الاثنين ١٤ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أحمد السرساوي

ثورة 25 يناير والخطاب الأدبي

السبب والنتيجة

أيهما سبب للآخر؟

اختلف عدد كبير من الأدباء والمحللين – ومنه ما كان أمام عيني – حول قدرة كل من الثورة والأدب على التأثير في الآخر؛ فمنهم من قال بأن أعمالاً أدبية كثيرة ومتنوعة ساهمت في تشكيل وعي ثورة 25 يناير التي أفرزت من المجتمع المصري معانٍ ودلالاتٍ أكثر مما تخيله الأدباء واستنتجه المفكرون. هذه الأعمال الأدبية، رغم تنوع بواعثها وأهدافها، لعبت دوراً كبيراً في توجيه رؤى المتلقي المصري إلى ما وراء الحدث، وتعديل زاوية الرؤية إلى ما خلف الستائر.
حالة مختلفة..

ولا يخفى أن هذا المتلقي هرب من التجمعات الثقافية المعروفة واختفى وراء شاشة زجاجية، ليبدل حالة التفاعل بينه وبين المبدع من احتكاك الجلد بالجلد .. إلى وساطة الهواء والإشارات والأقمار الصناعية. خلقت هذه الوساطة فجوة (مفتعلة) بين المبدع والمتلقي، ليفتقد كلٌ منهما الآخر، ويجلس منعزلاً يشكو الوحدة وطول الطريق.

لغة جديدة..

ورغم هذه الحالة من الانشطار الجزئي، أخذت التجمعات الافتراضية في الظهور، وانتشرت عوالم جديدة للحوارية المستفاضة بين المبدع والمتلقي في شكل منتديات ومدونات ومجموعات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، شكلت منابر جديدة للخطاب الأدبي – بموازاة أنواع الخطاب الأخرى – وبدلت القلم بلوحة المفاتيح، والورقة بشاشة الكمبيوتر، ووسائل المواصلات بنقرات الـ "ماوس". ومن هنا ظهرت إشكالية مبدئية، وهي عدم رغبة الجمهور في الانتقال إلى مواقع العرض الأدبي، وساهم في ذلك مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية. من الجهة الأخرى، عوّض جمهور الأدب – والأدباء أنفسهم - ذلك الفراغ بالجلوس خلف شاشات الحاسب الآلي. فاكتُشِفت لغة جديدة للتواصل، ومنابر جديدة للحوار؛ مما أعطى الفرصة للأدباء لعرض إنتاجهم بشكل أكثر تحرراً وصراحة. وهذا ما ساهم – مع المسببات الأخرى – في خلق العقل الناقد لدى المجتمع – وخصوصاً الشباب – ما كان تمهيداً لخروج صحوة فيضانية مثل ثورة 25 يناير.

رأي آخر..

واجه هذا الرأي هجوماً عنيفاً ممن يغارون على الشباب والثورة بشكل حميمي. فقيل لهم: "حرامٌ عليكم أن تعتلوا الموجة مثل أناس آخرين .. الأدباء لم يكن لهم وجود أصلاً في ساحة العقل العربي عامة، ومنذ زمن بعيد؛ الأدباء لم يكن يعرف عنهم أحد، ولا حتى هم أنفسهم...".

واستند هذا الرأي إلى حالة "اللاتفاعلية" بين المبدع والمتلقي بشكل "فيزيقي"، بحيث لم تُغنِ العوالم الافتراضية عن اللقاء الحقيقي بين المبدع والمتلقي والذي يجعل الحياة الأدبية أكثر إثماراً وأعمق إنتاجاً. وقد لقي هذا الاتجاه تأييداً أوضح – إلى حدٍ ما - من قبل المثقفين، وكان مبعثه كثير من المناقشات والدراسات التي تناولها الأدباء في مؤتمراتهم وصالوناتهم. فقد كثرت الكتابة حول علاقة المبدع بالمتلقي وحالات الفتور التي انتابتها خصوصاً بعد ثورة يوليو عام 1952م. وكأن لسان حالهم يقول: " إما أن ارتكن الجمهور إلى الجيش ليقوم بكل ما يمليه الوطن، وإما أن السلطات الحاكمة هي التي همشت أي دور سواها.". أظن أن السبب في كليهما معاً.

حجة قوية..

أخذ أصحاب الرأي الأخير هذه الحجة ليعضدوا بها نظرتهم التي تجنب دور الأدب في ميلاد الثورة، وإنما قالوا بأن الثورة هي التي صنعت نظرة جديدة لدى المجتمع المصري كله ، مما جعل المصريين يفكرون بشكل أكثر عملية وإيجابية، وقد امتد أيضاً مثل هذا التفكير إلى العقل العربي عامة.

كان هذا عرضاً مختصراً للعلاقة المحتملة بين الأدب والثورة، ولكني أعتقد أن كلاهما أثر ويؤثر في الآخر. هذا التأثير أصبح واضحاً أكثر بعدما استقرت مهام وأهداف ثورة 25 يناير وأصبحت نموذجاً لشعوب العالم، يتعلمون منه كيف تكون قوة الشعوب .. وكيف تكون قناعات السلطات. فيما يأتي نَبْسُط – بشيء من التحقيق – لكلا الرأيين فيما هو السبب .. ومن أية جهة.

أعمال أدبية ساهمت في تشكيل وعي الثورة:

ما من شك في أن الأدب والفن بكل أشكالهما – بل الثقافة عامة – هي الباعث الأول لكل نهضة ولكل تجديد. فقد أثبت التاريخ، عبر عصوره المتلاحقة، أن تشكيل الوعي هو أصعب الصناعات وأثقلها، حتى إن القوى الاحتلالية أدركت مؤخراً أن صناعة ثقافة الآخر هي بداية البدايات لإحكام القبضة عليه. فانشغلت بذلك، وسخرت له كل الإمكانات والقدرات لتحقيق أهدافها التي غالباً ما تكلل بالنجاح.

ومن هنا كانت الثقافة أساس بناء كل حضارة، وكانت على رأس كل نهضة وإنتاج، وذلك لا يحتاج لأدلة ولا براهين. نحن هنا نخص ثورتنا " الحداثية " بكل ما تحمله من الجديد في التخطيط والتنفيذ والسياسة. هذه الثورة التي أشعل فتيلها فتية عانوا من فجوة شاسعة بينهم وبين المحيطين بهم. هذه الفجوة التي كانت سر شقاء هذا الجيل، صارت – من الناحية الأخرى – فرصة للخروج من الملعب والاستمتاع بشمول الرؤية ووضوح المعنى واستقامة الزوايا. فأصبح انعزالهم بوابة لولوجهم في صلب الحياة السياسية والثقافية. وأصبح إحجامهم عن المشاركة منطلقاً لانخراطهم في قلب بوتقة صناعة الأحداث. ولم يكن هذا الانخراط ولا ذلك الدخول إلا بعد رؤية متأنية وواعية للأحداث، وقراءة جيدة وناقدة لدلالات الإنتاج الثقافي عامة والأدبي على وجه الخصوص. والدليل على ذلك، أن شباب الثورة أنفسهم كانوا يستعملون كثيراً من الأعمال الأدبية والفنية للتعبير عن مطالبهم وأهدافهم. من هذه الوسائل الأغاني الوطنية القديمة والشعارات التي اعتبرها الناس في وقت من الأوقات مجرد تراث لتأريخ عصور ولّت ولم تعقب.

من هذه الأعمال مثلاً:

شعر .. وغناء

بالطبع لا ينفصل الغناء عن الشعر، فالأول انعكاس للآخر ومظهر من مظاهره. وعلى مر العصور الأدبية، كان الشعر مبعثاً للثورات وأداة لبعث الهمم وتقويتها. ابتداءً من فخر عنترة بن شداد ، مروراً بهجاءات حسان بن ثابت ومدائح المتنبي، ثم حماسيات البارودي ومدرسة الإحياء والبعث، وبعد ذلك خروج الشعر على قالبه العامودي ودخوله في قالب جديد لينتج للتراث الشعري إسهامات واضحة من الشعر الفصيح والعامي ويتحول كلٌ إلى أغانٍ يشتد بها عود الثائر وتُرفع بها قامته. ونحن هنا لا نفصل بين الشعر والغناء بحيث – كما قلنا – كونهما جسداً واحداً.

وكان لثورة 25 يناير إرهاصات كثيرة ومتعددة من الشعراء حتى ظن الشعراء أنفسهم أنهم يعيشون في معزل عن الواقع واتُّهِم كثير منهم بالرومانسية – وكانت في عصرنا تهمة - وجموح الخيال، بل اتهم كثير منهم بالعَتَهِ والجنون والغباء.

وأعتقد أنه ما من شاعر إلا وكتب عن الظلم واستفحاله..، وعن الفساد وطغيانه..، وأيضاً عن شجب الخنوع واستبعاث الحريات والحقائق من مكامنها. وإن تناولنا أياً من الشعراء – المحترفين أو كتاب الأغاني الجديدة – برؤية فكرية، لوجدناه مهموماً بقضية حرية الفرد، ليس في مصر فقط، وإنما في الوطن العربي والعالم الإنساني بشكل عام. وبالطبع انعكس ذلك على الإنتاج الغنائي، وخير دليل الأغاني الشعبية الشهيرة، وقد صارت رمزاً للوطنية والأخلاق، فما بالنا بالأغاني الأكثر احترافية وثقافة.

رواية .. ودراما

الأمر نفسه يسري على الرواية ، وبالمثل قرينتها الأكثر شيوعاً الدراما، من حيث انشغال كلتيهما بالتوغل في تفاصيل تلك العلاقة المشوبة بدخان والتي تولدت بين السلطة ورأس المال. بدا ذلك جلياً في أعمال ظهرت على الساحة الفنية بشكل أوسع من الساحة الأدبية، ولكنها كانت ترجمة مباشرة للفكر الأدبي في ذلك الوقت. وهنا أتذكر الرواية التي كانت السبب الأكبر في اعتلاء صاحبها سحاب الشهرة والجوائز حين تم تدويرها في فيلم سينمائي، على غرار روايات الكبير نجيب محفوظ، وهي رواية " عمارة يعقوبيان " للكاتب الدكتور علاء الأسواني. وهنا أيضاً أتذكر بشيء من الخصوصية مسلسل " يتربى في عزو " للساخر الشهير يوسف معاطي، وقد كانت رؤية لا تقل في أهميتها وعمقها عن النكات الشعبية البسيطة للشعب المصري الذي أثبت أنه صانعٌ لكل مجيد.

وبعد ذكر عملين لقيا من الشهرة ما جعلهما نموذجين متوهجين، نستطيع أن نذكر بأنفسنا كل ما برز على الساحة الجماهيرية من أعمال بلغت حد الفجاجة في الوضوح ( لكي يرى من الغربال من يهمه الأمر )، حتى اتُّهم الشعب المصري بالغباء والتسطح إلى حد الإغراق في الواقعية القذرة التي سيطرت على أفلام السينما في الآونة الأخيرة.

لكننا نعرف أن هذا كله سيتغير شكلاً وموضوعاً .. بعد 25 يناير 2011.

أدبيات من رحم الثورة:

ظهرت بواكير هذا التغير في موضوعات ولغة الحوار لدى الأعمال الأدبية منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة. وكأن الأدب خرج إلى ميدان التحرير مطالباً بالحرية والعدالة، وقد عانى كثيراً من التهميش والعشوائية. وإن كنا نؤيد ثورة الأدب في هذا الوقت بالذات، فذلك لا يغفل الأعمال الكثيرة الممسكة بذراع الأدب الحقيقي مهما ثارت رياح العشوائية.

منذ 25 يناير، والأقلام لا تكف عن العدو على الأوراق، إما محتفلة بنصر حقيقي في زمان زُيِّفَ فيه كل ما كان جميلاً، وإما مؤازرة لمن يقومون على رعاية الثورة في أنحاء العالم، أو محذرة من انعكاسات الموج الغادرة التي تقلب كل ما هو قائم.

ظهرت المسرحيات والقصائد والقصص القصيرة، بل الروايات، لتثبت للعقل العربي أن الأدباء لم ينعزلوا لحظة عن القلب الإنساني المجروح. وهنا تجدر التحية والتقدير لكل قلم كتب – بوعي – عما يهم العقل المصري والعربي والعالمي، حتى يتمكن الجمهور باتساع رقعته من الوقوف على ماهيات الأمور، وتعرف القوى المختلفة مقاديرها.

دعوة عاجلة :

بعد ذلك يجب الحث على إعادة مشهد الثورة في ميدان التحرير بشكل أكثر تنظيماً، بحيث يعاد عرض كل المشاهد الأدبية والفنية التي صاحبت ثوار التحرير وبقيت في الميدان حتى طلع النهار الجديد على مصر.

بمعنى أننا إن وجهنا الدعوة الشاملة لكل من ساهم في الثورة بعمل فني أو أدبي للمشاركة – الجماعية المنظمة – في حدث ثقافي يعادل معرض القاهرة الدولي للكتاب، ويكون عوضاً عن المعرض الذي تم إلغاؤه أو تأجيله هذا العام. ليصبح "كرنفالاً" سنوياً باسم ثورة 25 يناير. وليكن ذلك من أولى أولويات وزارة الثقافة الجديدة، فسيخدم ذلك كل مستويات الثقافة ويعيد الجمهور إلى شهيته الثقافية مرة أخرى.

ثورة الأدب .. وأدب الثورة (مستقبل جديد)

إذا كان الأدب قد ثار على استبداد القوى الثقافية القديمة، وأعلن توبته عن التطرف التسطيحي، وبدأ عصراً جديداً من الحرية الفكرية والثقافية التي تجعل من القلم والورقة سيف الوطن ودرعه، فإن الثورة نفسها سوف تعلن توبة الجمهور عن التجاهل للعلوم والحقائق التي طالما غاب عنها وركض وراء لقمة عيش عطنة في برية ليس له آخر. ومن هنا يصبح الأدباء والجماهير دفتي الثقافة في مصر " الجديدة ".

علاقة جديدة

علاقة جديدة سوف تحدد ملامح الثقافة القادمة، ووعي جديد سوف يرسم شكل الإبداع والتلقي، ورؤى جديدة سوف تجعل العالم يراجع نظرته للعقل المصري والضمير العربي. ومثلما أثبتت ثورة 25 يناير قدرة القلب المصري على التجدد والقيادة، فإن الأدب – موازياً للثورة – سوف يثبت أن العقل العربي هو صانع الإبداع الأدبي الخلاق ومحرك اللغة الجديدة والخطاب الجديد. ومثلما تَنَبَّهَ كبار القوم إلى أن عقول الشباب هي الثروة التي لا تنضب في تجديد دماء الشعوب، فإن كبار دولة الأدب سوف يتنبهون إلى أن الثروة التجديدية الحقيقية في الخطاب الأدبي تكمن في الأقلام العربية والمصرية على وجه الخصوص.

رعاية لكل جديد

كم كُتب من دراسات حول التجديد في الأدب، ولم تتجاوز في قراءتها حد العين المجردة. وكم طُرح من رؤى ولم يعرها أحد اهتماماً. وكم كان من مناقشات – عامة وخاصة .. رسمية وتطوعية – حول مشكلات الأدب والأدباء وما ينتظرهم من مستقبل مجهول. بل كم من تجارب أثبتت نجاحها على المستوى التطبيقي، ولم يتم التنظير لها بشكل علمي يسمح بإلقاء الضوء عليها ليسجل السبق العربي لها.

حان الوقت لكي يلتقي البحران في برزخ واحد، ولكي ينشغل الكل بالكل ويعمل الجميع على تثقيف الثقافة الحالية، لتتأهل لمواجهة الجمهور الذي أصبح أكثر وعياً وإدراكاً لما خلف الضباب. وأيضاً آن الأوان للجمهور نفسه لأن يتحلل من تثاقله عن الجهاد في سبيل العلم، ويسعى هو للثقافة مثلما تسعى إليه..

تجربة حية:

شَهِدْتُ ميلاد جنس أدبي جديد أسماه الأديب محمد الشحات محمد " القصة الشاعرة "، وكان قد ابتكره في بداية عام 2007م. ومنذ أن ظهرت باكورات هذا الشكل الجديد، ولم يسمع أحد من الأدباء عنه إلا وصدر منه انطباع مناهض قبل أن يقرأ النصوص نفسها. عن نفسي، قرأت القصة الشاعرة وأدهشتني، ثم حاولت كتابة نصوص مشابهة على غرار ما أكتب من الشعر، ولكني فشلت. تَطَلَّبَ الأمر بعض الشجاعة لطلب المعرفة من مؤسِّس هذا الجنس ورائده، ثم حاولت الكتابة على المنهج الذي وضعه لها، وفي هذه المرة نجحت في صياغة نص جديد من نصوص القصة الشاعرة. بعد هذه المحاولة قررت دراسة القصة الشاعرة جيداً، ووجدت أنها تتأهل – مبدئياً – للمناقشة كجنس أدبي جديد بجانب الشعر والقصة.

وهذه دعوة لمناقشة هذا الفن الكتابي الجديد كنوع من تجديد الخطاب الأدبي، ليس فقط لإثراء الساحة الأدبية، وإنما لنثبت لأنفسنا وللعالم – من روح ثورة 25 يناير – أن المصري يظل قادراً على القيادة الحضارية مهما طال عليه الليل وتراكمت عليه الثلوج.

السبب والنتيجة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى