الأربعاء ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أنوار الأنوار

هذه أغنيتي

ما كان ينبغي لي أن أدع لإيلان شأن اختيار المكان. صمتي غلبني حد الخرس إذ أراها تتجول أمامي.. تنشر رائحتها الفلسطينية في أرجاء المكان، تسرع متلهفة لطفل يبكي. تحتضنه.. ترفعه مكاغية ,, تقرص أنفه بلطف مداعبة: “يمّا خليني أخلص شغلي”.. ثم تنساب في هديل تهليلتها لينام:

” بهلّل لك بهلّل لك… سبع جمال بحمّل لك

من الفستق من البندق… كله عشان طلع سنّك”

في أرجوحةٍ قماشيةٍ علّقتها عند طرف المطبخ تفرش جسده لينام قبل أن تجري لطعامٍ كاد يحترق، لم تنجح روائح الشموع المنثورة في المكان في إخماد رائحة مجدرة فلسطينية عبقت في أنفي.
ويحك يا إيلان ! أي كلام سيسعفني وأي خطاب تنتظر مني وسط صورٍ لا تنفكّ تحاصرني مذ وصلت المكان؟؟

وأنا التي انتظرت بلهيب شوقي هذا اليوم الذي نتباهى به بنجاح مبادرة مشروعنا للتعايش العربي اليهودي.. وياما تصورتني أوزع ابتساماتي كعطايا كريم، إذ أعتز بأن الحلم قد تحقق وأن الأرض تتسع لكلينا ما دمنا مؤمنين بذلك.

خمس سنوات قضيتها أدور من مدرسة إلى أخرى.. أجالس المربين الذين جاءوا اليوم جميعا وتحلّقوا حولي لنتوّج مسيرة قضيناها وتكبّدنا فيها خلق لغة مشتركة تجمعنا جميعا..
كنت أخطط وإيلان الفعاليات التي تجمع أطفالا عربا ويهودا من تلك القرى الصغيرة لنقول لهم بطريقتنا إن لذّاتٍ ومتعًا قد تجمعنا أيضا وليس الألم وحده ما يطوّقنا.

وها أن جميع الحضور يحتفون وبينهم تدور صور جمعتنا في فعاليات مشتركة: مسرحية راقصة لأطفال عرب ويهود.. سباحة مشتركة في بركة.. وجوهٌ مشرقةٌ لأطفالٍ يتلذذون بعروض المهرّجين.

وصوت ضحكات الجميع ينكح موسيقى صدحت في المكان:” شالوم شالوم يعني سلام.. ما فيه أحلى من هالكلام”.

كنتُ قد اتّخذت زينتي كلها لتليق بتتويجي مديرةً للنادي العربي اليهودي للسلام.. وهو المنصب الذي ما حلمت به عربيةٌ في هذي البلاد.

ارتديت راتباً شهرياً كاملا وزّعته على بذلةٍ أنيقةٍ من محلات كاسترو باهظة الثمن، تلك التي لم أكن أجرؤ على دخولها لولا أهمية المناسبة، وإكسسواراتٍ أضفت عليّ مسحةً من الأنوثة جعلت إيلان يغازلني في استقباله لي عند مدخل المدينة التي أدخلها للمرة الأولى:

 ”تبدين عروس روش بينا الليلة.. لا داعي لإضاءة الأنوار فنورك قد غمر المدينة”.

اصطحبني إلى قاعة الاحتفال حيث تجمّع المربّون والمربيات.. في لوحةٍ رومنسيةٍ تعانقت فيها مربيةٌ عربية ويهودية، تستذكران متعا لنشاطات مشتركة، ومربية خفيفة الظل تقلّد لثغة طفلٍ لم يميز بعد العربية من العبرية فيقول “شلام”.

استقبلنا الجميع بفرحٍ واعتزاز لم يحُل بيني وبين الانتباه للبناء. لفتتني جدران البيت السميكة، وتشابيك النافذة التي تذكّرني ببيت جدتي رحمها الله… وبناءٌ كتلك البيوت العربية العتيقة في عكا ويافا..

مددت يدي إلى ذراع إيلان هامسة: كأننا في بيتٍ عربي قديم يا عزيزي!!
ردّ وفي عينيه بريقٌ يكاد يضيء الدنيا: هذا المطعم كان بيتاً عربيا رمّمه يوسي جلعاد..وأسماه الجاعونة نسبة إلى البلد التي كانت هنا.. الجاعونة؟؟ كيف لم أنتبه لهذا؟؟

 ”هنا كانت الجاعونة قبل النكبة؟! ” تساءلتُ بذهول.

 ” قبل قيام الدولة” صححني إيلان.

يا لإنسانيتك يا يوسي.. لم تكتفِ بأنك لم تغير في البناء بل حفظت اسم القرية أيضا.. الجاعونة يا إيلان.؟؟!!. وتقولها معتزا كأنما تقدم لي هديةً متوهجة بالمحبة.. الجاعونة.!!!!.
صورة امرأةٍ فلسطينيةٍ سكنتني إذ أراها تتحرّك أمامي في أرجاء المكان.. هنا بلا شك علّقت “شلّة الثوم”.. وهناك “قلائد البامية اليابسة”.. ها مخزن المونة ما زال شاهدا على كلّ شيء!

ويحي.. أيّ تعايشٍ هذا الذي أحتفي به على أنقاضي؟؟

رائحة جرحٍ فلسطيني باتت تخنقني.. تكاد تثور في نفسي أصواتٌ لأطفال لم يسعفهم خيالهم ليفهموا سلوك أبيهم إذ يفزعهم وسط هذا الهزيع المحترق من العتمة. وأمّ تجري تلملم ما أتاحت لها الثواني مما قد يمكنها استراقه قبل دخول الجنود إلى المكان واحتلاله..

تبا لك يا إيلان.. أما وجدت مكانا آخر للاحتفال؟؟ أما أمكنك تتويجي في مكانٍ لا يصرخ إني عربي؟؟؟

ماذا سأخطب وأصوات أطفال تستصرخ في أعماقي أن هذا البيت لهم؟

وإيلان راح يلقي كلمته ملتحفا ابتسامة أوسع من ملامحه وزّعت بريقها على كل الحضور معدّدا من سماتي ما تشرئبّ له عنقي.. متباهيا بامرأة مثلي لم تنجح في تحقيق ذاتها فحسب إنما أدت دورا عظيما في إبراق أمل لمجتمعها إذ بذلت مجهودا جبارا لتثبت أن السلام ممكن ما دمنا لا ندّخر جهدا في سبيله..

أذهلني تصفيق الجميع ينتظرون كلمتي في هذي المناسبة، لكن الصمت كان رفيق لساني.. إذ انبعثت في أعماقي كلّ تلك الحسرات.. واندلعت في روحي تداعياتٌ تكفي لاحتراقها..

أردت أن أصرخ فيهم إن الأرض أرضي يا أولاد ال…. الأرض أرضي وبؤسا لي ولكم. بؤسا لكل ما نخادع به أنفسنا، وبؤسا لتعايشٍ أحتفي به على صرخات دمي.. لكن الكلمات انحبست في عمقي.. حتى ضاق الجميع بصمتي فسارع إيلان إلى احتضاني معللا أن تأثري بالمناسبة قد ألجم كلماتي.. صفق الجميع مبتهجين إذ قلّدني إيلان وسام السلام.. دنا مني هامسا بعتب متحبّب: لو أنك غنيتِ معنا نشيد السلام على الأقل..

وربي كنت أنوي ذلك.. أردت بشدة.. لكنه صوت مارسيل لم يبرحني:”في البال أغنية يا أخت عن بلدي.. نامي لأكتبها…


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى