الخميس ٣ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أحمد الحارون

فى ميدان التحرير

تعالتْ صيحاتُ المقهورينَ، وحَّدهم القهر، وقادتهم المعاناة، ومِنْ بعضهم استمدوا الإرادة واستدانوا القوة، فكان المشهدُ مهيباً، رأيناهم يتحررون من أغلالهم، ويحطّمون أبوابَ القُصور الموصدة، والتى زعموا أنها غير قابلة للتحطيم.

كتبَ الشبابُ بدمائهم (ارحلْ)، وطوائفُ الشعبِ خرجتْ من مناجم الغضب لتزلزلَ الأرضَ وتعلنَ أنه لا يرضخُ الطّغاةُ لواقعِ الحياةِ إلاّ إذا تحطّمتْ عروشهم، أو بعد فوات الأوان

فقد خلقَ الله البشرَ في الحقوقِ والواجباتِ سواسية، لكن فراعنة الظلم وزبانيته أبوْا ذلك.

كانتْ شعاراتُ المساكينِ القناعةُ، ولقمة العيش الحلال، جدرانَ بسيطة تحمى البدن من قسوة الطبيعة، الأمن على النفس والعرض، وامشِ يا ابنى جنب الحيط، وهذا هو الحد الأدنى لكلِّ أدمى يدب على الأرض.

وكانتْ

شعاراتُ الأقوياءِ الجشع والبطر ونشر الفساد والإفساد، رأيناهم يعيثون فى الأرض ويتيهون بالإفك، ويختالون بالتزوير، ومن كثرة اعتيادهم عليه صاروا يصدقونه، يرهبون بنى جلدتهم، كأن بقاءهم يستدعى سحق الآخرين، ويوجهون لبنى وطنهم رصاصاتِهم، وتحنو أيديهم على عدوهم، ويبذلون فى رضاه الغالى والنفيس.

أى جور هذا ؛؛؛ وأى عدل أعرج؛؛؛ وبأى منطلق يخاطبون شعباً سقوّه الذلَّ ألوانا؛؛؛
تعصرنت تِجارةُ الرّقيقِ، فرأونا كالعبيد أو أدنى، وتحضّرت أساليب القهر والقمع وتمرسوا فيها لتطول العرض والشرف.

قد نعانى

من شظف العيش فنصبر، قد يسرقون أحلامنا فنحْلُمُ، قد يبددون الثروات فلا نبالى، لكن القسوة كل القسوة فى تكميم الأفواه ووأد الحريات،

شعور مهين وبالغ فى الإهانة حين ينتابنى الإحساس أنى أحيا فى بلدى غريب، ليس لى حق الاعتراض، أو حتى حق الشكوى

ووصل القهر

منتهاه حتى دخل بيوت الله ومساجد الله، فلا يُقال على المنبر ما يُعارضُ النظام، ورأينا عاملَ المسجد ينهى ويأمر ويؤذن ويقيم الصلاة ويؤم الناسَ، ولا أحدٌ يعترض ولا نغير إلا بأضعف الإيمان، فكأنه مخولٌ من قِبل الله ليرعى بيته، أو من قبل أمن الدولة ونظامها ويراقبنا، فشكوى منه بسيطة لا تعرف أمك أين أنت؟ على وجه الأرض تقطن أم فى باطنها؟

كنا نسمع عن أيام الرقِّ والإماء فى الجاهلية الأولى، وحارب الإسلام العبودية وكثرتْ المخارج للتخلص منها، لنستيقظ على رقٍّ متحضر وسبيٍّ متعصرن وبأساليبَ جديدة.
ونسوا أنه:

لا فرقَ بين رقيقٍ أسودٍ ورقيقٍ أبيضٍ فالرّقُّ هوَ الرّقُّ، ومنتهى أمل العبد أن يتخلص مما يعانى، وأنه لابد من يوم فيه يثور، ويحطم الأصنامَ التى عذبتْ، وسلبتْ منه حياته وآدميته، حرّمَ الله الرّقَّ في كتبهِ وأحلَّالسّفهاءُ من الحكام والأنظمة العفنة رقَّ النّفوسِ والعقولِ والقلوبِ والفكر.
ليعلم كلُّ حاكم أن مآله لله، وهو عن شعبه محاسب وأنه:

لم ولن ولا تتحقّقُ الإنسانيّةُ كاملةً ونحن مازلنا نؤمنُ بعرقٍ ولونٍ ونستهينُ بالنّفسِ البشريّةِ وقدسيتها وحقوقها كاملة.

كفلَ الله

حرية العقيدة والعيش للجميع فى إطار تشريعات وأعراف وقوانين تصون المجتمع كافة،
ولا تكتملُ إنسانيّتنا ولا يعلو شأننا ونحن يحركنا الشّوٌق لاستعبادِ الضّعفاءِ، فلا يجب أن تستهيِن بنفسٍ بشريّةٍإذا سكنتْ جسداً هزيلاًأو جائعاً، ومن تعصّبَ لعرقٍ أو لونٍ أو سلطة أو منصب أو جاهٍ فقد اقتلعَ من بواعث نفسهِ رياحينَ الشّفقةِ ونوافذ الرّحمةِ.

فالتّعصُّبُ

والأنا والمنصب وحوش مُفترسة تدفعُ بصاحبهِا في الغاباتِ ليتربّصَ بفرائسَ ضعيفةَ، فــ إياك وإياك ألا تفهم طبيعة شعب يعيش هادئا ويفيضُ ليونة كماء النيل، ويحارب قسوة حكامه وشظف العيش ببعض النكات أو التهكم أو السخرية، لكنه حين يغضبُ يدبُّ كالفيله، ويزأر كالأسود ولا يوقف مده وزحفه شيءٌ.

ويا من بكرسيه التصق وطاب به المقام لعقود، فهو بلا وعيٍ ضاعَ في متاهاتِ الكراهيّةِ، وفى سراديب التوريثِ حلم ، وتمنى أن يخلق جيلاً سياسياً يقود ويتوارث عبر أحفاده دفة حكم البلاد لعصور قادمة،

أقول لهم:

تبّاً لكم وفى مزبلة التاريخ غير مأسوفٍ عليكم، ولتكونوا لمن بعدكم عبرة، ومن غدرَ بشعبه وحرمه أبسط حقوقه ما كان ليأمن أن يدبَّ السوس وينخر فى كرسيه، فويل لكَ لأنك تشوه جمالَ الإنسانيّةِ.

من يستشعرُ بالمنصب والمال أنه قد قوى، فإنه يُقوّيِ في نفسهِ الغلبةَ والتّعالي على النّاسِ، وهو بدونهم لا يساوى شيئا، ويقرر قانون الغابة والبقاء للأقوى، وهناك دائما من هو أقوى منه وأعز.

فبدلاً من

أن يشرّعَ نوافذَ عقلهِ لأفكارِ الأممِ لكى يثقف شعبه بالوعيِ والمعرفةِ، يحاور ويستمع ويناظر ويُقنِعُ ويَقتنعُ بالحجة ولديه أهل الرأى والمشورة، رأيناه يضيع التعليم ويرقع فى المناهج لترضى عنه أقزام الأمم ، ورأينا من ولاهم أمرنا يتاجرون بأمراض الناس ويستثمرونها فتبّاً لكم.
أيها الحكام:

من تحصن بالمعرفةِ والحكمة والتعقل وأهل الرأى والمشورة سبرَ أغوارَ الحقيقةِ، ومن نهض بشعبه يوقن أن تعدُّدِ الثّقافاتِ يزيدُ من المعارفِ والوعيِ.
وحين تتخلّصون من غرورِ المنصب والعِرقِ والدِّينِ واللونِ فقد حقّقتُمُ الإنسانيّةَ فى أبهى صورها.

فإن الإنسانيّةُ من المُستكبرينِ تخجل ومن الفراعنة تهزأ.

وشريعةُ الإنسانيّةِ أشرفُ وأفضل الشّرائعِ.

فإياكم والجهل

فالجاهِلُ من ينشرُ غسيلَ شريعتهِ ودينهِ على شرفاتِ تعصّبهِ وأنانيته لكرسيه
ولا كرسى دام ولا منصب ولا جاه، فاسألوا التاريخ عن قارون وهامان والملوك والأباطرة، إن التاريخ والماضى هو بمثابة إفساح الحياة لأنبياء وصالحين وقادة لأن يعيشوا بيننا، يصوبون...ويصححون لنا ما إعوج، والحاكمُ الطاغيةُ فى دولةٍ ضعيفةٍجاهلةٍ يظنُّ نفسه المشيئة المطلقة المنقذة التى لا تُخطئ، فيفسد ونظن فساده إصلاحاً فنصفق له، حماقته لدى شعبه منتهى الحكمةِ فنرددها كببغاءَ دون فهمٍ، شعوذته ضرباً من ضروب النبوة التى يُوحى إليه بها، فلابد أن يكون فى الأمةِ عقلها المصوب وقانونها الرادع الذى لا يحابى أحداً ويستوى عنده الوزبر والغفير.

والإنسانيّةُ دينُ الحياةِ البشريّةِ.

ومن تركَ المبادئ الصّحيحةَ ابتعدَ عنِ اللهِ، وضلَّ وكفرَ من نظرَ لدينِ اللهِ ولمن يدينون به نظرةَ كُرهٍ وعدمَ مبالاةٍ، بل سقطَ من الإنسانيّةِ من حملَ في قلبهِ حِقداً على فئةٍ من البشرِ.

ففى أيامكم كنا نرى

قُضاةٌ ترتسمُ على وجوههم ملامحُ الغضبِ يحكمونَ بأقسى العُقوباتِ، فتبّاً لهم، وشيوخاً أخرستْ المناصبُ أفواههم، فأطعمتموها الكراسى وبعض الدنانير، وصارت العمامة والجبة والقفطان علامات التخلف وعدم الحداثة والرجعية، وقد كانت قبلكم قبسات وفيوضات من النبوة تجسد لنا الدين واقعا مشهودا.

ورأينا

من وقفَ وحيداً في قفصِ الإتّهامِ لا يتقدّمُ من يترافعُ في قضيّتهِ، ومن الشباب الآمن من اتُّهِمَ بالكفرِ والإلحادِ والزندقة أنَزلتم بهِ أقسى العقوباتِ،

ومن خالفَ الحكام في أفكارهم لا ينالُ سوى صيحاتُ الغضب وسياط السجون ولفحات النفى.
تأكدوا أنكم أيها الحكام فى انتظار عدالة السماء لتقتص منكم، فكم من دعوة مظلوم معلقة فى السماء توشك أن تلتهم عروشكم، وكم من دمعات ودعوات يتامى ستحيق بكم، وكم من أم ثكلى استجاب القدر لندائها وكم وكم وكم......

أيها الشعب المغبون حقه أفقْ و اعلم أنه

عندما يتقاسمُ النّاسَ الله يسود العدل وتتعدّدُ الأديانُ وتتشعّبُ الشّرائعُ، فالحقيقةُ أعظمُ من أن يمتلكها أحدٌ وحدهُ، الحقيقةُ منارةُ هديٍ بها يهتدي من سلكَ الدّربَ إلى ملكوتِ اللهِ، فقُدرةُ اللهِ في الأرضِ تتجلى قبلَ السّماءِ، ونورُ اللهِ يُبدِّدُ ظُلماتِ النّفوسِ ويُنيرها بالإيمانِ.
ولشباب الثورة أقول:

التّعصّبُ يُبعِدُ عن لُبابِ الدّينِ، وسعة الأفق تجعل القلب يسع الجميع، فثقف نفسك بالعلم والدين ولا تتعلق بالقشور، فمن تعلَّقَ بالقشورِ خسِرَ الحقيقةَ، سامح واغفر لمن أساء إليك ولا تدع رغبة الانتقام تنمو داخلك، فلا مرضَ كالحقدِ والكراهيّةِ والحسدِ، ولا نارَ كالانفعال والتّسرّعِ والغضبِ، ولا سعادةَ أسمى من السّكينةِ وهدأةَ النّفسِ، ومن تحرّرَ من الكراهيةِ والحقدِ والحسدِ ولجَ دُروبَ الإيمانِ باطمئنانٍ، فسُبحانَ من دفعَ الكونَ في مساراتٍ مُنتظمةٍ لتكوينِ الحياةِ، سُبحانَ الخالقِ المُبدعِ من زرعَ الرّوحَ في الجسدِ، فقدرة الله تتجلى فى إقبالكم على الحياة، كما تتجلّى في نسائمِ الصّيفِ وفي عواصفِ الشّتاءِ.

تتراءى عظمةُ اللهِ

عندَ كُلِّ ولادةٍ وعندَ كُلِّ موتٍ، وعند كل جيل يتمنى التغيير، فأنتم شرارة البدء، وقوة الدفع، والمستقبل لكم وإنا راحلون، اجعلوا الله وليكم ومعينكم، اللهُ هوَ قوّةُ الحقِّ ودافعُ الخيرِ ونورُ الجمالِ.

اللهُ هوَ موقد الحياةِ في أجسادِ المخلوقاتِ، والفِكرُ الإنسانيُّ السّليمُ لا يُنشِدُ إلاّ ترانيمَ الحقِّ والخيرِ والجمالِ.

فتلتقي قوافلُ الحقِّ على اختلاف مشاربها في ديارِ الحقيقةِ، لتشرب من نهر الإنسانية ماء طهورا

بحبل الله اعتصموا، وبالدين تمسكوا،فالدّينُ الحقُّ هوَ كشفُ الحياةِ المُقدّسةِ وتحقيقها في مساراتِ الحياةِ، الدّينُ القويمُ يبني صروحَ سلامٍ وحُرّيّةٍ في النّفوسِ البشريّةِ المُهدّدةِ بالآلامِ، ويعالج كل أوجاع الروح، الدّينُ العظيمُ من يُحقّقِقُ قداسةَ الحياةِ في الإجسادِ الخاضعةِ للأمراضِ والموتِ، ووحيُ اللهِ يسكنُ في روحِ الإنسانِ قبلَ ولادتهِ، وهذا الوحيُ يُخاطبُ الرّوحَ فيدفعُ الإنسانَ إلى تسلق قِممِالفضيلةِ.

وإياكم والأبائية وموروثاتنا العفنة التى لا تصلح، نقحوا ديننا وتاريخنا من الأساطير والقيم البالية،
فالطّقوسُ الموروثةُ تُبعِدنا عن اللهِ، فدعونا نَحرقُ البخّورَ على جملة الوساوسِ التي تنتابنا أوهاماً فى تراثنا وأساطير الأولين، وإياكم والفرقة والتقرّبَ من اللهِ زُلفى عِبرَ الدّماءِ والشحناء والتعصب، فمرضاةُ اللهِ غاية سامية ونبيلة لا سبيل لنيلها إلا بالعملِ الصّالحِ.

وليحاول

كل منا أن يقتلَ جهلاً ويسدَّ جوعاً ويمسحَ دمعةً ويربت على ظهر يتيم أو يعين أرملة،
فالعملُ الصّالحُ أطهرُ صلاةٍ، وبالنور توضأوا وبالعلم انهضوا وقدسوه ووقروا من يؤديه حقه، فمُعلّمُ الأجيالِ ناسكٌ يؤدّي رسالةَ الحقِّ، المُعلّمُ رسولُ العلمِ والمعرفةِ والوعي والهديِ
وليكن فى معلوم الجميع أنه:

يؤدّي أطهرَ صلاةٍ من يحرثُ الأرضَ ويزرعُ الحبَّ ويطرحُ السّنابلَ على البيدرِ ويمسحُ العرقَ عندَ التّعبِ.

من يبني للحياةِ الشريفة راهبٌ يعبدُ اللهُ فيما يبني، ومن يزرع الفسيلة وقد قامت قيامته فقد استيقن الثواب، وآمن بمن سيأتى بعده، فليس المهم أن تجنى، بل الأهم أن تزرع أنت،
فمن نهلَ الفضيلةَ والأخلاقَ واالاعتقاد من كُتبِ السّماءِ ــــ سما فضلاً وخلقاًوأدبأ وتواضعاً
علمتم الناس كيف يثورون، فآن الأوان لنعلمهم كيف نبنى مصرنا؟

فتواضعوا ولا يغرنكم ما فعلتم فالقادم أشقُّ.

والله ولى التوفيق


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى