الاثنين ١٤ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم محمد متبولي

حرافيش نجيب محفوظ وفكرة العدل طريق الحضارة

عندما قرأت رواية الحرافيش لنجيب محفوظ انتابنى شعورين متناقضين، الاول هو ندمى على عدم قراءة تلك الرواية منذ زمن بعيد، والثانى هو سعادتى بان ذلك قد حدث مؤخرا بعد ان احرزت قدرا من المعرفة يسمح لى بان ادعى فهم جزءا من مراد (نجيب محفوظ) من تلك الرواية والذى أوحى لى بان أشرع فى كتابة مقالات (عن الحضارة)، فالرواية مثلها مثل كثير من اعمال محفوظ تدور احداثها داخل الحارة المصرية بشخوصها وسماتها المميزة، وهى رواية من نوع الاجيال تبدأ بمؤسس العائلة (عاشور الناجى) وتنتهى بحفيده (عاشور) الذى اعاد سيرة جده من جديد، لكن بعد حدوث تغيير جذرى فى الطريقة التى فهم هو ومن معه من حرافيش الحارة بها كيفية تحقيق العدل، وعلى الرغم من تناول العديد من الاعمال الفنية لتلك الرواية الا اننى أعتقد ان القليل منها ان لم يكن النادرهو الذى نجح فى توصيل جزء مما اراده (محفوظ) للمتابعين لتلك الاعمال.

فالرواية تبدأ بعثور الشيخ (عفرة زيدان) على طفل رضيع مجهول الهوية واصطحابه معه للمنزل، ويقرر هو وزوجته تربيته وتسميته (عاشور)، فينشأ الطفل على القيم التى أمده بها الشيخ التقى الورع وهى نفس القيم التى تعلمها الاخ الاصغر للشيخ (درويش) الذى مات ابواه وهو صغير ورباه الشيخ كابن له، وتمضى الايام ويموت الشيخ وتعود زوجته الى بلدتها الاصلية ويبقى (عاشور) مع (درويش) وحيدا بلا مورد رزق حيث كان يعمل فى خدمة الشيخ، وهنا يأتى الاختبار الاول ل(عاشور) بين ان يسلك طريق الشر مع (درويش) الذى لم تفلح معه تعاليم الشيخ خاصة وان (عاشور) كان لديه بنية جسدية قوية تساعده على ذلك، او يتكسب رزقه من عمله وهو ما أختاره لتنتصر القيم التى رباه عليها الشيخ الراحل فى النهاية، وتظهر هنا المفارقة الاولى وهى ان (درويش) طيب الاصل والمنبت اختار طريق الشر بينما رفضه (عاشور) الذى كانت ظروفه أدعى ليسلك ذلك الطريق، فى اشارة واضحة الى ان مصير الانسان من اختياره، وكأن (محفوظ) هنا يقول ان التاريخ لا يحكم على اختيارات الانسان ولكن ارادته هى التى تحدد مصيره، وتمضى الايام ويتزوج (عاشور) وينجب ويمتلك عربة كارو وحمارها يعمل عليها هو وابناءه، وعلى مدار تلك الاعوام كان يتجنب الدخول فى مواجهة مباشرة مع الطغاة متمثلين فى الفتوة وعصابته، ثم يظهر (درويش) فى الحارة من جديد فيبنى خمارة تساهم فى تغييب عقول أهلها، ثم يكتشف (عاشور) ان ابناءه يترددون على الخمارة ويتشاجرون حول فتاة تعمل بها، فيقرر ان يتزوج الفتاة ليعاقب ابناءه ويحميهم من الفتنة من جانب وينتشلها من العالم الفاسد الذى تحيا فيه من جانب آخر، وهنا تبدأ مرحلة جديدة فى وعى (عاشور) فبعد ان كان يحجم عن مواجهة الطغاة قرر ان يدخل فى مواجهة حاسمة مع ابناءه ليعيدهم لصوابهم، ومع (درويش) ليخلص الفتاة من براثنه، ثم يواجه الحارة وزوجته بما رأى انه صحيح رغم اعتراضهم على الزيجة، وكأن (محفوظ) يقول انه مهما طال الصمت فلابد من المواجهة يوما ما، وينجب (عاشور) من زوجته الجديده ابنه (شمس الدين)، ثم يظهر الوباء فيأتيه الشيخ (عفره زيدان) فى المنام يدعوه للخروج الى الخلاء فترفض زوجته الاولى وابناءه بينما تخرج معه زوجته الجديدة (فلة) وابنهما (شمس الدين)، وبعد انتهاء زمن الوباء يعود للحارة مرة اخرى وقد قضى على اهلها بمن فيهم اهل بيته ويجد بيوتها خاوية، ومن هنا تبدأ حياته الثانية والتى لقب فيها بالناجى لنجاته من الوباء.

ثم تغريه زوجته بسكنى احدى دور الاغنياء الراحلين والتنعم فى عزها، ويبدأ الناس بالتدفق على الحارة من جديد والتى يصبح (عاشور) سيدها، فيغدق على الفقراء ويساعدهم وييسر لهم فرص العمل، ثم ينكشف أمره ويحاكم على اغتصابه لدار ليست ملكه الا انه رغم قناعته بحسن نيته لم يهرب من المحاكمة وتقبل عقوبة السجن بصدر رحب، والغريب ان ذلك لم يقلل من حبه للعدل فبعد خروجه من السجن يستقبله أهل الحارة استقبالا حافلا ويتوج فتوة للحارة، فيقرر ان يرتزق من عمله لا من الاتاوات والزم اتباعة بان يمتهن كل واحد منهم حرفه حتى يضمن عدم اعتمادهم على ما يأخذونه من البسطاء، وكان يأخذ الاتاوة من الاغنياء ليعيد توزيعها على الفقراء، ثم أخذ يخضع فتوات الحارات الاخرى له بعد ان انتصر عليهم فى معارك متفرقة، فحقق العدل والامان داخل الحارة والمهابة خارجها، ويختفى بعد ذلك فى ظروف غامضة، ليتحول بقصة ظهوره واختفاءه المفاجئين الى رمز العدل والقوة التى ستسعى الحارة بعد ذلك على مر ازمانها المختلفة الى استعادته وكأن اختفاءه المفاجئ هو غياب من أجل عودة يوما ما.

ويمكن تلخيص قصة (عاشور الناجى) بأنه رجل قوى البنية تلقى قدرا من المعرفة والاخلاق، وقرر بمحض ارادته ان لا يسير فى طريق الشر، واستغلال ما أوتى من قوة ونفوذ ومال فى تحقيق العدل، وكان دائما مؤيدا بقوة خفية تحميه هى التى ارشدته للخروج من الحارة زمن الوباء، وهى التى حاسبته عندما طمع فى دار الوجيه وممتلكاته التى لم تكن له، وتقبل هو بدوره ذلك الحساب متمثلا فى عقوبة السجن، ولم ينقص ذلك من حبه للعدل فى شئ، ومع ذلك كله فالمنظومة العادلة التى ادارها (عاشور) لم تكن تعبيرا عن وعى جماعى لجماعة الحرافيش التى ظهر فيها بل كانت تعبيرا عن وعيه هو الخاص بأهمية العدل، فهو الذى تقبل ان تنتصر القيم التى علمه اياها الشيخ الطيب على شر (درويش) ايمانا منه برجاحة تلك القيم، وهو الذى تقبل فكرة ان يحاسب ويحاكم، وهو الذى تقبل الحكم ونفذه دون ان يحاول الهرب، ثم اختار بعد ذلك ان يكون فتوة عادلا.

ويظهر ذلك جليا فى انتقال الفتونة الى نجله (شمس الدين) الذى لم تكن تلك القيم لديه بنفس العمق والوعى الذى كان عند والده، فهو لم يمر بمثل ما مر به (الناجى) من اختبارات ومشاق فى سبيل الحفاظ على فكرة الفتوة العادل، وكذلك لم يكن لدى (عاشور) المقدرة على توعية الحرافيش بأهمية تلك الفكرة او وضع المنظومة التى تضمن استمراريتها، ومع ذلك يقرر (شمس الدين) الاستمرار على نهج ابيه الا ان فتونته وان كان يمكن وصفها بشكل عام انها عادلة فلم تخلو من بعض الحيود والهفوات، فهو أشبه بالتلميذ الذى يحفظ الدرس ولايفهمه، ومن الطبيعى ان لا يستطيع ان ينقل ذلك التلميذ الدرس لطالب آخر، فعندما انتقلت الفتونة من (شمس الدين) الى نجله (سليمان) كانت قد حادت تماما عن مسارها، فأختلطت فتونة(سليمان) بالمال وعاد بها الى زمنها الاول قبل جده، محابية للأغنياء على حساب الفقراء وباطشة بضعفاء الحرافيش، فيعود الظلم متسيدا للحارة من جديد، ويترقب الحرافيش لحظة عودة (الناجى) مرة أخرى.

ثم تمضى الفتونة بعد ذلك تارة بين عائلة الناجى وتارة بين فتوات آخرين من خارج العائلة وقد انحرفت تماما عن مسارها، لتختلط بالمال والانحرافات الفكرية والاخلاقية والجنسية وغيرها، ويكابد الحرافيش من جراء ذلك ويلات وويلات، ويتذكرون بعد كل عهد من عهود الظلم زمن (عاشور الناجى) ويعتقدون انه سيعود يوما ما ليخلصهم مما هم فيه، واحيانا يعتبرون انه هو والفتوات من عائلته سبب شقاءهم، حتى تظهر صحوة مفاجئة متمثلة فى (فتح الباب) الذى يتحدى أخيه الفتوة فى زمن الجوع، ويسرق من مخازنه الطعام ويعطيه للحرافيش الجوعى، موهما اياهم ان (عاشور الناجى) قد عاد، وما ان ينكشف أمره ويكتشف أخيه ما فعل حتى ينزل به العقاب الشديد، فينفر الحرافيش لنصرته ويقضوا على الفتوة وعصابته، ويتوجون (فتح الباب) فتوة عليهم، الا ان ذلك كان أشبه بالصحوة الماجئة التى سرعان ما خبوت، فوعى الحرافيش بأهمية حماية عدل الفتوة العادل ومحاسبة الظالم على ظلمه لم يكن بعد عميقا بشكل كاف، فالتهوا باحوالهم المعيشية عن مسألة الفتونة، وكذلك ف(فتح الباب) لم يكن يمتلك القوة التى تسمح له بالحفاظ على الفتونة فقد كان ضعيف البنية الجسدية عكس أسلافه، فاضطر للاعتماد على رجلين من عصابة الفتوة السابق يملكون القوة ليحققوا اهدافه، الا انهم سرعان ما انقلبوا عليه وعادت الامور كما كانت من قبل.

ويختتم (نجيب محفوظ) روايته ب(عاشور) حفيد (عاشور الناجى) الذى يشبه جده فى بنيته وقوته، وقد كابدت عائلته الامرين من الفتوة وعصابته، فى البداية كجزء من التنكيل باحفاد (الناجى) وأقاربه، ثم بعد ذلك لمحاسبتهم على ذنب أقترفه الاخ الاكبر قبل موته دون ان يكون ل(عاشور) وباقى عائلته ذنب فيه وهو ما ترتب عليه طردهم من الحارة، فيتكون لدى (عاشور) وعى بضرورة محاربة الظلم وتحقيق العدل، وقد حفز ذلك لديه سيرة جده الاكبر والظلم الواقع عليه، الا ان (عاشور) يستفيد من الاخطاء التى وقع فيها أسلافه ولا يكتفى بتحقيق وعيه الخاص بل يقرر نقل ذلك الوعى للجماعة فيقوم بدور أشبه بدور النبى، فيدعو الحرافيش للأنضمام اليه ومحاربة الفتوة وعصابته معه، مؤكدا لهم أنهم انفسهم هم ضمانة عدم استبداده عندما يتولى الفتونة، ويؤدى ذلك الوعى الذى قدمه لهم (عاشور) لتحفيز عملية تصحيح المفاهيم لديهم، فالله ليس ذلك الاله الذى سيقرون فى بيوتهم داعينه بزوال الظلم متواكلين عليه، لكنه الاله الذى سيؤيد سعيهم ويوفق مقاصده، وليس هم الضعفاء الخائفون، لكنهم هم الاقوياء بوحدتهم فى مواجهة الظلم، واخيرا ينجح الحرافيش بقيادة (عاشور) فى الاطاحة بالفتوة وعصابته، ثم ينشأ عن ذلك مؤسسة فتونة جديدة تعيد عدل زمن (عاشور الناجى) لكنها ليست قائمة على فرد بعينه يقرر ان يكون عادلا او ظالما، ولكنها قائمة على الفرد العادل متمثلا فى (عاشور) ومن سيخلفه، والقوة التى ستحمى العدل متمثله فى قوة الفتوة ومن معه، وجهة الرقابة عليهم ممثلة فى الحرافيش انفسهم، او بمعنى أدق لقد حققت جماعة الحرافيش مفهوم العدل الذى تحميه القوة وتضمنه الديمقراطية، ولو قررنا استكمال الرواية بعد نهايتها التى وضعها (نجيب محفوظ) لن يكون من العثير علينا تصور ان الحرافيش لكى يمارسوا تلك الرقابة سيمارسوا معها قدرا معقولا من الحرية فى ابداء اراءهم، وسينتج عن ذلك يقينهم بضرورة توسيع معارفهم حتى يتمكنوا من حل مشاكلهم وسيوجههم ذلك الى الاهتمام بتعليم ابناءهم والعلم بشكل عام، والارتقاء بمهنهم وتطويرها، واعادة تخطيط حارتهم والاعتناء بدورهم، وهو ما سينقل الحرافيش وحارتهم نقلة كبرى ستجعلهم قطعا مثلا يحتذى به فى الحارات الاخرى.

والحقيقة ان هناك سبب آخر ربما دعانى للتحدث عن حرافيش (نجيب محفوظ)، فهذه الرواية وغيرها مما كتب (محفوظ) يمكن ان تجسد قدرتنا على انتاج الحضارة والتفاعل معها والاسهام فيها، فقد قدم (محفوظ) من خلال مشروعه الادبى الممتد تطويعا لعناصر البيئة المحلية، ليظهر من خلالها قيما حضارية راقية مثل العدل والحرية وغيرها، فتحول بمقتضى ذلك من كاتب محلى الى أديب عالمى كتب أسمه واسم الثقافة التى ينتمى اليها بحروف من ذهب فى سجل التاريخ، الذى سجل فيه ايضا سيرة الحارة المصرية التى كان أكبر مؤرخيها.

وأخيرا فان السؤال الهام الان هو من هم حرافيش (نجيب محفوظ) اليوم؟، ثم ما هو حجم تأثير الظلم والممارسات الاستبدادية عليهم وعلى أفكارهم؟، وما هى طبيعة عملية تصحيح المفاهيم التى يحتاجونها ليتحولوا من مستهلكين للحضارة الى صانعين لها ولقيمها؟، وماهى المحفزات التى ستساعد على ذلك؟، واخيرا ما هى طبيعة مؤسسات الدولة والمجتمع التى ستقود ذلك التحول؟، ربما تبدأ الاجابة عن كل ما فات بتعريف بسيط لمن هو الانسان البسيط؟.

ملحوظة: كتب النصف الاول من ذلك المقال قبل ثورة 25 يناير بينما أستكمل بقيته بعد نجاح الثورة وهو ما أعطى الكاتب حرية أكبر فى التعبير واخراج ما بداخله، ويعتبر كاتب المقال ذلك جزءا بسيطا مما يدين به لتلك الثورة، كما ان ذلك المقال هو الرابط بين الجزء الاول من مقالات (عن الحضارة) والجزء الثانى الذى يشرع الكاتب حاليا فى اعداده.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى