السبت ٥ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم موسى حوامده

ثورات الروح

على مدى سنوات طويلة، تحمل الإنسان العربي الكثير من الظلم والهزائم والنعوت والتوصيفات، التي كانت تضعه في أدنى درجات البشر، وكان عدد من المثقفين والسياسيين والمفكرين يرون أن العرب على وشك الانقراض، بل كتب بعضهم نعي الأمة، وكفَّنها دون تغسيل، وقال كثيرون إننا شعوب فقدت القدرة على الكرامة، ومن قائل إن التاريخ العربي تاريخ قتل واضطهاد، إلى قائل إن العرب ليسوا أمة، وهم غير قادرين على المطالبة بحقوقهم، والنهوض من كبواتهم، وإنهم غير جديرين بالحرية والديمقراطية، إلى العديد من التهم التي وصلت من فؤاد عجمي وبرنار لويس وأشباههما، إلى وصفنا بالقبائل والطوائف التي لا تعرف الحقوق المدنية وحقوق الإنسان.

كان الذين يجلدوننا، صباحاً ومساءً، بمقالاتهم وتحليلاتهم، من بني جلدتنا ومن غيرهم، يرون أنفسهم ـ طبعاً ـ متفوقين علينا، وأنهم رؤيويون ومبصرون، وقد غسلوا أيديهم منا، وكفنونا دون تغسيل، ورمونا بأقذع الأوصاف وأبشعها، وكانوا غربان الشؤم، الذين ينعقون على رؤوسنا بالخراب والإحباط، ومن عدم قدرة الناس على التغيير، ولو شئنا لأدرجنا الكثير من أسماء الذين جلدونا، ولاحتجنا كتاباً قد يفوق دليل الهاتف.

تناسى ونسي أولئك المُبشرون بالخراب، أن الأزمات التي مرت على الإنسان العربي كانت لا تحصى، فمنذ الحقبة العثمانية ـ حقبة التجهيل والظلم والجوع ـ إلى حقبة الاستعمار، ومن ثم الثورات التي ناضلت لتحرير أوطانها من المستعمرين، ثم تلك الأنظمة التي جاءت من رحم ثورات الاستقلال، والتي هيمنت علينا بحجة أنها ساهمت في تحريرنا، إلى تلك الأحزاب التي رأت أنها الأحق بحكمنا، ثم تلك الانقلابات، وتلك الأنظمة التي جاءت من رحم سايكس بيكو، إلى زرع الكيان الصهيوني في بلادنا، إلى حربي: الـ48، والـ67، وغيرهما.. كل هذه الحروب التي خسرتها الأنظمة ولم تخضها الشعوب سحبت ثقل هزائمها على أرواحنا، وسكنتنا، وبقينا نتحمل الهزيمة كأننا كنا شركاء فيها. واتُّخِذت فلسطين حجة للظلم والتكتيم والتحكم والاستبداد والشمولية والديكتاتوريات المنتشرة.

تحمل الإنسان العربي كل ذلك، وتحمل الاستبداد السياسي وتكريس الانقلابات العسكرية التي حكمَنا بعدها العسكرُ، وذهب كثيرون باتجاه القومية، ولم تفلح في إحداث نقلة حضارية وديمقراطية، ولم تنجح في تغيير الأوضاع القائمة ومواكبة العالم، وذهبنا إلى الماركسية والاشتراكية، ولم تنجح تلك الأحزاب التي حكمت بعض الأقطار العربية، لكنها حوربت في العراق والخليج والعالم العربي بمساعدة الغرب، وتم تنمية التيارات الدينية، والتي لجأ الناس لها بعد حالة اليأس، ولكنها لم تقدم نموذجاً للحل.

ظل الصمت العربي يكبر، وفقد الإنسان العربي قدرته على تحمل الظلم المتراكم منذ العقود الماضية، وملَّ من كونه مجرد خزان عميق تتجمهر فيه الهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووصل الأمر إلى حد أن الشعوب كفرت بأجواء الاحتقان السياسي، والظلم والاستبداد وفقدان الحريات، وعدم تداول السلطة والجوع وانتهت إلى أن التحمل ما عاد متاحاً.
إنَّ الصمت، دائماً، يعقبه الانفجار، وجاء الانفجار الشعبي بعد كل تلك الإخفاقات ليكون ضد كل شيء، وضد كل ما تم تكريسه في السابق، وقد جاء هذا الانفجار، كخيار يائس، تمظهر فيه شبان يدفعون أنفسهم إلى النار، ويحترقون مثل براكين غاضبة، من دون قيادات سياسية؛ لأن ثورتهم تأتي من العمق، ومن الروح، وليس من العقل الذي يفرض عليهم إطاراً سياسياً محدداً. ومن هنا من الصعب السيطرة على الثورات الشعبية؛ لأنها تجيء من الروح المتمردة، وليس ضمن أي إطار تقليدي معروف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى