الأربعاء ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

خبر عاجل...

أَستيقظ قبل تثاؤب الشمس، أَتململ بين أفكاري المتدفقة، وحيرتي، وسريري العاري من وهج الأحلام، أَتناول كتابا لا يزال قابعا على يمين وسادتي، أُشعل فتيل رغبتي بقراءة ما تبقى من رواية سكنت دفتي كتاب منذ عصر قياصرة الروس، ثم أغيب في حياة أخرى، تاركاً وراء ظهري تلك المدن الغارقة بمستنقع الطغاة، اقرأ الصفحة الخامسة بعد المئة الثانية، تحدثني نفسي بميول كاتبها الاستسلامية، لكنه يستسلم لمن؟ بالطبع، لرغبات بناته الثلاث، فزوج ابنته البكر غالباً ما يقضي وقته خارج البيت، في العمل، أو مع أصدقائه، يتنافسون بلعب الورق، ولا يتبادلون الحديث إلا بين الحين والآخر، هي تقضي وقتا بين تحضير طعام صغارها الذين تكثر طلباتهم يوما بعد يوم، وبين مداعبة جهاز البحث عن القنوات التلفزيونية، لا يستقر رأيها على قناة بعينها، قنوات تصور أحداثا غير مألوفة.... بركان من الغضب، صراخ ودماء، ورايات حمراء وسوداء وصفراء وبيضاء، أضواء بألوان مختلفة، وخطب وأصوات متداخلة، أفواج وحشود تتجمع في الميادين، تستقر على محطة تعرض محاورة سياسية بين متحاورين اثنين، ومذيعة حسناء بالغت بتزيين نفسها، حتى تخالها تجذب انتباه المشاهدين أكثر من جدال محاوريها العقيم.

اترك الكتاب جانباً، أُجهز فنجان قهوة سادة فأنا أحبها بدون سكر، أظن بأن السكر يذهب طعم القهوة، فللقهوة طقوس، آخذ رشفة، أتذوقها بلساني، أقلب أفكاري، بعدها أحزم أمري، أرتدي بنطالي الجينز، وحذائي الرياضي، أتأكد من عدم نسيان آلة التصوير التي تصاحبني بكل جولاتي في البلدة القديمة، أنا في كل مرة أنزل إلى القدس أحمل معي سعادتي وتعاستي، حزني وفرحي، إرادتي ويأسي، مللي وشوقي ، أحمل أعباء سنين من البؤس والخيبة، لكنني أمشي على درجات الزمن الذي أراه متجليا على قسمات الجدران التي عاصرت التاريخ، أسير بمحاذاة العيون القابضة على الدمع، لا تسمع أذناي سوى معزوفة تشدو بها أيام معدودات كنت قد عشتها في ظل أناس كالفراشات في رقتهم، في هذه المرة سرت عبر أزقة تركت عرضة للدخلاء، كانت أبواب البيوت مغلقة من الداخل، يقف أمام بعضها رجال برائحة غريبة، تشبه رائحة الخل، أيام كانت جدتي تضعه مع اللفت لصنع المخللات الذي تلونها باللون الليلكي، أما وجوه الغرباء فألوانها ليست ليلكية، إنما هي سوداء بلون الحقد المنبعث من عيونهم الرمادية، سرت عبر عقبة الشيخ حسن في طريقي إلى عقبة الميلوية، كان يربط بين العقبتين زقاق آخر تكون بعد بناء مدرسة الميلوية، لا يزيد طوله عن بضعة أمتار، وهناك قرب المسجد، وتحت القنطرة المظلمة لفت نظري مدخل حوش معتم، تنبعث منه رائحة الرطوبة التي اعتاد عليها أنفي منذ نشأتي الأولى، دفعت الباب بهدوء لأرى إلى أين ينتهي هذا الحوش المعتم؟

كسرت العتمة بضوء هاتفي النقّال، عبرت إلى نهاية الحوش، حسبت بأنني سأرى ساحة أو درجا يؤدي إلى ساحة فيها بئر وشجرة نخيل تتوسط الساحة، هذا ما فكرت به، ولكن الحوش لم ينته إلى ما حسبت، بل وجدتني بين مجموعة من الأبواب التي اهترأ لون دهانها، وأكل السوس أجزاء كثيرة منها، سمعت خلف إحداها صوتا مألوفاً، تبين أنه صوت (بابور كاز) يصدح بمعزوفة أعادتني إلى الوراء عشرات السنين، طرقت الباب طرقات خفيفة، لم أسمع ردا من الداخل، فأعدت الطرق عدة مرات بصوت أعلى، وكنت أصغي بين الطرقة والأخرى لعلي أسمع إجابة ما، زاد فضولي، قلت في نفسي سوف أحاول مرة أخيرة، فطرقت الباب ثلاث طرقات بكف يدي، قربت أذني من الباب أكثر على أمل سماع إجابة على طرقي المستمر، إذ من غير المعقول أن لا يكون في الداخل أحد خاصة وإن (البابور) الذي لا يخفى علي صوت اشتعاله، عدت وطرقت مرة أخرى، خُيل إليَّ بأنني سمعت صوتا ممزوجا بقحة مع ضجيج (البابور)، دفعت الباب بأطراف أناملي، وتسللت بنظري لأرى صاحبة الصوت المحشرج، قالت لي وهي مطمئنة: " شو السيرة جاي اليوم بدري؟" في البداية استغربت كلامها، وفيما بعد، تبينت أنها لم تقصدني بسؤالها، إنما تقصد حفيدها "محمد" الذي كان يأتي لخدمتها مرتين في اليوم، وأحيانا ثلاث أو أربع مرات، كانت امرأة طاعنة بالسن، ربما عاصرت العثمانيين، لم أتبين ملامح لها فقد غرقت ملامحها بين شقوق وتجاعيد سنين طويلة بطول القرن الماضي، وكان حفيدها محمد شابا فتيا يقدم المساعدة لجدته، وأحيانا يدعو أقرانه لسماع بعضا من قصص الجدة العجوز، هي لم تفقد ولو قليلاً من ذاكرتها برغم السنين، تحدثهم عن (السفر برلك)، ووعد بلفور، والتقسيم، ودير ياسين، وحزيران، و242، وتشرين، والليطاني و"سلامة الجليل"، وأوسلو، وكل الأسماء، تحدثهم عن كوابيسها، مع كل خط من تجاعيد وجهها هناك حكاية تشبه أساطير ألف ليلة وليلة، واليوم دون كل الأيام، جاء محمد يبحث عن مكان يجلس فيه بجانب جدته، يهمس بأذنها فتبتسم ابتسامة عريضة، لا يظهر بفمها سوى سن أمامي واحد، لا أدري كيف حافظت على بياضه ومتانته، عجبت كيف اختطف محمد ابتسامة بهذه الروعة من وجه غمرته المأساة؟ تشوقت لمعرفة السر، قبل أن أغادر هذا القبو عائداً إلى منزلي، أقلب أفكاري، لم أهدأ حتى استقر قراري بالعودة إلى زيارة هذه العجوز، وهذا ما فعلته بعد خمسة أيام، فوجئت عند وصولي، فالحوش المعتم تغمره الانارة، والأبواب القديمة بُدِّلت بجديدة، والقبو خالٍ من العجوز، والبابور بُدل بتلفاز، رأيت القبو قد اتسع بعد إفراغه من كراكيبها، وزُيِّن بألوان وردية، ثلاثة من الشباب يجلسون أمام أجهزة حاسوب حديثة، يمررون أصابعهم فوق لوحة الحاسوب بلياقة، ينقلون أفكارهم على صفحات "الفيس بوك"، ويستمعون إلى بث مباشر على قناة الجزيرة، خبر عاجل بكل دقيقة، العجوز رحلت قبل يومين، رحلت دون تشييع، ومحمد يجلس على كرسي خشبي، أمام طاولة عليها حاسوبه الشخصي، الذي يتنقل معه أينما ذهب، جلست ساعة بكاملها، لم أجد منفذا للحديث، كان يشغلهم أمر جلل، لم أشأ التطفل عليهم، حملت نفسي، ولملمت بقايا حيرتي، وأخذت أبحث عن مواصفات حاسوب أشتريه...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى