهم، المتاجرةُ في جميع أصناف المخدرات، وأمورٌ أخرى لا مثيل لها إلا في مكان نُسمّيه جهنم. وإنني أحمد الله لكوني اصطحبت معي ما يكفي من المال لتفادي الحاجة، ولولاه لاضطررت للعمل المُهين. وكان أن تعرّفت على شقراء من شقراوات البلد اعتقدت للحظة أنها ستعطيني نفسها مجانا و لكن، هيهات أن يحصل الواهمُ على مبتغاه! إذ ما كان منها إلا أن قشْقشتني من المال. وكنت أضنُّها من عصافير الجنة، ولولا وريقات مالية أخفيتها في جوربي لما استطعت العودة إلى بلدي غرباتيا. وكانت تلك الجِنّية الجميلة قالت لي:[كثيرون هم من يحلمون بالجنّة في بطاليا ولكن مصيرهم دوما العذاب أو الطرد أو الضياع] وأضافت:[هل هم حمير أم ماذا؟ هل هناك ـ فعلا ـ جنة في الأرض؟] وإنّي أخاف أن يأتي جيل شابٌّ يعتقد مثل هذا المعتقد السخيف فيرمي بنفسه إلى البحر ويهلك. فعُدت إلى بلدي...إلى بيتي المتهالك لأصلحه بيديَّ... فلا جنّة إلا جنّة العمل الشريف.

ـ هل أنت مع العمل وحبّ البلد أم مع الكسل والهجرة والوهم؟

ـ مع حُبّ البلد والعمل الشريف؟

ـ إذن مرحبا بك في بلدك الجديد - القديم... غُرْبَاتْيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى