الثلاثاء ٨ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عادل سالم

ملك العتالين أبو سليم

منذ تحول إلى سوق العمل المأجور، أصبحت تلك مهنته التي لم يبحث عن غيرها، كأنه أحبها، أو أصبح أسيرا لها.

يعدها الناس مهنة من المهن الوضيعة التي لا تحتاج إلى خبرة وفن، ويسخرون من صاحبها، لكن أبو سليم يعدها أصعب مهنة، لا يستطيع القيام بها إلا رجال معدودون.

كان في البداية عتالا (حمالا، شيالا) على مستوى صغير يحمل أكياس الطحين، والرز، والسكر على ظهره لنقلها من الشاحنة إلى المستودع حين كانت الروافع (الفورك لفت) غير مستخدمة في بلادنا. لكنه بعد سنوات أصبح عتالا من الطراز الأول، بل العتال الأكثر شهرة في باب العمود في القدس حيث المقر الأساسي للعتالين.

كان تواجدهم الأساسي في مقهى «عودة كستيرو»، الواقعة مباشرة على تقاطع شارع السلطان سليمان مع حي المصرارة. لم يعد أبو سليم عتالا للأعمال الصغيرة، فقد أصبح متخصصا في نقل الأشياء الكبيرة، ماكنات لا يمكن لأي شخص عادي نقلها.

لم يكن يستخدم رافعات ولا جرارات، لكنه اشتهر باستخدام الحبال، والاسطوانات الحديدية التي كان بواسطتها يحرك الآلات الثقيلة وينقلها من مكان إلى آخر.

ساعدته بنيته العضلية في تحريك الكثير من الآلات الثقيلة، فقد أكسبته مهنته قوة رباع مشهور.

كان يحمل الثلاجة على ظهره ويصعد بها إلى الطابق الثالث، والرابع دون مساعدة أحد حتى لقبوه بملك العتالين.

لهذا أصبحت أجرته من أعلى الأجور وصار له زبائن لا يستعينون إلا به، ولا يرتاحون إلا بالعمل معه، فشكل مع عدد من زملاء مهنته مجموعة عمل لمساعدته مما أراح التجار وأصحاب الشركات الذين أصبحوا يستسهلون العمل مع (أبو سليم) لأنه يقوم بكل المهمات المطلوبة، من إحضار العمال المطلوبين للعمل، والاتفاق معهم، وضمان إنجاز العمل في الوقت المحدد.

أحبه العمال، وتقربوا منه ليصطحبهم في الأعمال التي تعرض عليه. لم يظلم أحدا من العتالين الذين عملوا معه، فقد كان يدفع لهم أجورهم حسب الجهد الذي يبذلونه في العمل، وليس حسب عدد الساعات. فثمة عمال كانوا ينجزون أكثر من غيرهم لخبرتهم، وقوتهم في التحمل، فيما آخرون لا يستطيعون سوى القيام بالأعمال الصغيرة.

في أحد الأيام في أواسط سبعينات القرن العشرين عرض عليه مدير إحدى المطابع نقل ماكنات الطباعة والورق من مطبعته القديمة في باب الجديد إلى مكان جديد في شارع الواد. ورغم أن المسافة ليست بعيدة لكن طرق البلدة القديمة ضيقة ويكثر فيها الدرجات التي تعيق استخدام العربات الصغيرة، ولا يمكن استخدام الشاحنات في النقل.

عاين أبو سليم الأدوات التي سينقلها والطريق التي سيسلكها وطلب من المدير مائة دينار. حاول المدير أن يفاوضه في الأسعار لكنه رفض وأصر على رأيه قائلا له:
 أبو سليم لا يفاوض بالأسعار لأنه يقدم أفضل الخدمات.
وافق المدير بشرط أن يتحمل أبو سليم مسؤولية سلامة المعدات التي ينقلها.
ابتسم أبو سليم وقال له:
 أي خراب أو كسر سأتحمل مسؤوليته.
في اليوم المحدد حضر أبو سليم ومعه ثلاثة عتالين. نظر إليه المدير وسأله:
 أين بقية العمال؟
فهم أبو سليم قصده، وأجابه؟
 هل تريد عمالا، أم نقل آلات الطباعة؟
 وهل يكفي أربعة عتالين لنقل كل هذه الآلات؟
هز أبو سليم رأسه وقال:
 اجلس وراقب العمل، واحكم بنفسك.

في آخر النهار، كانت كل الآلات قد نقلت بسلام دون أن تصاب بأي خلل.
استغرب المدير سرعتهم في إنجاز العمل لكنه استكثر عليهم المبلغ وقال لنفسه:
 لو شغلت عشرين عاملا لنقل المعدات لن أدفع لهم هذا المبلغ في يوم واحد.

عندما حان موعد الحساب، شكرهم على جهودهم، وقدم لهم بعض المشروبات الغازية ثم أخرج من جيبه خمسين دينارا.

نظر أبو سليم إلى المبلغ وسأله عن الباقي، فقال له المدير:
 أعتقد أن هذا المبلغ يكفي، لقد أنجزتم العمل في يوم واحد وأنتم أربعة، وكنت أعتقد حسب خبرتي السابقة أنني بحاجة إلى عشرة عمال للعمل عدة أيام.
ضحك أبو سليم وقال له:
 ما قلته صحيح هذا العمل يحتاج إلى عشرة عتالين وعمل ثلاث أيام، لكن أبو سليم ومعاونوه قاموا بعمل العتالين العشرة بيوم واحد. ولا تنسى اتفاقنا المعقود.
 لقد خدعت بالاتفاق.

تذمر العتالون الآخرون وقبل أن يتحدثوا نظر إليهم أبو سليم وقال لهم:
اهدؤوا دعوني أتابع، أنا الذي اتفقت معه. ثم استدار إلى المدير وقال له:
 أرجو أن لا يحصل خلاف بيننا ما رأيك بلجنة تحكيم؟
فكر المدير قليلا ثم قال:
 ليكن، أنا مع التحكيم.
أعاد أبو سليم المبلغ للمدير وقال له سنقبل بحكم اللجنة.

تم تشكيل لجنة من الوجهاء وبعض العتالين من القدس الذين درسوا الوضع وخرجوا بقرار أن نقل المعدات يحتاج إلى عشرة عتالين على الأقل لمدة ثلاثة أيام.
فقال لهم المدير.
 ولكنهم أنجزوه بيوم واحد وهم أربعة.
 فقال له أحد العتالين:
 أبو سليم ليس عتالا فحسب، إنه ملك العتالين كلهم.
هز المدير رأسه وقال:
 أرجو من الآن أن تعدوني ملك المعتذرين سألتزم بقراركم وأدفع له ما اتفقنا عليه، وفوقها مئة دينار لأنني تراجعت عن اتفاقي معه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى