الثلاثاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

الحقيقة

كان الصمت يلفح أعماقي، كان الحزن يسكن أرجاء فؤادي الميت، وكانت دموعي تسبقني دون سبب ظاهر. وقف وهو يرنو إليها كالحمل الوديع. ثم اجتاح الغرفة كالرياح الهوجاء. تسلل حديث قاتم بيننا نحن الثلاثة، علا الوجوه شحوب أسود، وتناثرت الكلمات هناك

وهناك. اكفهرت الألسن ونطقت أعيننا بشظايا من الحقيقة القاتلة. لم يعد هنالك مجال للعبة الغميضة. رفعت الأقلام وجفت الصحف. انسابت عبراتها هي الأخرى بين مصدقة ومكذبة. إنه اجترار للعنة الماضي، خطأ غابر، لكن الجميع يدفع ثمنه اليوم. ساد الصمت من جديد، وصعدت أرواحنا متمسحة بمحراب السماء، اتقدت نظراتنا بنيران من الدهشة. شل الألم قلوبنا وثقل عاهلنا بالمآسي والهموم. صعقنا جبروت القدر، وطعننا غدر الزمن، فخر كل واحد منا صريعا، صاغرا، يطلب الرحمة ويستجدي النجدة ولا من مغيث! ليت حبل الوهم يطول وليت الخيال ينتشلنا مما نحن فيه اليوم. ليت السراب يخدعنا من جديد ! ليته يفعل! لهرولنا وراءه واقتفينا أثره! غير مبالين بوعورة الفلوات ولا بكواسر الخلاء. ليته يفعل! ولكنه أبدا لن يفعل ساد الصمت ثانية، كان يبدو عليه التبرم والألم الفظيع. لقد خلت أنه كان يكبر مائة عام في كل لحظة، شحوبه، تنفسه البطيء، صوته المكتوم، و جهه الجامد. كل ذلك صبغ عليه لون الموت.كل ذلك كان يوحي بدنو نزعه الأخير. ما أقسى هذه الدنيا الجائرة! وما أبشعها! لم تكن هي الأخرى أحسن منه حالا. إن الناظر إليها يخالها جثة هامدة. كانت إمارات الفزع الرهيب بادية على محياه الممتقع.

ما أفظع العيش حين تسقط الأقنعة! إن ابتسامتها المرعبة تشي بمس من الجنون! إن الجنون يطاردنا في كل مكان، يقتحم الأوكار ويسطو على المخادع. تراوغه العقول لكنه لا يلبث أن يصيبها. كلنا مجانين نستتر وراء الضباب، لكن الضباب لا يلبث أن ينقشع. تلاشى الصمت وسط خضم من الآهات الدامية. كنا نشعر أن أفئدتنا أضحت إبرا حادة تخزنا كلما انبعثت منها آهة العذاب. الجحيم المضرم يحاصرنا، يطوقنا دون رحمة.
ونحن لاحول لنا و لاقوة. لا قدرة لنا على الصراخ، الثورة العميقة تزعزع صدورنا المقهورة والخوف المهول يكبل أيدينا بأغلال من فولاذ. جهنم تبتلعنا رويدا رويدا، ثم تعيدنا إلى نقطة الصفر لتبتلعنا من جديد. كتب علينا أن نتكيف مع أقصى قوى التحمل.
ولكن الجبال تنهار والبراكين نفسها تنفجر! والبحار رغم ضخامتها تنثر أعاصيرها هنا
وهناك! ونحن رغم ضآلتنا، رغم وضعنا المقرف، ننبث أقدامنا ونغرسها غرسا حتى لا نسقط أو ننهار. حتى يظل ظهرنا مصلوبا، و حتى نعتاد كي السياط. كنت أنظر إليهما في حيرة تخطف العقول وتفتت الألباب. كنت أئن تحت الأنقاض، وكانت الحقيقة ترمقنا بأعين ساخرة وهي تكشرعن أنيابها المسمومة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى