السبت ١٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

تاجر في الخفاء

ركض محمود حتى انقطعت أنفاسه، لقد كانت الشرطة تلاحقه وكانت على وشك الإمساك به لولا لطف الله. تحسس محمود جيبه في فزع، ثم ارتسمت على محياه ابتسامة مرة.

 الحمد لله! لم تبرح البضاعة مكانها. لن أوزعها اليوم، لكن يجب أن أبيت في هذه المغارة الليلة.

كانت المغارة في مؤخرة "جبال الريف" تلك الجبال التي غدت وكرا لترويج المخدرات ومقرا لبيع السموم. لم يخلق محمود ليكون تاجرا ولا مروجا لهذه البضاعة الوضيعة، ولكن الأقدار شاءت أن يتحول هذا الفتى الطيب إلى مجرم تطارده العدالة. كم تمنى والده أن يراه أستاذا وكم كانت أمه تسعد لنجاحه وتفوقه، لكن الموت يخطف الوالد الحنون والحزن يذهب ببصر والدته وبصحتها. فيجد نفسه مضطرا إلى مغادرة الدراسة، يجد نفسه هنا بين هذه الجبال الرهيبة موزعا بين زرع الحشيش وبين نقله وترويجه. مع مرور الوقت، كسب ثقة زعيمه وأصبح دخله مرتفعا حتى أنه تمكن من إدخال والدته إلى المستشفى ومن شراء بيت قرب الشاطئ، كما أرسل أخته الصغيرة إلى مدرسة داخلية.

ولعل هذا ما أثار الشكوك حوله وما دفع الشرطة إلى مطاردته.

تأوه محمود حين اصطدم بصخرة لم يعرها انتباهه داخل المغارة. لكنه ما لبت أن تابع سيره غير مكترث لقدمه التي تنزف بغزارة، فجأة سمع صوتا لم يعتده وانطلق ضوء قوي كاد أن يذهب ببصره.

 توقف أيها الوغد! لا سبيل للمقاومة إنك محاصر!

بغث محمود من هول المفاجأة وسارع إلى التهام ما معه من مخدرات في هلع

وخوف. لكن ما لبت أن سمع ارتطاما مهولا على الأرض ارتعدت له جدران الكهف، لقد كان ذلك الصوت اصطداما هائلا تحركت على إثره القوات التي تحاصر المكان. في تأهب و ترقب تقدم الضابط عبد السميع في حذر ظاهر ليقلب الشخص الذي سقط محدثا كل تلك الضجة ثم تبت مصباحه الكهربائي على وجهه فصرخ من هول المفاجأة:

 من محمود؟

لقد كان المجرم المطارد صديق الضابط في الماضي القريب، لقد كانا زميلين متلازمين وعاشا معا أعذب فترات الدراسة وأروع مراحل الطفولة. لكن القدر جعل من أحدهما صاحب سلطة وجعل من الثاني صاحب جريمة، لكنه ما كان ليقترفها لولا قسوة الظروف.

فتح الجريح عينيه على مضض ليجد نفسه على إحدى أسرة المستشفى العمومي. و الضابط عبد السميع يحدق في وجهه تحديق الأخ الوجل، لا تحديق الرجل المسؤول. لم تكن دهشة محمود أقل من دهشة الضابط:

 من عبد السميع؟

 هو بعينه يا محمود.

 لا أكاد أصدق!

 ولا أنا، لم أتصور يوما أن أجد أمهر وأذكى زملائي بين أوكار اللصوص وتجار المخدرات.

 إنه الزمن، إنها الظروف يا حضرة الضابط، تغير وتبدل كما تشاء.

 أنا صديقك يا محمود و لست عدوا لك. فلم هاته الألقاب.

 لكن القدر جعلك غريمي اليوم، و على أية حال، ما أنت إلا رجل قانون.

 لن أسلمك للشرطة يا محمود؟

 ماذا تقول؟

 عدني فقط أن تقلع عن هذه الأعمال القذرة. أن تدلني عن بقية أفراد العصابة. ستكون بمثابة مرشد للشرطة ولن تعاقب. وأعدك أن أساعدك على إيجاد وظيفة شريفة .أم تفضل أن تبقى تاجرا في الخفاء؟

 آسف، لا أستطيع أن أخون زملائي ولا أن أدلك على مخدعهم!.

 إنهم ليسوا زملاء لك، إنهم يخربون عقول أبناء الوطن ويقتلون الشجاعة في نفوسهم. يجعلون منهم أباطرة للشر والإجرام، إن ساعدتهم فإنما تخذل وطنك تساعد على تدميره.

 وطني! أين كان وطني حين طردت أختي من المؤسسة؟ أين كان وطني حين فقدت والدتي بصرها؟ أين كان وطني حين كنت أتسكع في الشوارع لأبحث عن قوت عائلتي فلا أجني إلا القذف والسب والشتم، أين كان وطني حين قتل أبي؟ حين دهسه أحدهم بالسيارة فلا آزرنا فيه أحد ولا عوضونا عن وفاته، بل حتى راتب تقاعده حرمونا منه؟ رزئنا في موته ولولا رحمة المجرمين، بل لولا رحمة المخدرات لهلكنا منذ أمد بعيد. هم وحدهم رحبوا بي وساعدوني، هم وحدهم عوضوني في دقائق عن كل الذي رأيته وعن المر الذي تجرعته، لو كان لنا الوطن سندا لساندناه، لو حمانا من الفقر و الجوع لآزرناه، و لكنه تخلى عنا

ونعتنا بالمجرمين!

 أفهم من كلامك أنك لن تساعدنا في القبض على العصابة.

 لن أفعل هذا ما حييت، إنني قطعت على نفسي وعدا، لن أخذل من ساعدوني.

ولن أرشدكم عن أمكنتهم، وأنا مستعد لأي شيء.

 يبدو أنك مصر على موقفك؟

 كل الإصرار يا حضرة الضابط.

 لم تترك لي الخيار إذن.

 ماذا ستفعل؟

 ما يجب فعله.

قال عبد السميع ذلك وإمارات الغضب بادية على وجهه. ثم أمر من معه بإلقاء القبض على المجرم العنيد دون رحمة. ثم أمر بتعذيبه إلى أن يعترف أو يموت. ظل "محمود" يصارع الألم

والتعذيب أسبوعا كاملا إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

مات وهو يعتقد أن الواجب يحتم عليه الكتمان. أما عبد السميع ففضل قتل صديقه وهو الآخر يعتقد أن الواجب يحتم عليه أن يفعل ما فعله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى