الاثنين ٧ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

اغتيالُ حُلـُم

قالت لها أمها ناصحة: لقد أحببتِه بكل رومانسية العالم، همتِ بغرامه وذبتِ كأنثى، لكن أطلب منك نسيانه بكل كبرياء الفرسان، وعنفوانهم، سيما وأنك فارسة، وهذا يا بنيتي من منطلق حبي لكِ، وحرصي عليك، وعلى مستقبلك، لأنني أعرف رأي والدك في هذا الأمر، ورأي كل أقاربنا. أعرف عنادك وإصرارك وهذا أكثر ما يخيفني. لكِ من الأقارب عدد يمكنك من الاختيار، والمفاضلة، بعيداً عن صداع العشق، ودوار الحب قبل الزواج. ثم إن بإمكان الإنسان توطين نفسه، وتمرينها، كما يشاء، إن هو أراد ذلك، وأنتِ من العقل والحكمة والنضج مما يمكنك من فهم ما أصبو إليه. ثم إن ابن عمك منصور ليس شخصاً سيئاً، كما تتوهمين، لو مَنحتِ لنفسكِ فرصة لكي تتقبله، سيكون ذلك ممكنا.

ردتْ عليها دُرر؛ وكان هذا اسمها: يا أماه هل علمتمونا أفضل تعليم، وأحسنتم تربيتنا، وجعلتم شخصياتنا تسمو، لنكون أكبر من أعمارنا بكثير،وتفكيرنا سابق لجيلنا، ثم تحاولين إقناعي وإقناع نفسك بتفكير قروسطي.. والله إني لا تعجب من ذلك، هل كانت تربيتكم لنا بتلك الطريقة العصرية هي ضرب من "البريستيج" الاجتماعي، كطبقة مخملية ليس إلا؟! تماما كوجود المكتبة في صالون بيتنا، تغص بأمهات الكتب، ذات الأغلفة المذهبة، كجزء من ديكور منزلنا، حتى أننا حُرمنا من رائحة الكتب، لكثرة العطور الباريسية التي تتزاحم على أنوفنا. أحس يا أماه إننا ممثلون فاشلون على مسرح الحياة. تطلبين مني أن أصبح عاشقة لمنصور، دون إيقاد نار العشق في قلبي، وأن أصل إلى فردوس الحب دون المرور بجحيم الشوق، تماما كتوقع هطول زخات المطر بدون برق أو رعد. قرأتُ الكثير من الكتب التي ترشد إلى تعليم أشياء في هذه الحياة بدون معلم، فلم أتعلم منها شيئا، وعرفت أن الشيء الوحيد، الذي لا يحتاج إلى معلم؛ هو العشق، هو الذوبان حتى الثمالة، هو الجمر الذي ينبعث من الشفاه يحرقنا، هو الموت الذي يموج في العينين يغرقنا، هو الصوت الذي جعلنا ننسى أنفسنا، ونكسر ساعة الزمن، ولا نحس إلا بحرارة النـَفـَس على الطرف الآخر من العالم، عند مهاتفته، نكون أمامه ككتاب مفتوح، يفك شفرتنا دون عناء. كنتُ قبل أن أعشق (فاضلا) أسخر من الذي يدمن شيئاً، أو عادة، أو طقساً معيناً، لكنني الآن ألتمس عذرا منطقيا لجميع أولئك، وأود أن أعتذر لهم جميعا عن سوء الظن بهم.. كل ما أراه يذكرني به، كيف أستطيع وأد خابية الذكريات الرائعة التي أصبحتْ جزءاً من تكويني؟ هل أستطيع نسيان نار الثلج التي مشيت عليها حافية القدمين؟ عندما كان فاضل يأمرني بكل صَلف العاشق ودكتاتوريته أن أجلس على الكرسي، ويغسل قدميّ بماء الورد، ويقبلهما، وينظر إليّ بعينين بنيتين تبكيان دون إرادة منه عندما تغرقان في عينيّ عامدتين متعمدتين؟ أو وجهه يُدفن في شعري بلحظة جنون، فأشعر بأن الدنيا حُيزت لي، قد يكون أسهل من ذلك أن أحجب الشمس بغربال، أو أرى غراباً أبيض اللون، تماماً كمنصور، الذي يريد أن يتزوجني، فقط لأني جزء من الإرث العائلي، ويضعني على الرفّ تماماً كأي كتاب هنا يعلوه الغبار.

ردت أمها: يا بنيتي، لقد أهدرتِ الكثير من سِني عمرك، بانتظار معجزة تحدث، ويتحقق وهم بعيد المنال. لم أتوقع يوما ما بأنكِ ستأخذين هذا الحب على محمل الجد، ويتطور ليصبح عشقا يتملك كيانك، وجنوناً يتلبسكِ. كيف استطاع هذا المعتوه الذي – لا يملك من متاع الدنيا سوى ثراء القلب، على حد زعمك– التأثير عليك؟ بإمكانكِ قلبَ هذه الصفحة، وتشفي وتتعافي، وننتهي من هذا الأمر، ويَسعد أبوك، وإخوتك وجميع أفراد العائلة الكبيرة، ويبر والدك بوعد قطعه على نفسه مُذ كنتما صغارا.

بكى جليسي، وقال وهو يمسح دموعه: هل ترى تلك السيدة المُسنة، التي تجلس في الركن القصي من الحديقة؟ ذات الوشاح السماوي، الذي لا يتناسب وسنها، الذي يبلغ سبعين خريفاً شهدتُ تساقط معظم أوراقها؟

كيف عرفتَ كل هذه المعلومات عنها؟

إنها هي؛ دُرر، ما تزال كما هي؛ دُرر، كبرتْ لكنها لم تهرم، رغم سجن ابن عمها لها كل هذه السنين. منذ أكثر من أربعين عاما، نأتي في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، لا يثنيا عن ذلك حتى المرض، لكن لا يمكنني التحدث إليها، بسبب وجود الحراس في كل مكان، ألا ترى ما أجمل هذا السجن؟

الحب.. يا عزيزي، لا تفلسفه، خذه كما هو جرعة واحدة، مع إغماض عينيك كي تنسى من حولك، ولا تتذكر سوى من تـُحب.. الحُبّ كالموت، لا نختاره نحن، بل هو من يختارنا، لا نعرف لماذا نعشق هذا الشخص دون سواه، في هذا الزمن، في هذا الظرف؟ لو عاد أحدهم من الموت، ربما استطاع إخبارنا عن كنهه، لكن العشق يختلف، لو بُعث أحدهم عاشقاً من جديد فلن يستطيع إخبارنا، لأنه سيقول، متملصاً: لقد نسيت طعمه، على الرغم من حلاوته في شفاهي، لكن دعوني أذقه مرة أخرى كي أخبركم. هذا بالضبط ما دعاها ترتدي نفس الوشاح الذي أهديته لها في يوم ما. نعيش منذ ذلك اليوم الموت تعزيراً، إنه قِصاصُ الحبّ يا عزيزي.

نقطة: مهداة إلى كل عينين خلف قضبان سجن الحيار. لكل فتاة ارتبط مصيرها بمصير رجل إن شاء تزوجها، أو تركها عجوزاً عذراء، ولا أحد يجرؤ على طلب يدها، لأنها "محيّرة" وأمرها ليس بيدها، ولا بيد أبيها حتى.
الدكتور: فلاح جاسم - الرياض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى