الاثنين ٢٨ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

الناس أجناس

لولا اختلافُ الأذواقِ لبارتِ السلعُ

لملم الشتاء شعثه، وأدار ظهره للربع الأول من العام، وبدأ الكهول (وهي الكلمة الملطفة بدل كبار السن) يخففون من الجلابيب الصوفية، ويفتحون نوافذ البيوت لاستقبال فصل الربيع، وبدأ بعضهم يستحسن الخروج إلى المتنزهات العامة ينشدون الأشعة البكر للشمس الحبيبة والهواء النقي الفاتر، يستمتعون بالتأمل واستشعار خضرة الأرض وزرقة السماء ورطوبة الجو في ضحى رائع ولا أروع.

كنت أنا من بين هؤلاء الكهول، وهل أنا إلا بشر ممن خلق الله! لي النظر المحتاج للجلاء والسمع المرهف المشتاق لزقزقة العصافير والشعور المتلهف للحرية والخيال والمتعة الطبيعية وحق الاحتفاء بقدوم البهاء والسعادة.

أجل، توجهت للحديقة العامة وحيداً لأن سيدتي رفيقة الحياة تأنف أن تذهب لمتنزه عام يتكاثر فيه أمثالي ممن استمهلهم ملك الموت ويتفقدهم بين حين وآخر على مماشي الحديقة أو على مقاعدها غير الوثيرة، وفي حده الحد بين الجد واللعبِ.

مررت على بائع الجرائد، اشتريت جريدتين إحداهما محلية والأخرى خليجية رخيصة الثمن كثيرة الورق، وتعمدت أن لا يكون في كليهما كلمات متقاطعة تقطع بي الوقت الذي شئته للتريض والاستهواء، قرأت على عجل الجريدة المحلية بنظرات عجلى، رؤوس أقلام لا تسمن ولا تغني، ووضعت الثانية على المقعد وجلست عليها كي أتقي ما يمكن قد علق بخشب المقعد من غبار مهما بدا نظيفاً. لأن سيدتي ستشمت بي وتلومني إذا وجدت أثراً للتلوث على ثيابي، هل فهم الآن لماذا اخترت الجريدة الجسيمة! ومن جهة أخرى يمكنني أن آخذها معي للبيت فأقرأها لاحقاً: وليعذرني سادتي القراء على هذه الصراحة!

أنا الآن حر، منفلت من أي التزام، وليس للوقت عندي مقادير،لا أحد بجانبي ينغص عليّ راحتي، ولا أحد يقاطعني بما يسمى حق الاختلاف في وجهات النظر، وسيدتي تقاطعني دوماً دون أن تتقيد بأصول الاجتماع والحوار، كم حاولت أن أعلمها أنه للمداخلة يجب أن تبسط كفها الأيمن تعترضه برأس الكف المفتوحة اليسرى وترفعهما أماماً حتى يؤذن لها بالكلام، ومعني ذلك ــ كما علمونا في الاجتماع ــ أن ثمة مخالفة للنظام تستوجب المقاطعة، ولكنها لا تعبأ في تلك الأصول.

بعد افتكار اخترت عفوياً الجلوس على مقعد شاغر في وسط الحديقة حول البحيرة المسطحة التي ينفر منها الماء عالياً ما أمكنه ذلك، وقد يتسرب أحياناً إلى ما حولها رذاذ لطيف مقبول، جلست وحيداً، وبدون سابق تدبير، أخذت أتفرس في حركات ووجوه المارين أمامي، وشعرت كأنني عالم اجتماعي.

· رجل عجوز تقوس ظهره، يتوكأ على عصاه وبجانبه زوجه تسانده ويساندها يمشيان الهوينا الهوينا يتحادثان كأنما يتهامسان دون أن يلتفت أحدهما للآخر، ربما عن الأولاد الذين هجروهما وقصروا في الإنفاق عليهما وهما في أرذل العمر.

الحق على الزوجات لأنهن القاطعات المانعات كما سمعت من العجوز حين مرور الموكب البطيء من أمامي.

· صبية جميلة بدينة قليلاً ترتدي سترة رياضية كاملة زرقاء مقلمة فضفاضة، ومنتعلة خفافة بيضاء، عقدت شعرها للأعلى بإحكام، تنظر بثبات للأمام، ( واثق الخطوة يمشي ملكا ) تجِـدُّ في سيرها السريع لا تلوي على شيء، تدور حول المحيط الداخلي للحديقة عدة دورات، تلك الحسناء بلا شك تؤدي رياضة بدنية بقصد أن ينحل جسمها قليلاً ويصبح قالبها (ستايلها) مقبولاً كما هي سمة هذه الأيام، آه لو أمكنني أن أنصحها بمراجعة الطبيب المختص بالتوازن الغذائي كي يحدد لها نوع وكمية الطعام (الريجيم) الذي يساعدها إلى جانب رياضة الهرولة في تحقيق القوام الأنيق المنشود.

· هناك حيث يبلغ بي النظر أرى بالكاد زوجين من الأحباب جلسا على مقعد منزو يتظلل بأغصان شجرو سرو حانية، يتسامران يتجاذبان تباريح الهوى، هو يحدق في أغوار عينيها ليستكشف ما في نفسها وهي تطلق سهام فكرها نحو قلبه تستشرف مدى صدقه وإخلاصه. ويطول الحديث وتدرك الفتاة أن الوقت تأخر، تستأذنه وتسرع نحو بيتها على أن المحاضرة في الجامعة قد انتهت الآن.

· شُبَيْب (تصغير شاب) يتمشى يبدو عليه القلق، يحمل كتاباً مفتوحاً ينظر إلى ما حوله تارة ثم ينظر في الكتاب كأنما أدركه الوقت قبيل الامتحان وهو يود لو يغبُّ ما أمكن من مؤونة الكتاب العتيد مهما تسنى له، في أي فرصة ممكنة ، لعل ما يستدركه الآن يكون جواباً للسؤال الذي ينتظره، ليتني أتجرأ أن أنصحه أن قراءة كهذه غير مجدية لأن المشي والتطلع يشتتان الفكر وبذلك لا يحسن صنعاً، خير له أن ينتحي جانباً ويجتهد وهو جالس ذلك أجدى له، ولكنني آثرت تجنب المداخلة ربما يكون من بعض الجيل غير القانع بحكمة وخبرة الكبار.

· هناك فتى شارد في تفكيره يضع الجهاز المحمول قبالة أذنه، فهو إما يستمع لأغنية يستسيغها أو يصغي لمناجاة من أحد ما، وكان في كل الوقت صامتاً متأملاً، وفي نفس الوقت يدخن بشكل متلاحق.

· صبية يبدو عليها القلق تسير مضطربة حول البركة وتنظر في ساعة الجهاز المحمول (لأن ناشئة اليوم استغنوا عن الساعات السويسرية ذات الماركات التي كنا نتفاخر بها أيام زمان) لقد أصبحت الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق، جذبت هذه المخلوقة انتباهي وددت لو أسأل عما بها، لكنها ما كانت تبالي أو تنظر لأحد سوى ساعة جوالها، وهي تحسبل وتحوقل في نظرات حيرى نحو السماء، أخيراً قررتْ حسم الموقف فاتصلتْ بمن اتصلتْ ورأيتها وهي منفعلة وتشير بعصبية بيدها أثناء الكلام، لم أسمع الحديث، لكنه كان كما يبدو عتاباً أو لوماً شديداً، ونظرتْ إلى الدرج الرئيسي للحديقة، وتقدمتْ نحوه، تابعتُ النظر وإذ شاهدتها تلتقي الشاب المنتظر، هاهو الموعد والموعود، وتعلو محياها البشاشة، ويذهبان معاً إلى مكان قصي في الحديقة ويتوقفان على سور مجرى النهر، لعل خرير مياهه يهدئ من لوعة الحب الجامح، وحيث يمكن لهما أن يتناجيا بعيداً عن أعين الرقباء.

· لكي أكون أميناً على الصورة، أشير إلى نماذج بشرية تتواجد في الحديقة: مصور متجول يحمل آلته (الكاميرا) ويعرض عليك أخذ صورة تذكارية لك، ويصادف عساكر من الريف يمرون بالحديقة ويعرض عليهم خدماته وهؤلاء يساومونه ثم يتركونه. ماسح الأحذية الذي يتفرس في أقدام رواد الحديقة ويقترب من أي منهم يسأله أن يمسح له الحذاء، ما أكثر ماسحي الأحذية في الحديقة العامة! أنصحهم أن يتفقوا غلى اقتسام الحديقة جغرافياً، بائع البوشار وبائع غزل البنات وبائع الكعك وبائع ألعاب الأطفال اتخذوا من المدخل الرئيسي مقرات لهم، وتحلق حولهم الأولاد. ولدان يتفقدان النفايات على الأرض وفي سلات القمامة الموزعة في الحديقة وينبشان المهملات للبحث عن مواد بلاستيكية لوضعها في كيس كبير لصالح المعلم!

· ما أزعجني في ممرات الحديقة بعض راكبي الدراجات الهوائية ــ وهم قلائل ــ الذين لا يبالون باالمارة وكذلك منتعلو الزلاقات (الباتيناج) الذين قد يسببون الأذى، يا ليتهم يمنعون من هنا.

· نظرت خلفي فوجدت المصطبة الحجرية المستديرة ذات السقف المحمول على الأعمدة من كل الأطراف، تذكرت أيام زمان يوم كانت تحضر فرقة موسيقية من الشرطة أسبوعياً فتعزف الأناشيد الوطنية وبعض الطرب الأصيل، ويتحلق المتفرجون وجلهم من الأولاد حول هذا الحفل، ربما هذا الجيل لا يذكر ذلك، تساءلت لم لا تعود هذه الفرقة ويعود للحديقة بعض تراثها وربما الإسهام في السياحة.

· هناك على الطرف الآخر من البركة أرى سيدة ورفيقتها جلستا على مقعد مقابل، يتحادثان باهتمام حول موضوع ذي شأن بالنسبة لهما، وهما تأكلان المكسرات وتلقيان بالقشور على الأرض، وكان مع إحداها طفل في الخامسة من العمر يلعب على المرج الندي ويقترب من البحيرة حيث البطات يسبحن فيها، يحاول الطفل أن يقترب من البطة القريبة ليطعمها من البتيفور بيده، وتزل قدمه ويسقط في الماء، ويسرع أحد المارة لانتشاله بينما كانت الأم في شغل شاغل مع رفيقتها في الشأن الهام بينهما، حين انتبهت الأم لما جرى اضطربتْ إذ الطفل بدأ يبكي ويرتجف من البرد وبدلاً من لوم نفسها على إهمالها ضربت الطفل وأنبته وقامت على الفور ورفيقتها مغادرتين على عجل. يا لهذا اليوم النحس! وقد تركا على المقعد كيس المكسرات وكان بالطبع فارغاً وزجاجتي الكازوز أيضاً.

· هناك على مقعد متسول (متصنع) لا يكف عن الدعاء،يناشد المارة ثمن الدواء لمريضه وقد مد وصفة طبية إثباتاً لحاله، وبجانبه المقعد المتحرك، لست أدري من أوصله إلى هنا؟

· معظم الذين يجلسون على المقاعد المحيطة بالبحيرة هم من المتقاعدين المتواعدين الذين ينتظرون بعضهم بعضاً، يتجاذبون أطراف المستجد في السياسة ويجتر كل منهم ماضيه التليد يوم كان على سروج خيله، وأن ذلك الزمان أفضل حيث لم يكن ثمة فساد كما الآن. بعض هؤلاء من خف نظره فصار يستعمل نظارتين سميكتين إحداهما للقراءة والثانية للبعيد، ومنهم من قل سمعه لذلك يلحظ ارتفاع أصواتهم ليسمعوا بعضهم، بعضهم يلعن الشيطان أحياناً لأنه بدأ ينسيه ذكرياته وأسماء معارفه، يكثر في أحاديثهم عبارة "الله يرحمه" لأن معظم القصص لديهم تتصل بمن سبقوهم للدار القادمة. يتفقون على أن الدنيا من قبل أحسن حالاً، البكالوريا على زمانهم تعادل الجامعة الآن، تساءل أحدهم كيف وقد هطل الخير هذا العام ترتفع قيمه اللحم؟ تساءل آخر سعر الزيت هذا العام أعلى من العام المنصرم يجيبه رفيقه: لأنهم يصدرونه! وهم مجمعون على أن المعيشة غالية ولا يوجد بركة في المصاري.

· استعملت منديلاً ورقياً وأردت أن ألفظه بعد استعماله، وجدت كومة من القمامة في زاوية فألقيته هنا، بعد هنيهة وجدت صبياً يمر من أمامي باحثاً عن ضالة، رأيته يتوجه نحو صندوق قمامة ويضع فيه ما شاء! إنه درس لي، كم خجلت بيني وبين نفسي، وأنا المثقف يسبقني صبي إلى واجب اجتماعي!

· وحيث أنا جالس أتطلع إلى ماحولي ولاسيما الأشجار التي تتباين أوراقاً أوالواناً أوأشكالاً أو أثماراً حتى لكأنما لكل منها هوية خاصة بها، لفت نظري أثر كتابة محفورة كالنقش على جذع شجرة تأملت في هذا الأثر القريب من ناظري، فإذا هو أثردائرة فيها على شكل قلب مرسوم وفي دخله حرفان ح و م ، وهذا بلغة العشاق معناه أن ثمة حبيبين يبدأ اسم كل منهما بأحد الحرفين المذكورين أرادا أن يخلدا اللقاء بينهما بهذا الأثر، تعبير جميل ذكرني بأغنية لفيروز: "بكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق....." ألله كم تحت قبتك السماوية من أسرار! وأجلها علاقة حب تتكلل بلقاء حسب ما تشاء.

· ورجل عابر صفصف شعرات صلعته بإحكام، وقد تأنق بحيث كان كل من طقمه وقميصه وربطة عنقه بلون مختلف كما هو الزي المعاصر، وقد تعطر يرائحة وخاذة، وفي يده سبحة أثيرة، أما حذاؤه اللماع فهو من الشكل الحديث المدبب، يؤثر هذا أن يجلس على المقعد بجانبي، قلت في نفسي: لا بأس، لعلني أتسلى معه بحديث عام، وبدون استئذان وبدون تعارف، مد يده نحو الجريدة المحلية التي ركنتها بجانبي ويأخذها دون استئذان، وبدأ يتصفحها ويقرأها، حاولت أن أفهم اتجاهه الثقافي من خلال ما يقرأ، لكن لم يمكن ذلك لأن هذا الكائن الحي الطارئ كان يقرأ باهتمام كل صغيرة وكبيرة في الجريدة مقرِّباً عينيه نحو الصفحة على الرغم من أنه كان يضع نظارات سميكة على منخريه، انزعجت من تصرفه السمج، ولم أحتمل غلظته وقلة ذوقه، بعد نصف ساعة من الانتظار كنت فيها أتسلى بهاتفي الجوال، قمت مغادراً دون أن أقطع على هذا السياسي العتيق سلسلة أفكاره، وحين ابتعدت ناداني يا أخ تفضل خذ جريدتك، قلت له: لا لا دعها لك، وتابعت منصرفاً.

على موقف الباص وجدت السيدتين لا تزالان تنتظران الباص الذي تأخر قليلاً.

مجتمع فيه اختلاف أذواق كما اللوحة الفنية يجمّلها التنوع، ولله في خلقه شؤون.

صدق المثل القائل:

الناس أجناس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى