الأربعاء ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

تضحية أم

بدموعها المحزونة، كانت تبلل ريق وليدها الجاف، فيرتشف من حنانها وهو يجهل منبعه المر. بكل

رعشة من رعشات جسمها الضعيف، كانت تهب لتلبي ندائه العذب الذي ينسيها سهدها

وتعبها. من أجل ابنها ضحت، كظمت وصبرت. من أجله كانت تتحمل الذل والإهانة

والتجريح...

بقلبها الهرم المكسور كانت ترفرف فوق مهده بأجنحة خفاقة تفر من الموت والضياع

وتتعلق بتلابيب الأمل:

 قد يتغير أحمد مع مرور الزمن، وقد تتبدل طباعه.

لكن الزمن يزيده تعنتا وفظاعة. لم تجرؤ على إظهار شقائها أمامه، كانت تمطره بابتساماتها العذبة، بعد أن تقضي ليلها في بكاء وأنين وألم حقيقي ينخر أحشاءها العميقة. كانت تتحمل استبداد والده، تتحمل فظاظته

وقسوته، وحشيته، ومساوئه... من أجله، من أجل حسن ومن أجل الجنين الذي يتحرك في أحشائها معلنا عن تضحية جديدة وشقاء جديد... تحملت ملا طاقة لأحد على تحمله. كانت القنديل الذي يحترق ليضيء طريق أولادها. أولادها الذين أرغموها على العيش تحت سلطة مستبدة لا ترحم. بعد أن فقدت أبويها وذاقت مرارة اليتم ولوعته. لقد حرمها الله حنان الأم

وعطف الأب ورزقها بزوج أناني، أفسد طهارة قلبها، عكر حياتها وأذاقها الحنظل بكل أشكاله وألوانه. سلبها جمالها، أهدر شبابها وأصبح يعاملها معاملة السيد للعبد المأمور الذي لاحول له و لا قوة. ضاع الشباب، وضاع الصبا، راح العمر في دقائق وشاخت فاطمة الأم الحنون، وهي لم تتجاوز الثامنة

والعشرين بعد. إنه القدر، إنه حكم هذه الدنيا الجائرة التي ترزق هذا لتأخذ من ذلك، وتكتم أنفاس هذا لتروح عن هذا، فتحكم بالموت على إنسان حي. فلا يعلم إن كانت الراحة في موته أم في بقائه.

هكذا كانت تخاطب فاطمة نفسها كلما ضمت منى إلى صدرها:

 آه! يا رب أكان علي أن أنجب أنثى؟ لماذا يارب! لتلقى مصيرا كمصيري ؟ أستغفر الله، أستغفر الله ...، آه كم أتمنى أن أخنقها وأريحها من شقاء الغد؟!

ضاقت الأرض والسماء في وجه فاطمة فلم تعد تطيق رؤية وليدتها وهي تكبر. تصورت أن الجحيم الذي تعيش وسط ناره المضرمة سيفتح ذراعيه ليبتلع ابنتها في الغد القريب، أن حياتها ستكون احتضارا مستديما دون موت. ذات ليلة مظلمة داكنة، حملت فاطمة ابنتها بين أحضانها ودموعها تنهمر كالسيل الجارف إلى مكان لا يعرفه أحد. حيث كتمت أنفاسها إلى الأبد وهي أشد ما يكون سعادة وغبطة، حتى أنها كانت تصرخ في هستيريا جنونية:

 لقد ارتاحت منى أخيرا؟ لقد أنقدت ابنتي؟ لقد انقدت ابنتي؟ يا ناس، لقد أنقدت ابنتي!!

لكنها أفاقت على صفير سيارة الشرطة الحاد، حيث وقعت في قبضة العدالة التي اعتبرت فعلتها جريمة شنعاء لا تغتفر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى