الاثنين ٧ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم بوشما حميد

الساحر بوجا

الحلقة الثالثة: صخرة مولاي بوعزة

لم يبق دخوله لحجرته أمراً سهلاً منذ ذلك اليوم الذي أصبح يرتدي فيه سجناً محمولاً، فما إن شاء، ساعتئذٍ، أن يردد التعويذة التي يفتح بها باب الحجرة حتى رأى تحذيرا مكتوبا بحروفٍ تظهر وتختفي :«انتباه، التعويذة التي تفتح بها الحجرة هيَّ نفسها التي يُفتح بها القفص»، لقد كان ولا زال يخشى أن ينفتح القفص ويزول الشمع المضروب على أقفاله، فتتهمه الوزارة بمحاولة الفرار،وهو أمر يمكن أن يقوِّي حظوظ الإدانة.

وكان قد اهتدى إلى إمكانية الدخول من النافذة ،فتعويذتها تخالف تعويذة القفص ومنذ ذاك اليوم دأب على تصغير قفصه عند الرغبة في دخول الحجرة أو خروجها.

قرر هذه الليلة أن يشتغل كثيراً على الإنترنيت السحرية، تناول قرصاً مقاوما للنوم كان الأستاذ صنوع قد أهداه أياه، شغل الشاشة التي كانت تغطي أحد جدران الحجرة وبدأ يتوغل من العام نحو الخاص فهو في حاجة إلى معرفة أشياء كثيرة يجهلها، رغم أنه لا زال مبتدئا في هذه المادة ، إنما يتجه كيفما اتفق. حتى أغرته عبارة "أول من استعمل السحر"، فشرع يتفرج على شريطٍ مسجل لهذا الغرض، كان الأمر يتعلق بجماعات بشرية تتعيش على الصيد والالتقاط، وقبل أن يتجه أفراد كل جماعة للصيد، يخطُّون على الرمال صورة الحيوان الذي يرغبون في اصطياده، ويقومون برقصات سحرية وروحية حول تلك الصورة. ونظر إلى وجوههم فوجدها شبيهة بوجوه القردة، فردد في نفسه متضجراً: «اللعنة واضعو هذه البرامج السحرية،يميلون إلى التأصيل الذارويني للإنسان.. حسناً الإنسانية ـ اليوم ـ لم يعد يهمها أصلها بل مستقبلها».

وتملص عن تلك الجماعة ـ التي كان أفرادها يرقصون وهو يتفرج عليهم ـ طفلٌ صغيرٌ، بعينينِ حمراوين مثل جمرتين متوهجتين وأنف غائر،وخطَّ الطفل صورة لبوجا على الرمال ودوّر عليها دائرة، وشرع يرقص حولها،وظلّ الولد يرقبه وهو في حيرةٍ من أمره، وانتهى الطفل من الرقص ورمى بوجا بذلك السهم الذي كان بيده ، وهو يقهقه.

وأحنى بوجا رأسه على مضض فقد مرَّ السهم محاذيا له وانتبهت الأم، التي كانت ترقص مع الجماعة ، إلى طفلها وبدأت تُكدِّره:« أنت دائماً تؤدي الزوار الذين يزورون موقعنا.. من يتذكرنا غير هؤلاء الأبرار،إذا لم تكف عن ذلك سأنادي عن النمرود بن كنعان «. وصعق طفلها بمكانه ،ونظرت نحو بوجا وهي تعتذر بصوت شبيه بالنعيب:«لا تخف من السهم إنه مجرد شعاع، فهو لن يؤذيك ولو اخترق جسمك» وغمزته واختفت.

وغادر بوجا هذا الموقع خائفاً مرتعداً واتجه نحو نافذة :"هل تريد استرجاع فيديو سيرتك الذاتية" .
وبدأ يشاهد أحداث طفولته، وهو يتعجب من دقة التفاصيل،إلاّ أن أحداث بعض الشهور كانت محظورة ،ولم يستطع مشاهدتها، بل يرى فقط كلمات كتبت بحبرٍ كالدم ،تمر من اليمين إلى اليسار على شاشةٍ أمست قاتمة وهو يتهجا العبارة:« أحداث هذه الشهور محظورة من طرف الهيئة العُليا لواضعي البرامج..».ووصل بالشريط إلى حادث" الأفعى والضفدعة". وبدأ يشاهد وقائع ذلك اليوم البئيس، وشرع يذرف دموعه صمتاً، حتى أُصيب بالفواق، وهو يتساءل لماذا لم تخبره أمه رقية بهذا الحدث؟. كم من أشياء يخفيها عنا والدينا، لاعتقادهم أن إطلاعنا عليها سيضرنا،غير أنهم لا يدركون أن ذلك قد ينفعنا أكثر مما يضرنا.

واستمر التلميذ يسترجع شريط الضفدعة التي أنقدت حياته، لقد كان أبوه عمر يرمي صنارته في النهر ،ولا يصطاد شيئاً سوى هذه الضفدعة،وكان يقذفها في النهر غاضباً ، وظل للمرة الثانية والثالثة والعاشرة.. يصطادها هيّ نفسها. إلاّ أنه كان يعتقد أنه يصطاد ضفادع أخرى، فخبطها جانب النهر وهو يردد بتجهم:«لتصطاد سمكة عليك اصطياد عشر ضفادع».

وبقيت تلك الضفدعة جانب النهر تُصارع الموت وتحاول ألاّ تحطمها أقدام دواب العامة، حتى احتاجها عمر في قضية الأفعى فرجع إليها، لكن من تكون يا ترى؟. ولماذا تحملت كل هذا العذاب ؟. وهنا توقف الشريط عند حافة الممنوع.

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً،أطفأ الشاشة ،وهو يفرك عينيه ويتثاءب. ثم تمطّى في سريره ووضع رأسه على المخدة وتمنى لو كانت ناعمةً أكثر مما هي عليه، بل تمنى لو كان بها ثقب يدخل فيه أذُنه ، زقزق عصفور بأذنه هكذا دخل إلى عالم النوم،وبعد قليل بدأ يحلم أنه يسمع صوت جدته وهي تردد:« الأستاذ صنوع لم يُعطك أقراصاً منبهة ،بل أعطاك أقراصاً مهلوسة، سترى الكثير من الكوابيس هذه الليلة». استيقظ جفلا، لم يختف شبح الجدة إنما كان عبارة عن رأس مجذوع يُغطيه من جهة العنق قميصٌ أخضر بقيَ يتدلى بطولِ قدمٍ تقريباً. وشَعْرٌ أشقر خفيف. كان الشبح يسري في الغرفة على ارتفاع بضع بوصات من السطح. وهو يزفر أنفاسه تارة. ويضحك تارةً أخرى. ضحكات تظهر من ورائها تلك الأسنان المغلفة بالذهب الأصفر والأحمر، والتي كانت تنال من بوجا أكثر مما ينال منه أي مشهد في مدرسة السحر.
 واقترب الشبح من السرير وهو يسري ببطء كأنه بعوضة كبيرة، وأرجع بوجا سبّابته سيفاً، وضربه بقوّة ، إلا أن السيف اخترقه كأنه يخترق سراب ، وشرع الشبح يقهقه عبثاً ويردد:« بوجا إننا لا نموت مرتان..لا تنس أنك مطلوبٌ للنمرود، ولا تنس أنك متهمٌ بالسرقة.. ولا تنس أنني أحب هذا.. أحب أن أراك معذباَ».
 وتلاشى الشبح كأن أحد كتب الخزانة الخاصة ابتلعه، ومشى التلميذ ، يتربص في اتجاه الكتاب الذي اعتقد أن الشبح دخل إليه، وبدأ يقلب صفحاته غير أنه سمع همسات داخل المرآة، فركض نحوها بسرعة وهو يستعدُّ للمبارزة.
تحولت الهمسات إلى ضجيج وازداد الاستفزاز كان الشبح نفسه يسري داخلها وينشد:« انتهى زمن القوة والعضلات، هذا زمن العقل.. سترى كوابيساً كثيرة هذه الليلة.. لن يغمض لك جفن». وتلاشى الشبح مخلفاً وراءه دخاناً قاتماً بالمرآة.

وعاد هو إلى سريره وهو يرتجف خوفاً، وما إن أغمض أجفانه حتى بدأ يحلم أن ملاك صافحته وأعطته بعض القطع النقدية، وهي تحذره وتبكي : «وهذه المرة قل: إن حربوء هو من أعطاك هذه الأموال ألا تستطيع التمييز بيننا؟».

وأخرجت لسانها من فمها وبدأت تتكلم بصوت به عقدة:«أنظر أليس هذا لسان حربوء ؟. لماذا لم تستطع التمييز بيننا، تلك المرة؟. ياللعجب».

واختفت ملاك وبدأ يحلم أنه وجد قطعاً ذهبية فوق سريره فقرر أن يبلغ الوزارة حتى لا يُغرر به لثاني مرة وما إن وضع السماعة حتى سمع أشخاصاً يكلمونه عند باب الحجرة بصوتٍ شبيهٍ بالعويل فشعر بنفس الشعور الذي يشعر به شخص كان يُهاتِف صديقه فوجده بجانبه.

ردد الصوتٌ العويلي :«نعم افتح البااااآب نحن هناااا.. لمساعدتك>>.ورد هو بصوت متقطع:« عفواً سادتي فهنالك مشكلة. فالرقم الذي يفتح به الباب هو نفسه..».

وبدأ ذلك العويل يرتفع متخذا صيغة الأمر:«إذن فلتلق بتلك النقود من النافذة سنرجعها مكانها».
وبطبيعة الحال استجاب إلى أمرهم وعاد ليتمطى في سريره.(كلُّ هذا وهو يحلم )...لم يعد لجسمه كيان ٌمادي، بدأ يسري في الغرفة مثل شبح جدته، ورأسه مقلوب إلى الأسفل، ارتطم بالخزانة وبالحائط لكن دون أن يحدث أي اصطدام، فقد استطاع أن ينفذ عبرهما.

وشرع يسري عبر نفق تحت أرضي ،ضيقٍ ومظلمٍ، ورأسه لازال إلى الأسفل. لم يكن يرى شيئاً، بل يسمعُ فقط رجع أصواتٍ، كأنها طبول تَقْرَعُهَا الرياح، وبعدها دخلَ مغارة مظلمةًً، كُتِب على بابها: " محكمة التماثيل".

كانت المغارة جرداء إلاّ من بعض المسالك والممرات الضيقة ورائحة الدخان والغبار والشعر المحترق. قد أخنقت حنجرته وتوغل ثم توغل.. فلم ير سوى تماثيل محطمة وأخرى تنتفض كأنها تصارع الموت وثالثة لا تحرك سوى أعينها أو رموشها وسمع أصوات أخرى كالأنين. إلاّ أنه لم يتعرف عن مصادرها، كانت درجة الحرارة باردةً،حتى أن الصقيع كان يُغطي وجوهَ تلك التماثيل المحطمة، وفي جهته اليمنى، كان هنالك مكتب شبيه بصخرة بازلتية سوداء وكبيرة، ومن ورائها تتحرك أجسامٌ كالثعابين غير أنه لم يتمكن من سماع أصواتها، وفي الجهة الأخرى كان يرى هاماتٍ تتحرك في الظلام. ووصل أذنه دويُّ قرصٍ وتبعه صوت غليظ خشن لم يستطع تمييزه عن الصدى إلاّ بمشقة :«حكمت محكمة التماثيل على التلميذ بوجا بخمسة أشهرٍ سجناً نافداً» .

استيقظ من نومه فوجد نفسه مستلقيَّاً على أرضية الحجرة، مبتعداً عن سريره بضع خطواتٍ وملابسه مبللةٌ بالعرق والبول.لا شك أن السرير بدوره سيكون مبللاً وقد تنفس الصعداء،فقط لأن أحداث هذه الليلة كانت حلماً ولم تكن حقيقة. اتجه نحو المطبخ أخد كأسا من الماء، ورشف منه رشفة واحدة، وبعد ذلك ردد تعويذة تنشيف الملابس.

ثم تمدد تحت فراشه رغم أنه لم تبق لديه رغبة في النوم. لازالت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، وفي مثل هذه الأوضاع تتباطأُ عقاربها كأنها محمّلة بديون. فكر في تعويذة اجتناب الكوابيس،غير أنه تذكر ما قرأه سابقاً حول هذا الموضوع، من أن الكوابيس- بدوْرها – لها أهمية أساسية في حماية شخصية الساحر. - 10– الجلسة الأولى من المحاكمة وصخرة"مولاي بوعزة."

مرت الأيام والأسابيع تطارد بعضها البعض إلاّ أنها كانت بطيئةً في نظره. وقد بدأت نفسيته تخور يوما على إثر يوم ، فكلما مر قرب شيطا أو قابلها إلاّ وقالت في حقه:«انظروا إلى هذه المركبة الفضائية». وشيطا كانت تمر – دائما – وسط كوكبة من البنات اللائي كن يقهقهن عن أي شيءٍ تقوله لهن. انتبه في الآونة الأخيرة إلى أن الأشجار الضاحكة كانت تقلد آخر القهقهات التي تسمعها. كانت قهقهة شيطا هي الغالبة. 
 حوَّل قفصه إلى خوذة وخرج من النافذة. مودِّعا حجرته في اتجاه المحكمة حيث ستتم اليوم الجلسة الأولى من محاكمته. وصل مفترق الطرق الأول،حيث هنالك ممرين أحدهما يؤدي إلى القاعات الدراسية والآخر يقود خارج أسوار المدرسة.

شعر وكأن قدميه يريدان الذهاب به إلى القاعات الدراسية، تحكم فيهما جاهدا،وفكرهُ مشتت حول ما إذا كانت الأستاذة ضفدوعة ستؤازره أم أنها تخلّت عنه فمنذ أن قرأ مقالها طفق الشك يراوده، وإذا كُتِبَ عليه أن يدخل السجن فهل سيفي التلميذ عاشور بوعده ويتكفل بالمثابرة على زيارته؟. وهل سيستطيع الوصول عند والديه وإخبارهما؟ . وأي والدين كان يقصد عاشور عندما قطع على نفسه هذا الوعد ؟. هل والديه الحقيقيين أم والده عمر وأمه رقية ، اللذان أضحى يعتقد أنهما أبواه بالتبني أو شيءٍ من هذا القبيل.

بدت السماء صافية بلونها الأزرق البرتقالي، ورغم طلوع الشمس، فلازال القمر يظهر كمرآة صغيرة ومستديرة، عليها بعض الخدوش،إلاّ أنها كانت تبدو له قاتمة. بدأ يتقابل مع التلاميذ والأساتذة الذين كانوا يتجهون إلى فصولهم، التقت عينيه بعيني الأستاذ عبقور،إلاّ أن هذا الأخير تظاهر كأنه لم يره وهو يقول لصديقه:« لم أكن اعتقد أن شهرَ ديسمبر سيكون حارّا هكذا،على المتنبئ أن يكون على معرفة دقيقة بالتوقعات المطرية والحرارية المستقبلية. فهذه العوامل بدورها يكون لها تأثير على سلوكيات السحرة وأفعالهم، مما قد يشوِّش على المتنبئ».

وصل أمام المدرسة، شاهد ملاك تودِّع جِنِّيَاً بديناً يرتدي ملابس ناصعة البياض،لا شك أنه يشتغل كسائق عند أسرتها.

ودعها الجني البدين واستقل طائر التيرودكتيل.وحلّق عاليا، وبقي بوجا يتابعه بعينيه، حتى انشغل عنه بالنظر إلى راحته التي كانت ترتج وبدأ يقرأ تلك العبارات التي وشمت عليها: « تنهي الأستاذة ضفدوعة إلى علم تلاميذ المستوى الأول إعدادي\سحر عام أنها لن تحضر هذا الصباح بل سينوب عنها فقط حاسوبها السحري في تأدية الدروس، ولعلم الحاضرين فهذا الحاسوب يستطيع التعرف على التلاميذ وتسجيل أسماء المشاغبين منهم». لم ينته من قراءة هذه الرسالة حتى ظهرت رسالة أخرى:«لم يبق على موعد الجلسة سوى ساعة، المرجو من المتهمين الكرام التعجيل بالحضور».لا شك أن هذه الرسائل تبعث ـ فقط- لمن يهمهم الأمر.

حول قدميه إلى قبقابي انزلاق، وهو يسترشد بالخريطة التي ظهرت فوق راحته، تزحلق عبر منحدرٍ صغير، ووصل إلى الطريق الرئيسي.الذي كان معبداً بقشور الأسماك والأصداف.وعلى جانبه امتدت أشجار الزيزفون والسحرة غادين و رائحين ، وكل منهم يمتطي حيواناً غريباَ، وكلما تجاوزه أحدهم إلاّ ونظر إليه شزراَ، أدرك السبب فقد بدأ يشم رائحة قبقابيه يحترقان فالقلعة تتشدد في تطبيق قوانين السير، وتجعل الطرقات المعبدة تتوهج لظى تحت كل من يسير في الاتجاه المعاكس،عاد إلى رشده وسار في يمين الطريق، وهو يلتفت بين الفينة والأخرى،لتظهر له المدرسة كمنزل قديم، ثم كنقطة سوداء إلى أن اختفت. 
 ظهر على جانب الطريق رجل يطلب المساعدة، لم يتوقف له أحد. رقّ بوجا لحاله توقف وبدأ يستفسره ُمحاولا التحكم في أنفاسه:« ما الذي دهاك؟». ردّ الرجل بصوتٍ استعطافي:« سلحفاتي أُصيبت بجرحٍ غائر في إحدى أرجلها،هي لن توصلني ، إذا ظلت تسير هكذا،إلاّ بعد ستة أشهر. وهم يريدونني أن أصل بعد نصف ساعةٍ.(واختلط صوته بالبكاء):بنيَّ ألديك دراية بالخياطة؟».تمتم بوجا مترددا:«حضرتُ مرةً واحدةً لطبيبٍ يعالج تلميذة».رد الرجل مبتسماً:« إذن جرّب ماذا سنخسر؟».
اقترب التلميذ من السلحفاة الكبيرة التي كانت مقلوبة على ظهرها. وتفحص الجرح ونظفهُ، وشرع في خياطته إلاّ أن جلدها كان كثيفاً بدرجة لم يستطع معها اختراقه بلسانه، حاول ثم حاول .. لا جدوى من ذلك، انتفض غضباً. وأراد أن يعتذر للرجل ، إلاّ أنه شاهدَ شيئاً غريباَ، لقد بدأ الجرحُ يلتئم لوحده. صرخ الرجل فرحةً:«وافرحتاه لقد عالجتَها، إذن سأصل في الوقت المناسب، خد هذه القطعة الفضية إنك تستحقُّ أكثر منها». – لا لن أخدها، أنا هاوٍ ولست محترفاً. كما أنني لم أفعل شيئاً يستحق المقابل. – إذن فلتركب معي سأوصلك.

قبل بوجا ذلك مسروراً، بدأت السلحفاة تسري بهما على ارتفاع قليل وصاحبها يتحدث عنها بفخر:« ورثتها عن أجدادي،من مزاياها أنها تحترم التشوير الطرقي بنفسها..كنت أسافر بها من شمال القلعة إلى جنوبها، دون مشاكل ..سترى أنها ستقف بمفردها عندما سنقترب من سكة الديناصورات>>.
بدأت السلحفاة تتباطأ شيئاً فشيئا، وتمسكت بالطريق المعبد حتى أن أرجلها انغرست فيه، ارتطمت بها سلحفاة أخرى من الوراء إلاّ أن شيئاً لم يحدث لها. ثم بدت الطريق مزدحمةً بالواقفين، كان أحدهم يُحاول التحكم في فرس عنيفة جداً. والسائقين من حوله يشتمونه، عما تسبب لهم فيه من اضطرابات. ثم سرعان ما مرّ ديناصور كبير من الطريق المتقاطع مع طريقهما ورافقه غبار كثيف ورياح انقلبت على إثرها بعض السلاحف ...
 اقتربا من مبنى المحكمة. الذي كانت أسواره تظهر كأسوار قصرٍ قديم مهجور، ابتسم صاحب السلحفاة وهو يودعه هامساً:« إذا وقعتَ في ورطةٍ فردد كلمة:"بزجلٍ"إنها تجلب التيسير».

 أأنتَ تمازحني أم تستهزئ بي؟. 

 لا هذا ولا ذاك.

 أنا آسف ، أنا لا أومن بالسحر الخرافي، بل بالسحر العلمي.
 الضرورة تجعل الساحر يُجرِّب الخرافة والعلم.

 ولماذا لم تجربها أنتَ عندما وقعتْ سُلَحْفَاتُكَ جَِريْحَةً؟.

 رددتها فظهرتَ أنتَ وعالجتَ سلحفاتي أتريدُ أكثَرَ مِنْ هذا؟ 


وصل أمام أبواب المحكمة، التي كانت شبيهة بعتبات ضيقة لكهوفٍ مظلمة. وعلى كل عتبة نُقِشت عبارات إرشادية :« ممر خاص بالربوتات السحرية». تذكر الجسيم السحري، لابدّ من حضوره كشاهدٍ في القضية، ترى هل يستطيع عبور هذا النفق الضيق؟، وعلى عتبةٍ أخرى نقشت عبارة: «ممر خاص بالأنيماجوس «. تذكر الأستاذين حربوء وضفدوعة. كلاهما يملك قدرة التحول. يستطيع حربوء أن يصير حرباءً وقتما شاء. وتستطيع الأستاذة أن تتحول إلى ضفدعة متى رغبت في ذلك. كانت ألسنة النار تتأججُ بهذا النفق. وتُسمع به طقطقات الحطب والحجارة. ارتعش وهو يفكر في قرارة نفسه : «لا شك أن المرور من هذا النفق يُشكل متاعب كثيرة للعابرين». وجد أنفاقا أخرى، إلاّ أنه لم يتعرف على النفق الذي يلزمه العبور منه، وهنالك تحذيرٌ عام . كتِب بحروفٍ نارية متوهجة:« إذا دخلت من نفقٍ غير النفق الخاص بنوعك. ستتعرض لمخاطر كثيرة. تخلي القلعة مسؤوليتها من أي خطأ يرتكبه العابر..».


بدأ ينتقل بين عتبات الأنفاق جيئة وذهاباً.وهو في حيرةٍ من أمره. وأكثر من ذلك فالوقت يُطارده . شعر بهزاز في راحته . نظر إلى هاتفه السحري هنالك رسالة قوية:« المرجو التعجيل بالدخول .فالأبواب على وشك الانغلاق . يمكنكم الاستعانة بالتصميم الإرشادي «. البحث عن هذا التصميم قد يزيد من إهدار الوقت.اختلج صدره، وتجمّد الهواء داخل رئتيه.استرجع ما قال له صاحب السلحفاة آنفاً. رَضَخَ للخرافة ،وردد التعويذة غير مؤمنٍ بها . التفت فإذا بالتلميذ جهبور وراءه، يبتسم كأنه على علم بالصعوبات التي يتخبط فيها صديقه.تذكر بوجا اليوم الذي قضياه ،بالإضافة إل عاشور، في غرس الفسائل. كان يوماً ممتعاً إلاّ أنه كان مُضنياَ.لاشكَّ أن جهبور يتحملُ كثيرا من المتاعب في مداومته على عمله ذاك، سأله بعجالة:« ما الذي – يا ترى- جعلك تحضر ها هنا؟».


أجاب جهبور بصوتٍ احتجاجي وهما أمام النفق:« منذ أن حكمت عليّ المحكمة بغرس مائة فسيلة.أصبحت مدمناً على الغراسة. في البداية كنت اعتقد أنني أفعل ذلك بمشيئة إرادتي.إلاّ أنني أدركتُ – فيما بعد – أنني أُصيبت بلعنة الإدمان..(زفَر أنفاسه) تريد الدخول أقف أثري».
 سار وراءه، وهو لا يعرف ما يُعقِّب به. كان مهتما بالمكان أكثر من أي شيء آخر. تابع جهبور كلامه وهو يزمُّ شفتيه بامتعاض:« اللعنة يريدون محاربة التصحر على عاتقي. كأنني أنا الوحيد المسئول على البيئة «. 
 توغلا قليلا في النفق. وجدا نفسيهما بمغارةٍ مظلمة جرداء. تذكر بوجا الأنفاق التي رآها في أحلامه لا شك أنها هيّ.أين تلك التماثيل إذن ؟ .مرت هذه الذكريات ،في ذهنه، كالوميض. خطر له نفس السؤال السابق، لكن بصيغةٍ دقيقة: »وماذا تتغيّأُ من حضورك؟». رد جهبور بتحدٍّ ويمناه تتحرك أمام صدره،كما لو يتوعّدُ أحداً:«رفعتُ دعوة مضادة على المحكمة. من حقي أن أتخلص من لعنة الإدمان هاته.الأستاذة ضفدوعة وعدتني أنها ستؤازرني.. الأستاذة ضفدوعة بكل ثقلها».
بدءا يسمعان جلبة أمامهما.أصواتٌ تتشتتُ أصداءها وتتلاقى في ظلام المغارة.عبارات من قبيل :« هيّا أسرع وإلاّ دعنا نمر».

التفت جهبور وهمس في أُذن صديقه:« لقد اقتربنا منها . حاوِل أن تنقي ذهنك من أي شيءٍ له علاقة بالإرهاب أو الإجرام». رد بوجا :« ماذا؟». همس جهبور بخفوت محاولا ً مقاومة اصطكاك أسنانه :« ستفهم فيما بعد . دعني أنظف دماغي من الذكريات السيئة.حتى لا تعصرني الرحى». اقتربا كانت هنالك صخرة كِلسيّة، ضخمة الحجم وكروية الشكل. معلقة بخيطٍ عنكبوتي رقيق. تظهر معهُ كأنها على وشك السقوط. نُحتت عليها عبارة:« صخرة مولاي بوعزة».وبأسفلها يوجد ممر ضيق. كان المارة يزحفون عبرهُ بِطريقة الأفاعي. وكلما تجاوزه أحدهم إلاّ وشعر بالغبطة والسرور.انتظرا قليلاً جاء دورهما. تَقَدّمَ جهبور تحتها ينطُّ كضفدع صغير.وهو يردد بعض التعاويذ. جاء دور بوجا. ضاق صدره. وفترت نفسه وانفثأت.وتفصد جبينه عرقا. تجاوزها بدوره،أوقفه جهبور. صفق هو راحتيه مع بعضهما. فظهر منديلان في الهواء. نفضا بهما ملابسهما من غبار الممر.

قال جهبور وهو يخطو بسرعة:« والآن يمكنني أن أُحَدثك عنها. اسمها:"صخرة مولاي بوعزة". كان العامة في المغرب يعتقدون أنه إذا ما مر من تحتها شخص عاق لوالديه فإنها تنظغط عليه تلقائياً ، ولا تنفك عنه حتى يموت. وكان بعض المغاربة يحجون إليها ويمرون من تحتها. ليروا ما إذا كانوا عاقين لوالديهم أم باريين بهم. وزارة الأمن عندنا،طوّرت هذه الفكرة . وسحرت هذه الصخرة بتعاويذ سرية. تجعلها تنظغط على كل جاسوسٍ أو إرهابي أو ساحرٍ غير مرغوبٍ فيه . يمرُّ من تحتها».علق بوجا بصوت خافت:« حسبتني جئتُ لمتابعة دراستي. وليس للتجسس». حدجهُ جهبور حدجةً خاطفة:«هنالك من يجعلك جاسوساً له دون أن تشعر أنت بذلك. في هذه الحالة"بنت مولاي بوعزة" لن ترحمك... ورغم هذا كله فجواسيس النمرود طفقوا يخترقون الوزارة بين الفينة والأخرى».


وصلا إلى بهوٍ مظلمٍ. تفوح منه رائحة الرطوبة والنتانة. تساءل بوجا فيما إذا كانا قد وصلا قاعة المحكمة. رد جهبور بلا تركيز:«ألم أقل لك إنك لن تستطع معي صبرا؟. إننا بقاعة التماثيل المسحورة. مفتشوا ومفتشاتُ حسن السيرة، كنتُ أسمع عنك أنك فتىً موهوب. في الحقيقة أنت بليد ومُحبط أكثر من اللازم. سامحني النقد جارح إلاّ أنه قد يوقظ الساحر من نومه «. رغب بوجا في التعقيب عنه. إلاّ أنه خشي أن يُغضبه فيمتنع عن إرشاده. فالتلميذ جهبور مزاجي ّالطباع. امتعض هذا الأخير من رائحة بدءا يشمانها وغمغم بصوتٍ غير مسموع:« اللعنة أشمُّ رائحة ذكرياتٍ تحترق». 
 كانت على يمينهما ’كابينات’ شبيهة بالمراحيض العموميّة. وكان السحرة يدخلون إليها ويخرجون منها رجالاً وأولادا. قرأ جهبور ما كتب عليها بصوتٍ مسموع » خاص بالذكور». وجاهد نفسه ليقرأ ما كتب على ’الكابينات’ الموجودة في الصف الأيسر. حيث سقطت بعض الحروف من أماكنها:« خا- بالإ—ت» . اتجها نحو ’كابينات’ الذكور. دخل جهبور إلى إحداهم . وقبل أن يغلق الباب تذكر شيئاً وقال وهو يضرب جبهته براحتهِ : « آهٍ كدتُ أنساك.أدخل إلى إحدى ’الكابينات’. وافعل كل ما يأمرك به التمثال السحري». 


دلف إلى ’الكابينة’.فاجأته صنم لامرأة عارية.كان الصنم مصبوغا بطلاءٍ أخضر قرمزي . وتظهر على وجهه ابتسامة بين الفينة والأخرى. همس صوت آلي:« اقفل الباب». وبدأ الصنم يتحول شيئاً فشيئاً. حتى صار فتاة شبيهة بملاك. كأنها هي ببسماتها وقسماتها.دنت منه. عانقته وهي واقفة. ضمته، غتَّّتْهُ. أدخلت شفتيها في فمه وبدأت تمتصُّ لسانه.لم يستطع أن يفعل شيئاً. ودّ التخلص منها إلاّ أنها مانعت وتمسكت. شعر بدفءٍ يعتريه من أخمص قدميه حتى أعلى رأسه. مرّت ذكرياته منذ الطفولة حتى الآن على شكل وميضٍ خاطف. قرّبت لسانها من أذنه. بدأت يسمع جميع الأصوات التي كان قد سمعها طوال حياته. مرّت الأصوات بسرعة كشريط ثم تسريعه أثناء تشغيله. تحسست أنفاسه ،بدأ يشم رائحة ألإسطبل، رائحة الزيتون ،رائحة العامة.. ضمته بدفء أكثر.و بدأت تنظر إلى عينيه. تحولت عيناها إلى عدستين صافيتين. مرت فيهما جميع الصور التي شاهدها في حياته.

بدأت شفتاها تتصلبان، وبشرتها تتكلّس. وخشُن جلدها.ثم عادت إلى حالتها الأصلية. إلى صنمٍ حجري قديم عليه الكثير من الغبار ودقائق الدخان. صنمٌ لامرأة عجوز متوهجة العينين. عاد الصنم إلى مكانه بشكل آلي، رافقته جعجعة حجر يحتك مع بعضه. تساءل صوت حجري جاف:« سبق لك أن هددت إحدى التلميذات يوم كذا وكذا..قلت لها:"إذا لم تكفين عن إيذائي سوف أقتلك". من تكون تلك التلميذة يا ترى؟». تذكر بوجا بإجهاد: » آهٍ.. إنها شيطا، كانت تستفزني دائماً، هددتها على سبيل المزاح ليس إلاّ>>. أضاف العبارة الأخيرة وهو يبتسم. تساءلت المرأة /الصّنَم العجوز، وعيناها ترفرفان:« سبق أن قمت بمبارزة مع العفاريت الحفرية. مالسبب في ذلك ؟». شرح لها الأمر وهو يعتقد أنها لن تفهمه. تنهدتِ العجوز وقالت بصوت ٍ بطيء:«حسناً سجلك نقي باستثناء بعض الملاحظات البسيطة. (وارتفع صوتها) يا شمهورش اسمح له بالمرور».


خرج من الباب الأمامي . وجد جهبور ينتظره بفارغ الصبر. تساءل هذا الأخير وهو يبصق على الأرض :« تأخرت كثيراً هل كانت ذكرياتك كثيفةً إلى هذه الدرجة؟». أجاب بوجا وهو لا يدري ما يقول: » ما هذا الشيء العجيب؟». رد جهبور وهو يضحك ويبصق من جديد:« مفتشات السير. تتجسدن للذكور في صفة إناث. وتقرأن ذكرياتهم . وتنصتن إلى جميع الأصوات التي سمعوها في حياتهم... (وتابع كلامه وهو يبصق للمرة العاشرة) ياللبؤس. لقد تجسدت لي في صفة شيطا. كان أنفها يتدلى على وجهي مثل باذنجانة فاسدة. وقبلتني بفمها الشبيه بهذه المغارة. وكادت أن تبتلع لساني. وأنت في أي صورة تجسدت لك؟». كذب بوجا وهو يتلعثم:« احم احم.. لست أعرف عذراء فاتنة. ثم عجوز متصلبة».
- على الأقل أنت محظوظ مع مفتشات السيّر. فكّرتُ كثيراً في ملاك، يقال إن الأصنام المسحورة تتجسد لك في صفة الفتاة التي تفكر فيها قبل دخولك ’الكابينة’.

لا شك أن هنالك من فكّرفيها أكثر مني.. كلُّ ذكرياتي 
كانت مع الفسائل. كان عليَّ أن أُحضر معي علكة. يقال إن الصنم المسحورة لا تتشدّدُ في التحقيق مع من يضع في فمها علكة!.انفجرا ضحكاً وتابع بوجا الحديث:« وكان عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أن العلكة المفضلة عند شيطا هي دودة قزٍّ!».
 كانت قاعة المحكمة تعجُّ بالحاضرين. من متهمين وشهود وزائرين عاديين. من أولئك الذين يحبون الاعتبار بالعبر.ورغم ذلك لم تكن تسمع سوى همسات هنا وهنالك. حيث كانوا يتكلمون دون أن ينظر أحدهم للآخر.
 دخل أحد الحراس حاملاً معه كيساً أسودا. كان الكيس ينتفض بيده مثلما لو كان مليئا بالثعابين. ألقاه على الأرضية. وظل الكيس ينتفض . اتجه الحارس صوب القرص النحاسي، وضربه بيده التي تحوّلت إلى مطرقةٍ لتوها،وهو يصرخ:"محكمه".

ارتجت الكراسي البازلتية التي كانت تحوي الجالسين. وتطاير بعضهم مرتطمين بسقيفة القاعة.ارتطم بوجا بدوره حتى تطاير الشرر بينها وبين قضبان قفصه.عاد مكانه بعد هنيهة. اعتذر له جهبور وهو يضحك: » آهٍ نسيت ،كان عليّ أن أخبرك بتعويذة مضاعفة الوزن..».
 استأنف الحارس كلامه:« افتتحت الجلسة باسم القلعة السحرية. سيفصل في نزاعاتكم كل من السادة :القاضي ميرنوش أباهدرش العفريت العظيم الذي تمكن من تفكيك طلاسم قضية "شيصبان" الشهيرة. ثم القاضي خنتوع ابن برخيا، الساحر الغني عن التعريف.ثم القاضي العفريت زوبعة ذا القرن بصفته رئيساً>>.
 بدأت تُسمع جعجعة رِحِي. ثمّ ظهرت صخرة كبيرة اسطوانية الشكل. تصعد ببطء وهي تدور بشكلٍ لولبيٍّ. وصارت تنبسط حتى أصبحت شبيهة بمكتب حجري كبير. ظهر عليها القضاة الثلاثة كما لو كانت أنصاف أجسامهم السفلى ملتصقةً بها. كان زوبعة يتوسطهم مرتدياً عباءة حمراء.

وكان رأسه شبيها بقرن خروفٍ كبير. ينتهي بثقب كالعين خرجت منه شعيرات رمادية خفيفة. كان لهذا القرن المفتول أثراً على تشويه الملامح حيث يجد الناظر إليه صعوبة كبيرة في تمييز أنفه عن فمه. يجلس إلى جانبه العفريت ميرنوش صاحب الوجه المرآتي. التي كانت تنعكس فيه صور الأشخاص الذين يمرون بجانبه. ثم القاضي الساحر خنتوع صاحب الأنف المفلطح. والعينين الحمراوين.اللذان يتطاير منهما شرر أزرق بين الفينة والأخرى.
 شرع الكيس الأسود ينتفض بقوة ، حتى كاد يظهر ذاك الشيء الذي كان بداخله. فأغلق القضاة والحاضرين أعينهم بسرعة ملتفتين إلى الوراء حتى لا ينظرون إليه. وحده بوجا كان ينظر إليه ويجاهد نفسه لقراءة ما كتب عليه «قضية الغرا—».

انتفض ما بداخله مرة أُخرى لتظهر العبارة بكاملها:« قضية الغراب الأسود».هدأ الكيس بعدما مررَ الحارس يدهُ عليه. وبدأ القضاة والحاضرين يفتحون أعينهم شيئاً فسيئا. سأل بوجا صديقه عن ذلك وعيناه مركزتان على الكيس . ردّ جهبور وهو يتفادى النظر ناحيته :« يوجد بداخله متهم مصابٌ بلعنةٍ ،بسببها تُفقع عيني كل من نظر إليه.إن حراس القلعة لم يقبضوه إلاّ بمشقة النفس. فكل من شاهده تفقع عينيه قبل أن يكوِّن عنه أي صورة عنه. المشكلة أكثر من ذلك فالمحكمة تعتقد أنه بريء وأن النمرود هو من جعله في هذه الحالة المشئومة. إذا اقتنعت المحكمة بهذه الأطروحة ، سوف تبعته لمستشفى الرازي للأمراض السحرية. والآن هل عذلت عن النظر إليه. إنني أتفادى النظر إليك. حتى لا أرى صورته منعكسة في عينيك. في هذه الحالة يمكنني أن أُصاب بالرمد، حسب نظرية موغا المتعلِّقة باللّعنات وانعكاساتها». قال جهبور هذا، ولم ينظر نحو بوجا حتى أيقن أن الغراب هدأ داخل كيسه. فكر بوجا: « أممممم..كدتُ أبصره إنني لا أنفلتُ من اللّعنات إلاّ بضربات حظ».


تابع جهبور كلامه بذهول:«إن مؤسسة الرازي هذه. تعتبر بدورها جحيماً حقيقيّاً. فهم يحاولون حبك نسيج نفسيتك من جديد.(تنهد وهو ينظر إلى الكيس بحذر): المسكين لاشك أن أنفاسه متضايقة داخل هذا الكيس».
 كانت قاعة المحكمة كبيرة ومتسعة. وعلى حيطانها علِّقت شموع وقناديل تنبعثُ منها أنوار واهنة. والحاضرون يجلسون على كراسي منحوتة بعناية. وإن كان بعضهم قد فضل الوقوف في المدرجات الخلفية. وكانت تنحت على كلِّ كرسي معلومات خاصة بصاحبه بمجرد ما يجلس عليه. التفت بوجا ليرى ما نُحت على كرسيه من الخلف فوجد عبارة "السارق الساذج". وعلى كرسي صديقه نحتت جملة:"صاحب الشجرة".

كان المحامون يجرون أمام منصة القضاة كالثعالب. وكانت بينهم الأستاذة ضفدوعة وهي تحمل محفظةً كبيرةً في يسراها. ورغم كلّ هذه الجلبة لم يكن بوجا يسمع شيئاً . لاشك أنهم الآن يتداولون قضية الغراب الأسود. شعر بقليل من الطمأنينة على الأقل لن يسمع أحدٌ من الحاضرين تفاصيل قضيته.غير أنه تذكر أنه بالقلعة السحرية. ولاشيء يضمن له أن الآخرين لا يسمعون تفاصيل المتابعات.وإلاّ لماذا حضر هذا الحشد الهائل من الزوار والصحافيين. وفجأةً دوى صوت قوي ، حتى بدا رجْعه يتردد في القاعة:« ننادي عن المتهم بوجا جا جا..». واستمرت النداءات حتى تقدم جميع من يهمهم الأمر. تدلت من السقيفة سلسلةٌ نحاسية صفراء.

حمل الحارسُ المتهمَ من قفصهِ وعلقه بها. بدا كالببغاء وهو ينظر إلى جنودِ الخفاء، الذين يشتغلون وراء القضاة الثلاثة. رأى سحرة يشتغلون على الإنترنيت السحرية. اختلطت شاشات الحواسيب على امتدادها بحدود عالم السحرة فلم يستطع بوجا التمييز بين الواقع والشاشة.وعلى أعلى الجدار كتب شعار المحكمة بحروفٍ ذهبية صفراء:« العدل رب القيم».وتحته علم القلعة يظهر بداخله، نسران شكلهما بشري.يلعبان المسايفة. بسيفين متوهِّجين. كان ريشهما أحياناً يتطاير – أحياناً- خارج الراية.وتحتهما بيضة ياقوتية شفافة يظهر بداخلها فرخٌ يكبرُ تدريجياً ثم يعود لهيئته الأولى.
 بدأ زوبعة يتحدثُ بشكلٍ هادئ وهو ينظر صوب بوجا:« اسمع بوجا لقد استقدمناك إلى قلعتنا في إطار مشروع تجميع أعداء النمرود شرار. فقلعتنا كانت قد خاضت حربا طويلة مع مملكة النمرود. ونحن الآن في مرحلة هدنة. يعتقد الخبراء أنها مؤقتة.

إننا بحاجة إلى تعويض النقص العددي. لذلك قمنا بتجميع جميع أعداء النمرود وتوفير الحماية لهم. فأبوك مثلاً كان قد قُتِل في السنة الماضية على يد هذا الشرِّير. واختفى حتى أننا لم نستطع ترصد جثته. رغم استعمالنا لأحدث التقنيات السحرية. أما أُمك فقد اختفت حية.وبقليل من التشاؤم يمكننا القول أنه لم يبق من سلالتكم أحدٌ سواك.( تنهّد القاضي وهو يلعب بخنصر يسراه الذي صار قلماً لتوه).غير أنك سرقت أموالاً من خزانة أستاذك، وأنت الآن متهمٌ بخروجك بعد الثانية عشرة ليلاً. وهيّ جنحة وسبب الحظر أغراض أمنية. ومتهمٌ بهجومك على مسكن الغير وانتهاك الحرمات الخاصة. ثم سرقة الأموال، وتكسير الكاميرات وإلصاق التهم بالأخريين.. وهذه كلها جرائم. اِسمع يا ولدي إن نظام الحكم لدينا يعتبر نظاماً صارماً وعادلاً.

ومهما وصلت درجة تعاطفنا معك. فلا أحد يستطيع تبرئتك.إن نظامنا شبيه بدكتاتورية ترعى العدالة والمساواة (نحنح القاضي) وعلى سبيل الاستئناس أسألك سؤالاً: هل توجد بمحاكمكم عدالة؟ «.ردّ الضنين وهو لا يجرؤ على النظر في وجه القاضي:«كلاَّ سيدي». علّق القاضي على جوابه بصوت مرتفع:« إذن تبقى الدكتاتورية التي ترعى الحق والعدل خير من الديمقراطية التي ينخرها الفساد. هذا إذا سلمنا أنكم تعيشون ديمقراطية. لقد دنستم هذه الكلمة». ثم استوى في جلوسه، وصار يتكلم بجدية وحزم:« والآن السؤال موجه للأستاذ حربوء بن شراهيا،من أين لك بذلك المبلغ المسروق.وأنت لست سوى موظفاً بسيطاً بمدرسة؟. فراتبك الشهري مقارنة مع مصاريف الاستئجار لن يكون كافياً لتدخر كلّ هذا المبلغ». 


بدأ بوجا ينظر إلى حربوء وهو يُشاهد تلك الظاهرة التحولية العجيبة التي بدأت تطرأ عليه . لقد شرعت خلاياه الحاملة للّون الآدمي تتقلص لتظهر محلها خلايا شبيهة بالقطع الصخرية. لأول مرة أدرك التلميذ أن جلد أستاذه يتخذ لون المكان الذي يَحِلُّ به. ولأول مرة فهم لماذا كانت قاعة مادة التحول ،دائماً، مصبوغة بتلك الصباغة التي تحمل لون الآدميين.
 بدأ الأستاذ يُجيب بخفوتٍ غير أن القاضي أمره أن يرفع صوته. وسرعان ما بدا صوته مشروخا ويُعبر عن نفسيةٍ خائفة أكثر من اللازم:« سيدي لقد كنتُ أقوم بتدريس بعض الحصص الإضافية، للتلاميذ الميسورين. مقابل بعض القطع الفضية».

همهم القاضي والتفت نحو الطاقم الذي كان وراءه وهو يهمس:« نطلب من هيئة التحقيق الاستعانة بالإنترنيت السحرية.والتعرف على عدد التلاميذ الذين كان يُدعمهم الأستاذ حربوء. وقيمة المقابل الذي كانوا يؤذونه له. ومراجعة فواتير استهلاكه.. (وارتفع صوته) دفاع المتهم هل من تعقيب؟».
 ردّت الأستاذة ضفدوعة. التي يبدو أنها لم تسمع ما همس به القاضي لهيئة التحقيق:« نعم سيدي القاضي لقد قمت بحسابات دقيقة، لعدد الساعات الإضافية التي درّسها حربوء لبعض التلاميذ. وقمت باحتساب المبلغ الذي يمكنه اكتنازه من ذلك. في الحقيقة لم يكن المبلغ يُساوي حتى واحد بالمائة. من المبلغ المصرّح بسرقته. حتى ولو أضفنا له راتبه الشهري. ناهيك أنه كان يأخذ أمواله فضةً . وقيمة الفضة تراجعت في الأسواق طيلة هذه السنوات الأخيرة. وإذا أخدنا بعين الاعتبار نمط استهلاكه. ثم إدمانه على النبيذ فمن المفترض أن تكون عليه ديون.وهاهيّ يا سيدي الأدلة التي تعضد مرافعتي».

ومدت ملفا أسودا للقاضي ميرنوش الذي شرع يتصفحه بعجالة.
ـ القاضي زوبعة:« السؤال الآن موجه لمحامي المدعي:هل من تعقيب؟».
ـ نعم سيدي الرئيس فموكلي كان يدخر جزءا هاما من راتبه ،بالإضافة إلى ما كان يحصل عليه من تدريس حصص إضافية . ورغم أن ثمن الفضة عرف تراجعا ملموسا في السنوات الأخيرة. فإن ثمن الماس قد عرف ارتفاعا صاروخيا. وقد كان مؤازري قد تلقى ماسة كهدية من تلميذة اسمها ملاك. بمناسبة حصولها على الشهادة الابتدائية. وهو ما جعله يكتنز المبلغ المذكور.
 همس ميرنوش في أذن زوبعة:« تقرير شفُّورة بين يدي يقول إن المدعي صرف أموال الماسة في لعب القمار. لاشك أنه يرتاد الحانات».

ردّ القاضي ذا القرن دون اهتمام :« حسناً سوف نتأكد فيما بعد (وارتفع صوته) والآن السؤال موجه للشاهد الجسيم. لقد صرحت لمكتب التحقيقات الأولية أن بوجا قال لك بأنه لم يعد في حاجة إلى كتب الخزانة. وأنه أمسى بمقدوره شراء كتبه بنفسه. إلى أي حدٍّ يمكنك أن تثبت لنا أن المتهم كان على دراية بغلاء كتب الخزانة العامة؟». أجاب الجسيم الذي كان يتفادى النظر صوب الأستاذة ضفدوعة:« نعم سيدي لقد قدّمت له جميع المعلومات الخاصة بذلك. وأعرته في البداية كتاب "تشفير الإشفير" لمجهول ابن معرف. وشرحتُ له أنه إذا أتلفه سيؤدي خدمة عامة للخزانة. ثلاثة أيام من العمل .. إعادة ترتيب الحروف داخل الكتب التي تعرضت لبعض المشاكل. ونفض الغبار عنها.

وإعادة الكلمات التي غادرت أماكنها إلى كتبها...وهاهو سيدي القاضي قرص الخزانة المسجل ـ ساعتئذٍ ـ وفيه الحوار الذي دار بيننا». انتفض بوجا بقفصه حتى بدأت السلسلة النحاسية تتحرك به.وهو يقول بصوت مختلط بالبكاء:« سيدي القاضي إن هذا لم يحدث أبداً.فكلُّ ما قال لي هو أانن..». وتلعثم لسانه وتبددت الكلمات من ذهنه.وشرع القاضي يحذره بقلق:« اسمع يا ولدي عليك أن تعترف في أقرب وقت ممكن. فالتمادي في الإنكار قد يُضاعف من العقوبة.. ليس لدينا وقت لنضيعه معك..(نحنح القاضي) والآن السؤال موجه إليك: ادعيت أن ملاك هي التي أهدتك تلك القطع الذهبية. ألا تستطيع أن تتذكر ما إذا كان شخص ما قد انتحل صفتها وتشبه لك بها».
 رد بوجا بوهن وحيرة:« سيدي القاضي لقد كنت أخجل من إطالة النظر في وجه ملاك. وكل ما استرجعه الآن هو أن لسانها كان غريبا ذلك اليوم. وأنها لم تكن تتكلم به بطلاقتها المعهودة».
 قرب القضاة الثلاثة رؤوسهم من بعضم البعض. وإن كانوا يتفادون الشرر الذي يتطاير من عيني خنتوع وبدأ زوبعة يهمس: « لا شك أن أحدهم علَّمه ما يقول .

هاه هاه كثرة الهم تضحك. فهو يلمح إلى لسان حربوء». وجأر ذا القرن وهو يطرح سؤالاً آخرا:« والآن السؤال موجه للمحاميين على التوالي: بالرجوع إلى مكان السرقة وزمانها.( أقصد منزل حربوء ساعة..). وبالرجوع إلى المكان الذي ادعى فيه بوجا أن ملاك سلمته المبلغ المذكور. نجد أن العدسات السحرية التي كانت تصور وتسجل الأحداث الواقعة تحت مدارها. كانت معطلة طيلة تلك المدة. وهذا ما يعني أن أحد السحرة عطلها. وقد أفاد تقرير لجنة العدسات المسحورة. أن الطريقة التي عُطِّلت بها تلك الكاميرات كانت ذكية جداً. لاشك أن الفاعل كان على دراية كبيرة بتعاويذ الإبطال. وأوقات استخدامها..(احم احم) هناك احتمالين : إما أن يكون بوجا هو من فعل ذلك .لإتلاف أي ذليل يُثبت إدانته.وفي هذه الحالة فالضنين أضحى ساحراً موهوباً. وإما أن أحدهم عطّل الكاميرات وانتحل صفة ملاك. وأتلف جميع الأذلة التي يمكن أن تقود إلى الحقيقة».

ـ الأستاذة ضفدوعة: نعم سيدي القاضي . فمؤازري لم يكن ـ آنذاك ـ على علم بوجود كاميرات سحرية سواء تلك الموجودة في الأماكن العمومية . أوتلك الموجودة في منازل السحرة والتي يملكون الخيرة في تشغيلها. وحتى لو افترضنا أنه كان علم بذلك. فلن يعرف كيف سيعطلها، وكلّ ما كان سيفعله هو رشقها بصواريخ حجرية، بطريقة بدائية. وكل ما يقال من أن الضنين أتقن بعض التعاويذ مند الفترة الأولى. وانه استوعب عمليات تخزين الأدوات تحت تعاويذ مشفرة. بسرعة لا تُضاهى. كل ذلك هراء في هراء سيدي الرئيس. فهو لم يكن يفعل شيئاً أكثر من تكبيل يديه مع أطراف سريره. عندما يرغب في النوم وبهذا اشتهر بأنه لا يخدش أطراف جسمه ! .

وفي الملف الذي بين أيديكم،سيدي الرئيس، وسائل إثبات تؤكد أقوالي.
 ـ محامي المدعي: عفواً سيدي الرئيس فبوجا ابن عائلة عريقة في السحر. رغم أنه تلقى تربيته عند العامة.لا شك انه يحمل بعض الخصائص بالوراثة. فقد اكتسب مثلاً مهارة خياطة الجروح بسرعة لا نظير لها. كما انه استطاع ،يوما، أن يفجر بعض أشجار الفواكه الضاحكة. وهي عمليات لا يتقنها حتى بعض أساتذة المدرسة. سيدي زوبعة لذي يقينٌ مطلق، بأن المتهم هو من سرق أموال أستاذه.. لقد كان حربوء يُواظب على دعم بعض التلاميذ بدروسٍ إضافية بمنزله. لا شك أن أحدهم تعرف على خزانة الأستاذ الخاصة. واستطاع أن ينقل معلومات بوعي أو بغير وعي إلى هذا الضنين الذي وظف نباهته في سرقة أستاذه. وأحيطكم علماً سيدي القاضي أن الطريقة التي عطلت بها الكاميرات المسحورة بمنزل الأستاذ هي نفسها الطريقة التي عطلت بها كاميرات المكان الذي ادّعى فيه المتهم ما ادّعاه. مما يعني أن الفاعل هو نفسه في كلتا الحالتين.
 كان جهبور بمقعده يتابع تفاصيل هذه الجلسة بتركيز. وكانت شيطا قد وصلت و جلست بجانبه وهي تمسح عرق جبينها وتهدر:« بمجرد ما خرجنا من مادة التشفير. طلبت من أحد السحرة أن ينقلني إلى هنا أنا شغوفة بمتابعة مثل هذه القضايا».

تجنب جهبور التعقيب عنها حتى لا تلهيه عن متابعة تفاصيل المحاكمة. وغمغت ممتعضةً وتابعت:« دروس التشفير اليوم كانت ممتعة الحاسوب يشرح الدروس خيرٌ من صاحبته، التي تقضي الساعة كلها وهي ترفع شعرها عن عينيها». كان جهبور منشغلا بمحاولة تذكرِ أحداث وأقوال تبددت من ذاكرته. وأخيراً تذكر ذلك اليوم الذي قضاه معه عاشور وبوجا يساعدانه في غرس الفسائل. لقد تحدث هو وعاشور عن الساعات الإضافية وكيف يقضيانها بمنزل حربوء. واسترجع جهبور عندما قال لهما من باب المزاح:« لقد أرسلني حربوء لأحضر له شيئا من المطبخ. وقد رمقت في دولابه قطعا ذهبية كثيرة . كان عليّ أن أسرق واحدة منها».

وفهم جهبور لماذا كان عاشور دائماً، يعتقد أن بوجا ضليع في هذه السرقة.
 تساءل زوبعة وهو يلعب بمجسم صغير لضفدع. بين أصابعه:« القاضي خنتوع هل من سؤال؟». أجاب القاضي خنتوع الذي كان يتفرس وجه بوجا: « سيدي الرئيس سؤالي موجه لكل من الشاهد والمتهم.. عندما رجعنا إلى كتاب"تشفير الإشفير" لمجهول ابن معروف. لم نجد به أي دليل يثبت أنه تعرض للتمزق. ولم تتغير الورقة الخاصة بطابع الخزانة. كما جاء في تصريح الضنين.من أن ملاك هي التي أعطته تلك النسخة وكذا وكذا..».
فقد بوجا السيطرة على أعصابه ولسانه. وصار يتكلم كمن يُحاول إقناع نفسه:« سيدي القاضي لم يعد اليوم يهمني أن أُزجَّ في السجن. أو يخلى سبيلي. لقد أمسى السجن أهون عليّ من هذه التحقيقات. فقط يجب أن تعرف شيئاً وحيداً هو أنني بريء. اللهم إذا كان أحدهم قد انتزع جسمي مني واستعمله في هذه السرقة !».


ابتسمت الأستاذة ضفدوعة. وضحك القضاة. وسُمعت قهقهة شيطا في الصفوف الخلفية.. وضرب زوبعة يدهو، مع المكتب الحجري وهو يزم شفتيه ويطلب الهدوء، ويهدر:«لا تخف، ليس لذينا سحرة بهذه القوة. وعلى كل حال فنحن ندينُ العقل وليس الجسم». 
 - الجسيم: يسدي الرئيس، لا تصدقه إنها طريقة المراوغة عند العامة.إنه ادّعى أنني صفعته تلك المرّة. قانون القلعة يمنع عليّ معاقبة أي كان. وكلّ ما كنت سأفعله هو إخبار مدير المدرسة بذلك. وأقصى عقوبة في هذه الحالة هو أنه سيؤذي خدمة للخزانة. عفواً سيدي الرئيس أنتم تعرفون القانون أكثر مني.

بدأ الرئيس زوبعة يضرب مكتبه من جديد. وهو يهدد الحاضرين:« الهدوء.. وإلاّ تركت حارس المحكمة يمارس عليكم تعويذة التبكيم.( وتابع كلامه بخفوت) نعم السيد الجسيم فجميع الصور والأصوات المسجلة تؤيد كلامك.ونحن نشكرك بطبيعة الحال فسيرتك مليئة بالعطاء والجدية..(وارتفع صوته قليلاً) والآن سؤالي موجه للأستاذة ضفدوعة، ما هو تشخيصك العام لهذه الحالة؟. وأتمنى عزيزتي ألاّ تؤثرَ عليك العاطفة. فأنتِ ساحرة فذة وعظيمة.إلاّ انك معروفة بإحساسك المرهف.وإنسانيتك المفرطةو.ومن جهة أخرى ..أقصد أن أم المتهم تحولت إلى ضفدعة واختفت بعالم الضفادع أو مع ضفادع العامة. وأنتِ تتعاطفين معه فقط لأن أمه كانت "أنيماجوس" مثلكِ. أقصد بينكما فروق كبيرة فهي من العامة.أما أنت فساحرة ٌقحة و نقية الدم.أنا أعرف والديك منذ الطفولة لقد كانا صديقيّ..

ثم إن أم الضنين قد تحولت إلى ضفدعة في ظروفٍ غامضة. ربما كانت قد مارست تعويذة عن طريق الصدفة.أو أن أحداً مارسها عليها. وهي الآن لا تستطيع الرجوع إلى حالتها الأصليةو، أما أنت "فأنيماجوس" كبيرة وتفعلين ذلك بمشيئة إرادتك».
 احتقن الدم في وجه الأستاذة. وتورّدت وجنتاها. إلاّ أنها تظاهرت بعدم الاهتمام وشرعت تُرافع بصوتٍ مهتز:« سيدي الرئيس.السادة القضاة المحترمون.السادة أعضاء هيئة التحقيق. لقد ندبت نفسي للدفاع عن هذه الحالة مجاناً. ليس للاعتبارات التي ذكرها الرئيس آنفا ولا لسواد عيني بوجا. فإذا كان هذا الأخير يستحق التربية فلن نجد له أحسن من هذه المناسبة. لكن صعوبة سجن "سجفنارت". وحداثة سن الفتى. وحالته النفسية. أُمور كلها تجعلنا لا نقبل الظلم. إننا هنا باسم العدل وهو أشرف القيم وأنبلها وهو كذلك مركزها ومحركها.

لذلك فعلى هيئتكم الموقرة أن تلتزم التدقيق والتمحيص. فلا زالت القضية غامضة ولا زالت خيوطها متشابكة. فنحن لم نتأكد بعد من أن الأستاذ حربوء يستطيع جمع هذا المبلغ. ولم نعرف ما السبب الذي جعله لم يضع شكايته لدى الضابطة القضائية.إلاّ عندما علِم أن هنالك أموال بحوزة المتهم. ولنفترض أن هذا الضنين وجد ضائعةً. وخشي أن لا يصدقه أحد . فلفق كذبة ، وعطل الكاميرات. ومشط جميع الأدلة من المسرح. فقانون القلعة لا يُعاقب شخصا فقط لأنه وجد ضائعة. وظاهرة رمي الكاميرات العمومية بالتعاويذ، وإتلافها باللعنات ظاهرة معروفة وسط التلاميذ والمراهقين.ولو أردنا معاقبة كل من فعل ذلك لأدخلنا معظمهم إلى( سجفنارت) . ولنفترض سيدي الرئيس أن أحداً انتحل صفة ملاك ومنح للمتهم المبلغ المالي والنسخة المذكورة. وترصده حتى توسط في ممشاه نحو الخزانة. وغير له الكتاب بواسطة الإنترنيت السحرية. وعندما اقترب مؤازري من الجسيم أظهر تخوفه. وبدأ يعتذر.غير أن الجسيم تسرع وصفعه. قبل أن يتبيّن ما إذا كان الكتاب ممزقاً أم لا.

وعندما رجع إلى الكتاب وجده على هيئته الأصلية. فبطبيعة الحال سيندم عن تصرفه. وسيُغيِّرُ الشريط المسجل، بشريط مزور. وربما هذا هو الشريط الموجود بين أيديكم. (نحنحت) سيدي القاضي هنالك عدة فرضيات يمكنها أن تقود إلى تبرئة ساحة موكلي. علينا فقط أن عن الخيط الرابط بينها. لذلك أطلب من محكمتكم الموقرة أولاً:ـ تمتيع مؤازري بالسراح المؤقت، ورفع الضرر النفسي عنه. إعادة فحص الأشرطة المسجلة التي أدلى بها الجسيم واعتبار هذا الأخير متهما في القضية وليس شاهداً. ثالثاً التحقق من جميع وسائل الإثبات التي أدلى بها محامي المدعي. وطلب حضور الشاهدة ملاك من أجل الاستماع إليها. وإحضار الرائية لتدلي بدلوها في قضية مؤازري.
 همس القضاة الثلاثة فيما بينهم . وارتفع صوت زوبعة وهو يقول: « إذن فلننادي عن الرائية».
 ظهرت ساحرة عجوز، ترتدي أسمالاً رثة. وتتكِئُ على عكاز من قصب. اقتربت العجوز من قفص بوجا الذي كان معلقا على ارتفاع قامة طفلٍ . وقرَّبت أنفها من وجه بوجا حتى بدأ يتضايق من أنفاسها. وغمغمت وهي ترتجف :« أشــ.. أش أشم را را رائحة قضية معقدة».( يتبع)

 الجد الأكبر للنمرود شرَّار.
 طيور أشبه بالخفافيش وبحجم الفيلة .عاشت في عصور جيولوجية غابرة.تستعمل في القلعة للتنقل .لا تملكها إلاّ الأسر الثرية.

عبارة إنجليزية تعني ،في الأدبيات السحرية، قدرة الساحر على التحول إلى حيوان أو إلى نوع آخر.
ـ جهبور هنا يقصد صخرة مولاي بوعزة.
والتي تحولت لتوها إلى مطرقة ذهبية صغيرة.
وتوقعت الأستاذة ضفدوعة ما سيقوله الجني زوبعة بعد هذه المجاملة.
واستوعب بوجا كلام القاضي.وفهم أن أمه الحقيقية توجد في وضعية عسيرة. وشرع يدرف دموعه في صمت.

الحلقة الثالثة: صخرة مولاي بوعزة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى