الثلاثاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أحمد الحارون

بعض ُ قبرٍلنصفِ مهدٍ

السكونُ يهجمُ على العجوزِكهجومِ ليلٍ لا قمرله، أوجاء قبل موعده، راحت أناملُ (تيتة الحاجة) تعبثُ فى خصلاتِ شعرٍ لطفلٍ يغطُّ فى سباتٍ، انتبهتْ.. نظرتْ إلى أناملها ...إن فيها قسوة َحياةٍ، حفر العمرُأخاديدَ كالتى على وجهها، مرهونة هى فى جسدها، تحمل سنواتِ احتلالٍ على ظهرها، يلفُّ وسطها قيدٌ قماشٍ لن ينفكَّ الا إذا وقفتْ أنفاسها، فهو بمثابة إرادة من خارج نفسها، تستمد منه القوةَ وتَحملَ آلام الحياة حين ضعفها.

أه ٍ...وتنفست بعمقٍ... لامستْ يدها الأخرى حباتِ خرزٍمتدليةإلى الذى كانت تسميه خصرها، قالت: لماذا هى هكذا كبيرة؟ متورمة....منتفخة...تحمل ألواناً عدة؟ أجابتْ بهزة رأس ٍ....ربما هى متورمةٌ من صديد الحياة الساكن فى النفس ينهش فيها، وألوانها تعبرعن خيوط اللأمان، منسوجة بعذاباتِ قهروعتْ عليه، ينخر فى عظامها، وفى أنفها تجد قطعة ذهبية اللون، ربما تذكرها بذهبية تراب أرضها، أوهى نوعٌ من الانقياد للأعراف والتقاليد وحكم الرجل المتجبر، لا تفهم ماذا تعنى؟ لا يهم وراحتْ تنظر إلى الصغير، ملائكى الوجة والملامح، لم تعبثْ به بعد قسوةُ الأيام....ولا همجية القرود، ثم تساءلت: أى قدرٍ سيواجه هذا الصغير؟ وأسندتْ جانبَ السرير إلى رأسها.... وراحتْ تستجدى ذكرياتِ عمرٍ انفلتتْ حباته، فكلُّ ماض له فى قلوبنا أمكنةٌ ننزلُ فيها ونستريحُ، لكنها عبثاً حاولتْ، فكلُّ أمكنةِ قلبها تلسعُ وتحرقُ، أطفأتْ النورربما تنام، لكن الظلامَ استدعى كل الخواطرِ التى تشبهه، ها هى أواخرُالعمرِأحيا فيها كالمنفى، ألفاظها معناها يختلفُ عن قاموسِ من حولى، صار للطعامِ معنى الأكل وسوء الهضم ووجع المعدة، والمشى يقرنه العجوز بالتعب وألم العظام، حتى نسمة العليل كنا نشتهيها، صارتْ الأن قرينة التهاب المفاصل....وتهيج الصدر، كأن كل زيادةٍ لا تأتى الا بنقصٍ، تنفست العجوزُ بعمق ٍ يجذبها أرقُ حنين ذكريات مضت، لكن ينقضُ عليه مستقبل هذا الصغير وأمه التعسة ....التى تركتها ترعى صغيراً لتشاطرَفى عزاءِ شابٍ قريبها نهشته مخالبُ غدرٍفى ملحمةغزة فى أيامها الأولى.

أه ٍ....واحسرتاه على قلبِ أمٍّ تتركُ صغيرها، تتوكأُ على عمٍّ يستندُ الى منسأته علها تحمله، لتشاطر فى أحزانٍ بعيدةٍ عنها ..وسفر ...وذلِّ تصريحٍ....لك الله أيتها الحفيدةُ المسكينة، ويا لهول الطالع الذى غاب فى طىِّ صفحاتِ القدر...يأبى الظلمُ إلا أن يعلنَ أنه ليس له سقف ولا منطق، ولا جواب عنده لكل أدوات الاستفهام، تُسقِطُ طائرة ٌ عليها نجمةٌ سداسية، رمز للسفك كلَّ ما فى جعبتها من نيران على جدولِ العزاء، فترحم العديدَ ليلحقوا بشابٍ ترك وراءه حفنة من لحمٍ سيتجرعون ألم ولوعة فقد أعذب كلمة فى مفردات طفل ....ب ا ب ا

هكذا تُقتلُ كلماتٌ عنوة فى لسانِ طفلٍ دون سابق إنذار...وليت الأمرَ يقفُ عند هذا الحدِّ، فسياطُ الكلمةِ يجلدهم حين يسمعون الأخرين يلفظونها على سهولةٍ ويسر، وهزت الجدةُ رأسها...تماما ً تماماً كهذا الذى يرقد ُ بجانبى، حُرِمَ من أبيه وهوعلى قيد حياةٍ، تفرك أنامله ظهرإخوانه من زوجةٍ أخرى.

عجيبٌ انت أيها القدرُ...تحرمُ هذا من أبيه لتمنحه إلى أخيه، تمنعُ هذا وتمنحُ ذاك، صورةٌ لعدلٍ أعرجَ فقد قدمه فاختلَّ، الذى يُخرِجُ أحزاننا تدعه يذهبُ يوزع أكاليلَ أفراح الغير....نعم ...نعم ...كم من الأشياءِ نفرحُ بها؟ ثم...هى ذاتها تبكينا أو نبكى عليها، ثم تذكرتْ أم الصبى فقد كان القدرُ رحيماً بالصبى بأن أبقى له بعضَ أمٍّ خرجت مصابةً من سرادق العزاء، هل هذا لطفُ قدرٍ بصغير؟ أم عقابٌ لأمه ؟ راحتْ الجدةُ تتساءل: أعياها الجوابُ...لابأس المهم أن تأتى وترحمنى من أعباء صغيرٍلا أقوى عليه، ثم تنفستْ ...أه ٍ ...أه ٍ...عجبت ُ من تصاريفَ الأيام، هناك أناسٌ أنعم الله عليهم بأن جعلهم أباء، وأخرين عاقبهم الله بأن جعل لهم أبناء، تُرى من أى صنفٍ أنا؟ كُتبَ علىَّ أن احمل همَّ أجيالٍ ووطأةَ احتلالٍ وآلامَ شيخوخةٍ تنخرُ فى مفاصلَ عظمى، فتسمع لها صوت بابٍ اختلفت قوائمه وتقيحت أوداجه، ثم نسيتْ ما كانت فيه، وقالت فى نفسها: ماذا تُخفى أيها الاحتلالُ العفن لهذا الصبى من آلام؟ إليك عنى وعنه.....فهناك أطفالٌ يكادون ينعصرون ليناً وترفاً وميوعةً من رغد العيش، وغرورُ النعمةِ يأتى بسوءِ الخلقِ، ويورثُ سوءَ الأدب فى أولاد الأغنياء، وهناك أطفال تيبسوا قسوة ونحافة وقصراً من فاقةٍ، فصاروا كأوراق ٍذبلت معلنة استسلامها لخريفٍ لا يرحم، يخنق أنفاسها ويدق أعماقها، لكن...لا بأس فهذا الصبى يحيا فاقداً أباه الحى، وأمه ليست غنية، فأه ٍ منكِ يا دنيا ....ويا لطف السماء...أتحير فى أمرك....تُعطينا اللذة التى لا تموتُ حتى تلدَ ما يبقيها فى النفس حية.....أمل ....شوق ....حنين....لمعاودتها، وهذا الشوق لا يسكت حتى يعود لذةً قتفنى وتلد، مثل الألم تماماً...نتجرعه....لا نكاد نسيغه...نتمنى زواله...لكن هيهات يأبى أن يغادرنا، دون أن يتركَ فى ذاتنا جنيناً يكبرُ ويعودُ ألماً قى ثيابٍ جديدٍة، أه ثم أهٍ يا قدر...لك الله يا أم الصبى......أهٍ من جوع امرأةٍ لا زوج لها، تقسو عليها الحياةُ بعددِعيون البشر......وأه ٍ من جوع المرأة ِ التى لها صبى،

فإنه يضاعفُ ويضاعفُ الألم فتصير كجائع ٍ له ألفُ بطنٍ، لك الله يا أم الصبى، أنت أنت تحتاجين لمن يجبرُ كسرك، لكن وحشةَ الحياة ...وتخلى المروءةُ ....وضعت على ظهرك دنسَ وكسورَ وأخطاءَ من حولك.

عليكِ أن تصبرى وتحتسبى، لا ملجأ لكم من الله إلا اليه، ولا معين سواه.
أعلم يا أم الصبى الغائبة أن الحياةَ الأن لديكم خالية من كل معانيها، وتركتْ فى جنباتك معنىًّ واحدا....هو الموتُ، أعلم أن الأرضَ بما رحبت معناها لديكم القبر، وكلُّ من حولك أموات، لكن يتحركون....فاصبرى....تجلدى....احتسبى.

وراحت الجدة تردد ....احتسبى....احتسبى....حتى....ثقلتْ عيناها، لكن سرعانَ ما شعرت بدفء يطرق جسدها، تحسسته بنفسِ الأنامل التى كانت تداعبُ خصلاتِ شعر الصغير، أيقنت أنه ـــ بالَ ــ جففتْ له ببعضِ دمعاتٍ حارةٍ سكبتها على جبينه، التمستْ أنفاسَه فى الظلام...زفيره ...يئنُّ....يبكى...يردد...وقع حروف ماما على سمعها....فدعت قائلة: يا رب يهديهم جنود الاحتلال ويعطوا أمك التصريح...كى أستريح....
لكن سرعان ما أدركت أن الله لن يهديهم،
ولا أنا أظنُّ أنها

ســـــــ ......تستريح....؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى