الأربعاء ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم زياد يوسف صيدم

صخب الموانئ (1-12)

ح (1)
كانت تبدو على ملامح وجهه علامات الرضي والارتياح، عندما استيقظ ذاك الصباح متأخرا.. تمطى في فراشه، أجال بنظره في كل اتجاهات الغرفة، خرج من فمه صوت ممتد كنغمة شاذة عزفها فضولي على أكورديون من الزمن الجميل.. أو كأنها لغة لا تندرج تحت أي من لغات البشر!.. قهقه بعدها مباشرة، مد ساقيه باتجاه أرضية الغرفة، أحس ببروده تسرى في مختلف أنحاء جسده، تذكر بأنه في أواخر فصل الشتاء.. تقدم كعادته اليومية ليزيح جانبا ستارة نافذته المطلة على شارع فرعى، واتساع أفقي يستطيع أن يرى من خلاله هناك في الجانب الأيسر منه زرقة البحر على امتداد بصره، يأخذ شهيقا ينفثه ببطيء من فمه، فيشعر براحة وتنفرج أساريره.. أدار مقبض النافذة بيده اليسرى، بينما كان يتكئ بيمناه على حافة النافذة ، لفح وجهه ريح باردة، فأصابته قشعريرة ، تراجع إلى الخلف مبتعدا عن مجرى الرياح، لكنه لابد وان يُبقى النافذة مفتوحة لبعض من الوقت لتجديد الهواء.. كانت قدماه تتجه إلى مكان يتوسط الحائط الغربي لحجرته حيث تقبع هناك مرآة مستطيلة.. كان حيزا اعتاد أن يمر عليه في كل صباح،
 ما بك إبراهيم على غير عادتك الصباحية اليومية ؟ تبدو منشرحا ومنشكحا ..
 ابتسم بسعادة وتهكم عندما أعاد على مسمعه الكلمة الأخيرة على وجه الخصوص، لقد حاول أن يخفيها عن صديقه اليومي الذرى يطل عليه من داخلها، متفحصا ومراقبا خطوط الزمن وألوانه، التي بدأت ترتسم على وجهه وان كانت بطيئة وفى بداياتها، إلا أنها تترك آثارها وملامحها عليه، تلك اللوحة الزجاجية فضية الشكل، ناعمة الملمس شديدة الوضوح تأخذ شكل نصف دائرة في أعلاها، بإطارها الخشبي الأجمل والتي زينها بوروده المفضلة على جانبيها، فتنثر عبق أريجها صباحا وتسر نظره وتنعش فؤاده.. تمنحه هدوء وطمأنينة وأمل في يوم أجمل من سابقه...

تقدم باتجاه باب غرفته، توقف متجها بنظره إلى ركن آخر يقع على يمينه مباشرة، كان مكتبه الصغير حيث ركز فكره ونظره صوب جهاز حاسوبه .. أطلق لفكره العنان مستذكرا ليلة أمس مع صديقته التي باحت بحبها له، وهى تعلم بأنه صاحب القلب المشغول حتى لحظة بوحها .. فأربكته وأوقعته في حيرة الإجابة، فكانت مفاجأة كالصاعقة عليه.. اقترب منه ولمسه بحنان، وتفقد بأنه في وضعه الآمن، كان كمن يتحسس ولده الصغير ويخشى عليه، تنهد تنهيده خرجت من بين شفاهه، وامتزجت بإحساس غريب ومميز !...
فهل كانت بداية قصة حب جديدة تعصف بقلبه وكيانه تنقله إلى عالم قديم، يحن إليه ولطالما حن إليه ؟.. وهل سيتشقلب كيانه كما أول مرة ؟ أم أنها ستكون قصة عابرة وأحاسيس لطالما تبادلها مع عشرات من النساء الأخريات سرعان ما انتهت بهدوء وصمت.. فلم تترك إلا ذكرى تذوب رويدا، رويدا بمرور الأيام.. تساؤلات انهمرت على عقله كالمطر، بينما كان يتجه لأخذ حمامه الصباحي المعتاد، وقد ارتسمت عليه ابتسامة جميلة، استدل عليها من خلال إحساسه بارتياح ورضي بل وسعادة غامره ...
 هل من لوازم ومتطلبات اليوم لإحضارها في عودتي؟ كان سؤاله شبه اليومي لابنته الكبرى التي تدير أمور البيت بعد غياب والدتها !...
 نعم لقد أعددت لك هذه القائمة يا أبى حتى لا تنسى شيئا كعادتك، أجابته.. ادخلها في جيب بنطاله، والتفت إليها ملقيا بدعائه وأمنياته لها بالتوفيق والسعادة وطول العمر، ولا تفوته أبدا ابتسامة خفيفة يتركها قبل أن يغادر بوابة المنزل، ويمضى في طريقه بينما فكره لا يزال يعيد شريط ذكريات ليلة أمس، بكل تفاصيلها وصخبها !!.
يتبع..

********

ح (2)
خرج إبراهيم ملوحا بيده إلى ابنته، التي راقبت خروجه وكأنها تذكره بقائمة اللوازم التي كتبتها له، لإحضارها عند عودته من عمله.. وصل الميناء في موعده المنتظم ..
 صباح الخير باش مهندس، كان صوت المراسل على بوابة مكتبه .. دقائق وكانت قهوة الصباح يُحضرها له مع سندوتشات الفطور اليومي .. دقائق ودخلت روان سكرتيرة مكتبه، تحمل إليه ملفات جلها مقترحات لمشروعات تطوير حوض الصيانة للسفن، وتوسيع لسان الميناء المتقادم، قدمتها عدة شركات مختصة .. ما لبث أن أوعز لها بعمل اجتماع طارئ لطاقم الإدارة، وقد وقع أمر ضرورة الحضور للأهمية .. غادرت روان مكتبه لتنفيذ المهمة قبل انصراف المهندسين والفنيين والإداريين إلى أعمالهم، لاسيما وكثير من المهندسين يخرجون في عمليات خارجية وكشف عيني خارج مكاتبهم...

دقت الساعة الرابعة عصرا وما يزال الاجتماع منعقدا.. كانت تسمع من مكتب روان المتاخمة لصالة الاجتماعات التابعة لمكتب المدير العام للمشاريع ، أصوات تعلو بنقاشات مخالفة لبعض المشاريع المقدمة للنقاش، كانت تحاول بالحجة والبرهان إقناع المدير بعدم جدواها على حالها الذي قُدمت عليه ؟ تطالب بإجراء تعديلات على كثير من المواصفات الفنية، لتسهيل التنفيذ وتحجيم التكلفة الباهظة... وهناك أصوات كانت تمدح وتشيد ببعضها، على أهميتها وفوائدها المرجوة فيما بعد، وعن نسبة المربح والفروق في مستويات الكسب فيما لو أعطيت الأولوية للتنفيذ.. كان إبراهيم وسط هذه الأصوات يسجل ملاحظاته باهتمام ودقة متناهية، ويشارك بخبراته الواسعة بالجدل الدائر بين طاقمه، الذي اخذ الوقت الكافي لاستخلاص نتائج النقاش .. صمت فجأة ليقول: تفضلوا لاستراحة قهوة على أن يلتئم الاجتماع بعد ربع ساعة من الآن.. خرج الجميع وبقى إبراهيم حيث دخلت روان بفنجان قهوته السادة المعتادة، وبدأ بنباهته وفطنته وذكائه المشهود، يدون سطورا قليلة ويمهرها باللون الأحمر، ثم يطوى ملفه ويتراجع قليلا إلى الخلف، محاولا فرد ظهره على كرسييه المريح، يُشعل سيجارته، ويرشف ثانية من قهوته.. ينظر إلى الساعة ويشير إلى روان بأن تعيد ترتيب المكان، قبل التئام فريق العمل ثانية لإصدار القرارات النهائية، واعتماد الموافقة عليها ...

عاد الطاقم للاجتماع بالوقت المحدد، وقد بدأ الجلسة إبراهيم بصفته مديرا عاما لإدارة المشاريع، وقرأ عليهم قراراته مستندا إلى ملاحظاته التي دونها خلال النقاشات التي دارت رحاها ، حيث أيد البدء في مشروع تطوير الحوض المعد لصيانة السفن، وأعطى أوامره لتنفيذ ذلك وأوصى الجميع بان يكونوا كالمعتاد كفريق عامل موحد ومتكامل، لضمان نجاح المشروع الضخم .. كما أوعز إلى نائبه، بان يقدم له خطة العمل، ودارسة بعض الأمور الهامة لتكون جاهزة في غضون ثلاثة أيام، ليوقعها إيذانا ببدء احد اكبر المشاريع التجارية التي ستنفذها سلطة الموانئ ...

عاد إبراهيم إلى البيت مرهقا .. أخذ حمامه المعتاد، يخرج بعدها إلى طاولة السفرة، حيث كانت أسرته تجتمع من حولها.. والكل في انتظار رب الأسرة، جاء بابتسامته المعهودة والسؤال عن صغيرته، وهل تناولت طعامها أم لا، سؤال تقليدي يقوم بسؤاله متجها برأسه إلى الخادمة والى ابنته الكبرى، فتطمئنه أم سعد بأنها نامت فور تناولها الطعام، فيحمد الله ويبدأ الجميع بتناول الغذاء.. يسترخى بعدها قليلا فيغفو ساعة من الزمن .. ثم يخرج في المساء لتناول القهوة مع بعض الأصدقاء على شاطئ البحر، الذي أصبح جزء من حياته العملية وما بعدها!..

يعود بعد العشاء.. ليدخل الشبكة ألعنكبوتيه حيث عالمه الآخر.. أناس آخرون مختلفين عن حياته العملية، تعرف إليهم عبر الفضاء الرحب الممتد بلا نهايات من خلال تلك الشاشة الصغيرة ...

اقتربت الساعة من العاشرة ليلا .. حيث اخذ ميعاده معها أمس، حيث تواعدا على استمرار حديثهما اليوم.. لحظات مرت عليه كأنها ساعات، ليدخل الاثنان في حديثهما الثاني، حيث اعترفت في لقائهما الأول بحبها له، فأصابه الذهول والارتباك آنذاك .. فبدأت قولها: أتعلم إبراهيم بأنك كاتب ناجح؟.. وأتابع كل ما تكتبه، حتى كأني أعرفك من شهور طويلة، منذ بدأت في قراءة ما تخطه أفكارك من قصص حالمة، تغور في سبر القلوب، وتداعب الخيال، وتمتطى صهوة البهجة في الأعماق الخاوية، التواقة إلى قوارب الحب وشطآن السلامة والأمان.. حيث أصبت قلبي بسهام الإعجاب بداية.. إلى إحساس فريد من نوعه جعلني أبوح به إليك أمس، فهل كنت متسرعة يا إبراهيم؟ سألته ..
 أحقا يعجبك ما اكتبه يا... ابتسم إبراهيم هنا لأنه حتى الآن يجهل اسمها ..

لاحظت جملته بعناية فقالت:
 اسمي حنان .. عندها أحس براحة وهدوء يخيم على نفسه.. وبخفقان بين ضلوعه، يعلن ثورة قادمة في قلبه وكيانه وحياته كلها.. شعر بسعادة تغمر وجدانه، إلا انه كتمها في أعماقه ..لا يريد لها الانطلاق خوفا وحيطة، وصمام أمان.! فيتبادلان همس الحب بحروف وكلمات يفوح منها عبق العطور، وتنبعث من ثناياها ألحان من شدو البلابل، في ربيع بدأت ملامحه في القلوب تلوح قريبة .!!
يتبع..

********

ح (3)
كان إبراهيم يتوق إليها منذ أن بدأ قلبه في الخفقان، خاصة عندما ذكرت له اسمها لأول مرة.. وكأن القدر عاد ليفتح ذراعيه له من جديد.. سرى اسم حنان رعشات هزت جسده - حنان اسم جميل أعاده مرة أخرى عليها ليتأكد أكثر وليطمأن قلبه، - نعم إبراهيم اسمي حنان أجابته باستغراب ودهشة !- ألا يعجبك اسمي تساءلت!.. فصمت مطرقا الخيال لفكره : أتكون هي الحنان الذي انتظره من شهور طويلة ؟ حدث نفسه .. أيعقل بان يكون القدر كريما رءوفا و إلى جانبي هذه المرة ؟..انتبه على إرسالها إشارة تنبيه .. - لا أبدا، على العكس تماما، انه أجمل وارق اسم عرفته يا حناني الحاضر والمستقبل.. أجابها ونبضاته تتسارع بوتيرة اشد، وقد ارتسمت عليه ابتسامة رضي وأمل، بتغيير كلى قادم في حياته، بدأت بشائره واضحة في داخل نفسه ...

انقطع التيار الكهربائي فجأة.. نجم عنه قطع في الشبكة العنكبوتية ، مما أربكه واحتار ماذا يفعل؟ وكيف السبيل ليعاود التواصل؟ وماذا ستفكر الآن؟ وهل ستعطيه مبررا ؟ وكيف ستعي وتدرك بوقوع خلل فادح، ولم يكن هروبا مفاجئا منه ..أصبح يدور في الغرفة يمينا و شمالا، فهو لا يعرف رقم تلفونها الخاص كي يعلمها بالأمر على الأقل، مما زاد من ارتباكه .. تساؤلات وقعت على رأسه كصخب يلاحقه.. يشابه وصول إحدى سفن الشحن العملاقة حين تبدأ في تفريغ حمولتها، ويصبح المكان ضجيجا وعراكا وصراخا .. تسرب بهدوء وخفه على ضوء كشاف صغيرة يضعه بالجوار دوما، تأهبا لهذه الحالات المتكررة، يسير بخفة وحذر باتجاه فانوس يعمل بالغاز فيشعله، و يضعه في مكان معين في الصالة.. ثم يفتح أبواب غرف نوم أبنائه ليدخل إليها بصيص من أشعة تنسل على حياء .. وكذلك لم ينس شق باب غرفة الشغالة أم سعد...

يعود إلى غرفته يحاول النوم.. يتململ، يسرح فكره هنا وهناك، يستذكر حاله وما كان عليه وما آلت له أحواله الأسرية .. يكاد ينفطر كبده حزنا على زوجته وأبنائه، إنهم سر قلقه الدائم وحيرته وتشتت أفكاره، فقد عجز حتى الآن في إيجاد حل يخلصه من همومه المتفاقمة ..يذهب فكره باتجاه زوجته وحبيبته المغيبة عن البيت قسرا ؟.. والذي فقد دفء وجودها وركنا أساسيا منه ..يتذكرها حين كانت تسارع إلى إشعال فانوس الغاز في مثل هذه الحالة القائمة وهم نيام، لا يشعرون بخطواتها، فقد كانت حريصة على راحته، لاسيما وانه يستيقظ مبكرا إلى عمله، ولابد وان يكون مرتاحا ونشيطا، بحكم منصبه المرموق ومسئولياته في سلطة الموانئ ..

كانت تتحرك بهدوء تام و خطوات حانية حتى لا تزعج أحدا.. قبل أن تقع ضحية مرض خطير والذي علم تفاصيله المحزنة من الطبيب المختص، والمتابع لحالتها منذ شهور طويلة .. إنها تعانى من انفصام خطير في الشخصية.. يؤدى إلى العيش بشخصيتين معا.. الأولى تتلبسها في النهار، والثانية تأتيها في الليل.. وأحيانا تمتزج الحالتان معا، وهنا كانت تسوء حالتها للغاية من تمازج الشخصيتين مع بعضهما البعض، مما يوقعها في حالة من الجنون والهلوسة.. يشرح له الطبيب المعالج في المصحة الخاصة لاحقا تفاصيل حالتها.. فهي تعيش حياة كاتبة وأديبة عظيمة، تعمل على كتابة روايتها من واقع معاش!.. فتتقمص كل الشخصيات التي تتخيلها.. وبالتالي هذا كان يفسر علاقاتها المشوهة وعدم منطقيتها ..

فلا تعي كونها زوجة وأم وحبيبة بالنسبة له، إلا في أوقات الليل حيث تعود شخصيتها الهلامية الخيالية الثانية، لتحاول صياغة شخصياتها المحورية في روايتها الموعودة داخل أسرتها!.. فتكون في صراع من اختلاق الأحداث، والتي تمثل لها فصولا في عقلها المتهالك، وكأنها تضع بنفسها سيناريو لفيلم يتخذ من روايتها المنشودة مشاهده المثيرة .. فيدب في البيت حالة من متاعب ومشاكل وخلافات،يمتزج فيها الحزن والألم والمعاناة معا.. وتذكر تلك المرة التي لحق بها في آخر لحظة، بعد خروجها بغير هدف من البيت بعد منتصف الليل!..

يستذكر أخر أيام ساءت فيها حالتها.. فكان القرار الصعب والذي لابد منه، بأن وضعها في مصحة علاجية خاصة، ينفق عليها جل مرتبه، وكان يخفى هذا عن الأولاد بحجة سفرها إلى دورة تعليمية طويلة، كبعثة دراسية حيث أرسلوها تقديرا لها.. وأنها ستعود قريبا لتحتضنهم من جديد.. كان يعتقد بان شفائها قريب وأنها مسألة وقت لن يطول .. أو هكذا تهيأ له، إلا أن الوقت مر ثقيلا متباطئا.. لا خبر يفرحه، لا ابتسامة تغمر وجوه أبنائه المساكين حتى الآن .. مضت أكثر من سنة على ذلك دون إحراز أي تقدم في العلاج، أو المتابعة الحثيثة لها في أرقى المراكز المتخصصة ...كان شريطا من ذكريات مرت على فكره، وهو مستلقي على سريره، وضوء خافت يتسلل إليه من باب غرفته المفتوح، قادما من الصالة حيث يقبع فانوس الغاز..
في هذه اللحظات من نهاية شريط مر بذاكرته.. أحس بألم يعتصر قلبه..وبدموع وحسرات تنتابه وتتملكه، فكانت له خلاصا وراحة بال وسكينة لاحقا.. فغاب هروبا في نوم عميق...

وصل سائقه في السابعة والنصف صباحا كالعادة، كان إبراهيم مستعدا للخروج ليستقبل يوما جديدا على أمل في غد أجمل.. ولم يعلم بان واقعة كبيرة في انتظاره هذا اليوم ؟..سيرتجف لها قلبه المشغول ما بين زوجة مريضه تنعدم فرص شفائها، و بيته حيث أبنائه الصغار من ناحية.. وبين حياته العملية في الميناء، والتي يحرص عليها بذكائه وفطنته، وبين قلبه وخفقانه بحب جارف، لاشك قادم مع حنان من الناحية الأخرى، حيث بدأت تغزو قلبه، فيستقبله بنثر زهور الياسمين احتفاء، فهي تعيد له إحساسه المفقود كرجل.. ما يزال يصرخ بأعلى صوته: أريد الحياة..!!
يتبع..

********

ح (4)
تناول إبراهيم فطوره الصباحي، وارتشف قليلا من فنجان قهوته التي أعدتها له أم سعد، عندما وصل سائقه على السابعة والنصف ليقله إلى عمله، في الطريق يفتح حقيبته، يسترجع بعض الأوراق في ملف هام يتابعه شخصيا، والذي سيكون قفزة نوعية للمؤسسة فهو من اكبر المشاريع التي ستنفذها دائرة المشروعات بصفته المسؤول الأول عنها مباشرة، دخل المبنى بخطواته السريعة متجها إلى مكتبه. – صباح الخير باش مهندس، إنها روان تلقى عليه تحيتها الصباحية المعتادة، بابتسامة مهذبه رقيقة، كانت تحمل بيدها ملف أوراق ومستندات جاهزة للتوقيع، تركته على مكتبه قبل أن تطلب له قهوته المفضلة، يشعل سيجارته ويبدأ في تفحص الملف المعد، بدأ يعطى توجهاته الشفوية لها، وهى تدون ما يقوله كما ويكتب ملاحظاته الهامة بقلم أحمر على صفحات بعض الأوراق أمامه. - متى تحدد موعد الاجتماع مع طاقم الإدارة لهذا اليوم ؟ - عند العاشرة والنصف باش مهندس، أجابته، ما أن انتهى وأغلق الملف حتى تناولته وهمت بالانصراف. - لحظة من فضلك روان، استفسر عن سر تغير مذاق القهوة هذا الصباح ؟ – لك ذوقا مميزا باش مهندس بالقهوة حقا، و أردفت قائلة: انه صهيب ابن المراسل الذي حضر اليوم بدلا عن والده حيث يعانى وعكة صحية مفاجئة، هز برأسه وأشار لها بالانصراف...

تنفس عميقا بشهيق ملأ صدره، ثم نفث هواءه بهدوء وبطء أشعره براحة، بينما كان يطل من شباك مكتبه المشرف على البحر مباشرة، وهو يشعل سيجارته الثانية، ثم طلب رقم الطبيب المختص في المصحة التخصصية التي تقبع فيها زوجته - صباح الخير دكتور نصري ،- أهلا باش مهندس إبراهيم، سبقتني فعلا، فقد كنت سأتصل بك بعد قليل لتذكيرك بموعدنا اليوم أجابه .. – كيف لا أتذكر يا دكتور ؟، سأكون في مكتبك حال انتهائي من الاجتماع ، سأصلك قرابة الواحدة، - بانتظارك إذا ، _ إلى اللقاء ...
بينما كان اجتماعه منعقدا مع طاقمه الفني، لمناقشه مشروع تطوير حوض السفن، وإذ بضجيج وضوضاء تُسمع أصواتها من داخل غرفة الاجتماعات ؟ تشتد الأصوات وتقترب! تدخل روان بخطى حثيثة صوب إبراهيم هامسة: مسكين ابن المراسل قد ضربته رافعة تحميل، وتضرج بالدماء وفقد وعيه كليا، وقد اتصلوا بالإسعاف ...

يهرع إبراهيم على وجه السرعة مع مساعده، ليتفقد ويطمئن على أحوال الصبي، حينها كانت سيارة الإسعاف لتوها تصل المكان، تحمله على وجه السرعة إلى المستشفى... سمع بعض العمال يتهامسون بأنه فارق الحياة، وآخر سمعه يقول: كان يرمش بعينيه، ولازال يتنفس عندما نقلوه إلى داخل سيارة الإسعاف، وهنا أشار إبراهيم إلى مساعده بان يخبر سائقه بالتحرك، ليقلهما إلى المستشفى للحاق بالصبي والاطمئنان عليه فورا، إنها مسؤوليته الأولى، كما هو واجبه الأخلاقي تجاه الصبي ووالده، الذي يعمل على خدمتهم منذ أكثر من عشر سنوات، حتى أحبه الجميع لإخلاصه وأمانته ...

وصلا قسم الطوارئ، قابلا الطبيب الذي عاين حالة الصبي، كان إبراهيم متجهم الوجه، شاحب الملامح، اعتقادا بما سمعه من حديث العمال، فطمأنه الطبيب: بان حالته الأولية جيده وقد أغمى عليه نتيجة ارتطامه بالأرض، وهو يستعيد وعيه الآن، وقد ذكر اسمه صهيب وهذا مبشر على عدم حصول ارتجاج في المخ أو فقدان للذاكرة، كما أفاد: هناك بعض كسور في ساقه وذراعه سيتعافى منها في اقرب وقت، تنفس إبراهيم الصعداء وحمد الله كثيرا، طالب معاونه بالبقاء لمتابعة الإجراءات كلها وعمل وتقديم ما يلزم، استأذن الطبيب، وخرج مع سائقه وهو يتمتم بكلمات شكر ودعوات لصهيب بالشفاء العاجل...

نظر إلى ساعته التي كانت تقترب من الثانية عشرة والنصف، فأشار إلى سائقه بالتوجه إلى المصحة الخاصة، حيث موعده مع دكتور نصري الذي قرر اليوم بان يلتقيا ثلاثتهم مع زوجته، بعد فترة علاجية مركزة، حيث منع الزوج من لقائها لفترة أسبوعين متتاليين، حيث كان يتطلب علاجها ذلك ! فور وصوله مكتب الطبيب، كان بانتظاره و توجها على الفور إلى غرفة رقم: 22 حيث تقيم زوجته ..

شق طريقه في الممر الطويل الموصل إلى الغرفة، وقد أحس بان قدميه تخوران، وقد بدأ جسده في الارتعاش، فتوقف لحظات مستندا إلى الجدار، لم ينتبه الطبيب إليه، واستمر في خطواته، بينما تحامل إبراهيم على نفسه، واستعاد توازنه وبدأ في اللحاق به حيث توقف على باب الغرفة.. استدار جهته ليجده ما يزال يمشى متثاقلا نوعا ما، فابتسم له محاولا تلطيف الأمر عليه، كأنه شعر بصعوبة الموقف !! فبادله إبراهيم ابتسامة قصيرة، لم تدم طويلا على وجهه، دق باب الغرفة، حتى سمع صوتها يأذن بالدخول...

********

ح (5)
قرع الطبيب المعالج باب غرفتها رقم 22.. كان ينظر إلى إبراهيم وفى عينيه رجاء بان يتفهم الوضع، ويتماسك أعصابه..قبل أن يسمعا صوتها يأذن لهما بالدخول.. تقدم إبراهيم الطبيب بخطواته حتى أصبح بمواجهة زوجته.. كان يبتسم لها، مهيئا ذراعيه ليضمها ويحتضنها بكل الحنان والحب والرحمة.. فقد شعر بهما أكثر من أي وقت مضى.. كانت شفتاه ترتجفان قبل أن ينادى باسمها:
 نجوى.. نجوى.. اشتقنا إليك كثيرا حبيبتي، الأولاد يشتاقون إليك، يسألونني عنك ..نريدك معنا في البيت.. نجوى نحن نحبك كثيرا، نفتقد إلى دفء البيت بغيابك عنا ..
 إبراهيم أهلا !، نطقتها وهى تحتفظ بمسافة بينهما.. ثم أدارت وجهها إلى جهة طاولتها الصغيرة.. والتي تناثرت عليها أوراق مهلهلة .. التقطت بعضها بيدها المرتعشة، لوحت بها في وجهه ، استمرت في حديثها: ينقصني أن اكتب نهاية روايتي ؟.. لكنى أريدها بان تكون محل إعجاب الجمهور!، وتنال تصفيقا مدويا في قاعات السينما.. - تصور يا إبراهيم بان المنتج يلاحقني ويريد مساومتي على ثمن الرواية !!
 نعم.. نعم نجوى سيكون هذا بلا شك، التفت إلى دكتور نصري وقد فاضت عيناه بدموع لم يستطع حبسها.. انهمرت وهو يستذكر أطفاله المنتظرين خبرا مفرحا..

يستذكر نجوى كيف كانت، وكيف أصبح حالها... لم يحتمل برودة أعصابها، وعدم لامبالاتها بلقائه بعد غياب ثلاثة أسابيع بناء على إرشادات الطبيب المتابع لحالتها.. لم تسال عن أطفالها وكأنها ليست بأم !، خاطب نفسه مجيبا أيعقل هذا ؟.. يغرق في بحر دموعه وما يزال واقفا أمامها.. يلوذ بالصمت .. يبدأ صدره بالخفقان.. لا بل انه نحيب لم يستطع أن يحجبه..كان شيئا يضغط على صدره بثقل الجبال.. أراد أن يتخلص منه لكن كيف السبيل؟.. فوجد طريقه الأقرب إلى أن ينفجر بالبكاء من جديد..
 أتبكى يا إبراهيم كيف هذا! ولماذا ؟ سألته بصوتها الغريب، والذي حمل كل عذابات حاضره ومستقبله المجهول..
 لا حبيبتي أنا لا أبكى، إنما هي فرحتي بلقائك، إنها دموع الفرح غاليتي.. أحس حينها بنيران تجتاحه، وقهرا يضغط على صدره يحاول خنقه.. في هذه اللحظات كان لابد للطبيب أن يتدخل : باش مهندس هل أترككما وحدكما؟ فقد أكون في غير مكاني واعتذر لكما عن تطفلي .. كان يخاطبه متجها برأسه نحو نجوى.. لكن المفاجأة التي لم يتوقعها كانت تكمن في إجابتها: لا، لا داعي من بقائك هنا إبراهيم ! فقد خطرت لي فكرة كنت ابحث عنها طوال الأيام الماضية لانهاء روايتي.. أريد أن أسجلها يا دكتور بعد إذنكما .. انتهت المقابلة !.

اتكأ إبراهيم على كتف الطبيب يحاول سحب قدميه .. يجرهما جرا .. يسير ببطيء إلى حيث مكتب الطبيب.. رمى بنفسه على أول كرسي عثرت عليه عينيه.. انه في وضع لا يحسد عليه.. لقد أيقن بان زوجته في وضع اشد صعوبة من ذي قبل، ميئوس من شفائها قريبا.. – هون عليك باش مهندس سنتابع الحالة إلى آخر مداها .. لن نقصر أبدا، وسنعمل و نضع كل إمكانيات المؤسسة وخبراتها في خدمتها أجابه وهو يفتح ملفها.. بدأ يقرأ على مسامعه خطوات متابعة حالتها في الأسابيع الأخيرة ..ثم أردف قائلا: لم استغرب تصرفها أبدا معك !، فهذه البرودة العاطفية أمر عادى لمثل حالات الانفصام الحاد في الشخصية .. وهذه الهلوسة والعالم الغير واقعي التي تعيشه زوجتك في صميم أعراض المرض .. لكنها لم تنتقل بعد إلى حالة ميئوس منها حتى الآن ..
 حالة ميئوس منها يا دكتور كيف؟ هل شرحت لي بأكثر وضوحا أرجوك قالها إبراهيم بعد أن خرج من صمته وذهوله ..
 هي حالات متأخرة نعم قد يلجأ فيها المريض إلى إيذاء نفسه بشكل خطير!!
 انتفض واقفا وأشعل سيجارته بنهم غير مسبوق ثم تمالك نفسه: كيف يا دكتور ؟ هل فسرت لي أرجوك، أوضح .. كانت كلماته غير مسموعة ، تكاد أن تتوه بين ضعفها وتلعثمها وبين فقدانه للأمل والرجاء بشفاء زوجته..
 بصراحة تامة نخشى من محاولات انتحار لها .. ولهذا رأيت بأم عينيك بعض الاحتياطات التي اتخذناها في الغرفة ...

ذُُهل إبراهيم وغط في صمت ووجوم افقده القدرة على الحركة أو الكلام.. لم يعد يرى سوى هيكلا يتحدث أمامه، فاقد لملامحه، فقد اغرورق بدموع كثيفة، أفقدته حاسة الرؤيا لديه.. نهض متجها صوب الطبيب، مد يديه المرتعشة كمن يريد الاستنجاد .. أراد الخروج من المكان بأقسى سرعة.. ليستجمع قواه، ويعيد اتزانه وحساباته بمنطق أكثر وعيا وإدراكا للوضع القائم.. وقف الطبيب وقد اقبل عليه مودعا إلى باب مكتبه واصطحبه خرجا إلى حيث الفناء الرحب.. والحديقة التابعة للمؤسسة .. وهنا توقف الطبيب مصافحا إبراهيم .. شد على يده واعدا عمل كل ما باستطاعته والطاقم المتخصص لأجل شفائها.. كما همس له بان يكون على اتصال دائم به ...

كان سائق إبراهيم قد أشعل موتور السيارة عندما رآه خارجا.. فقد كان يجلس على كرسي نُحت من الصخر، ومنقوش بالخزف والأشكال الجميلة.. كان موضوعا مع مجموعة مقاعد مشابه بشكل نصف دائري، أسفل شجرة وارفة الظلال .. صعد السيارة إلى جانب سائقه، مشيرا له بالتوجه إلى البيت فورا، حيث أحس بشوق كاسح كي يحتضن أطفاله .. لكنه عرج إلى محل للألعاب، فاشترى لهما لعبتين جميلتين حسب ذوقيهما الذي يعرفه .. أوصله البيت ثم عاد السائق أدراجه.. فتح إبراهيم بوابة البيت حيث استقبلته أم سعد، وقبل أن يسال سؤاله المعتاد ..كانت تجيبه أم سعد: الأولاد يلعبون في غرفتهم وقد أكلوا جيدا بعد أن أخبرتنا بتأخرك اليوم ..
– حسنا يا أم سعد فعلتي خيرا أشكرك من أعماق قلبي، أجابها..
 هل أجهز لك طعام الغذاء ؟ ..
– نعم لكن بعد أن آخذ حمامي المعتاد ، لكنه اتجه إلى غرفة الأطفال، فوجد ابنته في غرفة أخيها.. لوح لهما من باب الغرفة بالهدية .. تهلل وجههما.. قفزا فوق السرير بابا..بابا..

احتضنهما بشوق وحنان ولهفة لم يسبق لهما مثيلا من قبل.. أطال في ضمهما إليه، كان يقبلهما بلهفة .. قبل أن يفتحا هديتهما من الألعاب التي يحبونها كل حسب رغباته، طارا فرحا وبهجة، تعلقا في رقبته وهو جالس على ركبتيه، حتى كاد أن يوقعاه أرضا .. فضحك معهما .. ثم استأذنهما في الذهاب ليأخذ حمامه اليومي.. وقبل أن يغلق الباب عليهما، القي بنظره صوبهما، كانا يلعبان غير منتبهان إليه.. كانت نظرة فرح امتزجت بحزن دفين.. فانسحب بهدوء مغلقا الباب ورائه، بينما كان يخفى ألمه وحسراته عن عيون أطفاله.. اتجه لأخذ حمامه عله يجد مع الماء سكينته وراحة، فيغسل وجع الحاضر وقسوة الزمن الصعب عليه ..لكن الأمل يبقى سيد الموقف، والأمنيات وحدها ستصاحبه من الآن فصاعدا... توجه لاحقا إلى غرفة السفرة.. تناول طعامه على عجالة، فقد أحس بنوع من الإرهاق فاتجه إلى غرفة نومه ليكسب ساعة نوم اعتاد عليها...

ما أن دخل الغرفة حتى وقعت عيناه على جهاز الحاسوب.. تنهد بارتياح.. أحس بشوق يكتسحه.. تذكر معاده الليلة مع حنان حيث أحس باشتياق لها أكثر.. تنهد، استرخى على سريره، كان يحلم بلقاء عذب، لقاء يحتاجه أكثر من أي وقت مضى.. فجأة اختلطت عليه هواجس متعددة؟.. فز من سريره إلى ركن اعتاد عليه في أوقات متقاربة منذ أن غادرت زوجته البيت، وقف أمامها:
 أيعقل أن تكون أنت إبراهيم ؟ سأله صديقه وهو يطل عليه بكامل هيئته قبالته مباشرة
 نعم وهل ترى شخصا آخرا ماثل أمامك الآن ؟ فمن أكون إذا ؟ أجابه..
 لا، لم تعد إبراهيم الذي اعرفه ؟.. – كيف؟ هل أوضحت لي هذه الاسطوانة المشروخة؟ التي تكررها على مسامعي مؤخرا..
 أنت تبكى بكثرة هذه الأيام!، كما انك تصرخ أحيانا: بأنك تريد الحياة؟..ماذا يعنى هذا ؟ لم تعد تفكر إلا بنفسك !، نسيت الثورة والوطن والواجب المقدس..؟
 لا ، كيف تتهمني بهذا، اللعنة ساترك صياغة بيانات الثورة لغيري.. إلى من هم يمتلكون مفاهيم جديدة، وكلمات لم تعد مهترئة.. فالوطن في القلب، لم يخرج منه ولن يفارقه..
 والبارودة يا إبراهيم ؟..
 موجودة لن يمسها احد، إنها عرضي وشرفي وأحد فلذات كبدي عليك اللعنة، إنها في الحفظ والصون ،إنها أمانة للأجيال حتى النصر والتحرير، هي في أحسن حالها وجاهزة ليوم موعود !..
 يسخر منه بابتسامة تُخفى عذابات الحاضر والواقع ؟!..
 اللعنة عليك ما أغلظك اليوم من صديق، ألا يكفيني ما مر بى اليوم؟..
 يبدو انك لا تحتمل نقدا اليوم، اذهب الآن فأنت بحاجة إلى نوم لتريح عقلك وأعصابك، وبعدها لنا حديث آخر...

يتجه إبراهيم إلى سريره من جديد.. يحس بإرهاق ونعاس.. فانكب على وجهه، وأغمض عينيه وذهب في نومه المعتاد.. مرت أكثر من ساعة.. وإذ بأم سعد تهرع إليه، تحاول أن توقظه مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم !.. يحاول أن يفتح عينيه بصعوبة، بينما كانت شفاهه تردد حنان.. حنان .. احتاجك يا حناني.. عندما اطمأنت عليه أم سعد بأنه قد استيقظ كانت لا تزال تضرب كفيها : لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يجبر خاطرك يا ولدى ويصبرك، ويفرج عليك كربتك ووحدتك، ويحقق لك كل ما تتمناه .. لكنها قبل أن تغادره سألته: يا ولدى من تكون حنان هذه التي كنت تهذى باسمها بصوت عال، أخافني وأرعبني عليك ؟..
 لا، لا شيء كان كابوسا لا أكثر.. حاول إخفاء الأمر عليها لكنه لم يستطع، فإحساسه وشعوره بالسعادة الداخلية التي غمرته..كانت تسبق إجابته التي كتمها في صدره.. فارتسمت على وجهه ابتسامة أمل وتفاؤل، كادت أن تفضح سره .. نظرت إليه أم سعد غير مقتنعة بما قاله.. وهمت بالانصراف وهى تتمتم : ربنا يسعدك، ويهدأ من روعك يا ولدى.. فأنت بحاجة إلى رعاية وحنان !!...

********

ح (6)
ما تزال دعوات أم سعد ترن في أذنيه، بينما كان متجها إلى أخذ حمامه المعتاد بعد قيلولته اليومية، وإن كانت تختلف عن بقية الأيام من حيث صخب ما رآه في نومه ... مسكين يا إبراهيم، قالها وهو يمر من أمام المرآة مختلسا نظرة عابرة على نفسه، لم يتوقف ليستمع إلى ردها عليه؟ ألقى بنفسه على كنبته المفضلة أمام التلفاز، بدأ يقلب المحطات الإخبارية، يتنقل ما بينها كعادته، في هذه الأثناء كانت قهوته قد وصلت، وراحت رائحة الهيل المميزة تغمر الهواء بانتعاش محبب، رافقها على الصينية كأس من عصير الليمون قد نصحته بها حنان، فأصبحت تلازم قهوة ما بعد العصر كروتين تتبعه أم سعد...

يتناول ليمونه فيحس بحنان تداعب شفتيه، تتسرب إلى مسامات جسده، تصل إلى أعماقه فتنعشه رائحتها، مذاقها، إحساسه بوجودها بين يديه، كان شعورا يتوق إليه، منتظرا الليل أن يفضى بستاره ليكون معها بقلبه وأحاسيسه... في هذه اللحظات، يأتي إليه أبناءه جميعا يجتمعون من حوله، يتبادل معهم الحديث، يوجه ويعطى نصحه إلى ابنته الكبرى على مسمع من بقية صغاره، حيث تتكور صغيرته في أحضانه،
تداعب شاربه وتلاعب أنفه، تقطع حديثه أحيانا، يبعد يديها بحب وخفه عن فمه ليستمر بحديثه، كان يستمع إليهم، يلبى رغباتهم ومتطلباتهم التي كثرت في الآونة الأخيرة بكل فرح وسعادة، ينفذها لهم دون تردد أو حتى نقاش، لأنه الآن بالنسبة لهم بمثابة الأب والأم، كان يحاول أن يكتسب حنانه من حبيبته حنان، فينجح في أن يكون لهم نبع الحنان والحب والاحتواء...

قاربت الساعة من السابعة مساءً، حيث سيلتقي مع أصدقائه، فقد عاد صديق طفولة كان قد ارتحل مع والديه قبل أكثر من عقدين إلى حيث بلاد العم سام، فدعوه هذه الليلة على عشاء في مطعم يليق بحفاوة الاستقبال...

وصل المكان، فوجدهم جميعا بانتظار صديق صباهم سامح، الذي سيصل برفقة كرم أحد أفراد الشلة، التي اعتاد قضاء أوقات المساء في اغلب الأحيان، كالعادة تطرق حديثهم إلى أخبار الساعة وما آلت إليه الأمور الداخلية والخارجية للبلاد، يتبادلون أطراف الحديث ويتجاذبون في حيثياته، يتفقون ويختلفون في الرؤى، غير أنهم اجمعوا على أن الأحوال رثه، قاتمة، بحاجة إلى تغيير سريع وإلا فالأزمة ستمتد كنقطة زيت في كل الاتجاهات والمنحنيات، انتفض إبراهيم فجأة على صوت صديقه: إنهم هناك قد وصلوا، وصل سامح يا شباب ...

كان اللقاء حميما، عاشوا فيه أجواء الصبا، تذكروا سنوات مرت كلمح البصر كأنها الأمس القريب، المدرسة، ومربي الفصل، وكثير من الزملاء الذين لا يعرفون ماذا حلّ بهم، حيث ألقت بهم أقدارهم إلى مختلف بقاع الأرض، في زمن كان الجميع يلهث للخروج من دوامة الفقر والحاجة والعوز، إلى حيث رحاب الأرض الشاسعة، سعيا وراء لقمة العيش وإن كانت مغمسة بالذل والغربة والبعاد...

********

ح (7)
كان اللقاء الأول يزخر بكثير من الأسئلة والاستفسارات المتبادلة، فسامح يجهل أغلب التفاصيل والحيثيات المعقدة هنا، حيث تصله مشوهة في اغلب الأحيان، كما انصبت أسئلة الرفاق على الحياة في أمريكا، فكانت إجابات سامح مستفيضة، تركت أثرا في نفوسهم وقناعة راسخة، بأنه لا غنى عن مجتمعاتنا التي ما تزال هي الأفضل، وإن غرقت في متاهات ودوامات العصبية، فالقناعة كانت ثابتة، فوجدت تأييدا وتأكيدا من الشلة بأنها زوبعة في فنجان، لابد وأن تنتهي سريعا وحتما...

عاد إبراهيم من سهرته، كان يفتقد فيها كثيرا من الإجابات التي لم تكن شافيه له، على أن يلتقي لاحقا مع صديق طفولته، ودراسته في فترة الابتدائية والإعدادية، حيث كانا صديقين لا يفترقان بحكم الجيرة أيضا، لمزيد من وضع النقاط على الحروف...

دخل البيت بهدوء تام، لقد قاربت الساعة على منتصف الليل، اتجه مسرعا يتفقد أطفاله يشق الأبواب عليهم بخفة وحذر، يطل برأسه، يتجول بنظره في أنحاء غرفهم يتفحصها ليطمأن، حمد الله بأن كل شيء على ما يرام، ثم اتجه بخطى أسرع إلى غرفته، استبدل ملابسه على وجه السرعة، تنفس الصعداء، جلس أمام ونيس وحدته يتلمسه بكل وداعة ورقة، كانت لهفته شديدة، للقاء حبيبته المتجدد يوميا، فقد أصبح جزءاً من حياته، حيث أوقاته الأجمل، وأمانيه المتجددة بدفء وعطر وسحر الأجواء التي تتركها حنان في نفسه...
هذا الحب الذي يغمره بعطر يطغى على نهارات الشقاء والحيرة والتشتت، ما بين المركز التخصصي للأمراض العصبية والنفسية، حيث تقبع زوجته التي يبتعد شفائها القريب، وأسرته حيث أطفاله واحتياجاتهم الملحة لصدر حنون، لحب وحنان الأم المفقود، وما بين عمله وصراع البقاء، في تحديات تواجه نمو وتقدم البلاد، جرّاء عراقيل مدروسة لمخططات التنمية من قبل أعداء التطور والحياة التقليديين !.

يفتح حاسوبه، يدخل برنامج المحادثة سريعا، يجدها وقد أنارت شرفتها كضوء القمر، يتهلل فرحا وطربا، تنتعش لها دواخله، حيث يدخل إلى عالمه الأجمل بكل أحاسيسه الرائعة، تتخلل مسامات جسده فينتشي لها سعادة.
 مساء الأنوار حنان.. كيف حالك اليوم يا سعادتي وهنائي ؟ كانت جملته اليومية التي يبدأ بها لقاءه معها.
 مساء الورود حبيبي.. بخير إبراهيم، كنت انتظرك بفارغ الصبر وقد بدأت بالقلق عليك لتأخرك هذه الليلة، أجابته.
 لا أبدا حبيبتي، كنت بصحبة ذاك الصديق القادم من خلف البحار، وقد تناولنا طعام العشاء معا أتذكرين حديثي إليك أمس حول هذا الأمر؟
 نعم إبراهيم لكن: لم أتوقع غيابك هكذا، لأني أتلظى شوقا إليك، فأنت الحياة والأوقات الجميلة لي يا أغلى من حياتي.
 صمت برهة قبل أن يجيبها، فكم تؤرقه هذه العبارة المتكررة منها ؟ على الرغم من حلاوتها في أذنه، وهو الرجل الشرقي العاشق الغارق في هواها حتى أذنيه.
 أتحبينني يا حناني بقدر ما أحبك؟ سؤال حاول به استفزاز مشاعرها كعادته، انتظر ردها الذي كان عاصفا بكل الحب والغرام..
 حنان تحبك، تحب التراب الذي تمشي عليه، وترجو دوما رضاك وحنانك ودفئك وحبك الصادق، أحبك إبراهيم، يا كل الحياة، وكل الحب وكل الدنيا بمن فيها، اللهفة والتوق إليك يوقفان مد الحروف، فمشاعري الآن أكبر من أية حروف أنطق بها، حنان تذوب بك وجدا وهوى حبيبي، فكن معي دوما لا تتركني قدر ما تستطيع، فانا احبك إلى الأبد حبيبي، إلى الأبد ...
كانت سطورها إليه، يقرأها بنشوة، وبرائحة العطر والمسك تفوح من خلال حروفها الناطقة، فتعطر وحشته، وتمده بسكينة يبحث عنها، وبحب يسعى إليه بكل قوته وخفقان صدره ...
 من يترك حياته الأجمل ومرساه الآمن حناني؟ من يبتعد عن حبه الأكبر والأقوى، الذي عصف بكياني وقلبي حد لا أستطيع أن أتخيل كيف ستكون الحياة من غيرك، لا أريد حتى تخيلها؟ فأجمل أوقات، وأحلا زمن يكون بصحبتك يا أغلى الناس في هذا الكون، وهذه الحياة التي لا تساوى شيئا بغير حنانك وحبك ...

استمرا معا حتى الثانية فجرا، موعد خروجهما من الشبكة العنكبوتية، ليستقبلا يوما جديد حيث حياة أخرى تنتظرهما، في نهارات هي الأجمل دوما، والمشرقة أبدا، جرّاء حب يغمر القلوب ويريح العقول، ليتعاهدا على لقاء في الغد، قد يكون أكثر عبقا وأغزر صخبا، لكنه الصخب اللذيذ، الذي تتوق إليه كل القلوب المحبة بصدق وإخلاص ووفاء...

في طريقه لعمله، يتلقى مكالمة على غير عادته في مثل هذا الوقت، كان طبيب زوجته يطلبه للقاء في منتصف النهار؟ لأمر عاجل لا يحتمل التأجيل !!..

********

ح (8)
وصلت العربة التي تقله إلى مكان عمله، اتجه مسرعا إلى حيث مكتبه.. كانت ما تزال كلمات د. نصري ترن بأذنيه، كناقوس تقرعه كنيس، جعلته يتخبط بتفكيره يمينا وشمالا، لم يصل إلى احتمال منطقي لهذه الدعوة العاجلة .. أو انه لم يشأ أن يبتعد في تحليلاته، فلا يستبق الأحداث ،عله لا يقع فريسة شيطان الوسواس الذي هيمن على عقله.

مر على سكرتيرته، دون أن يلتفت أو يترك تحيته الصباحية التي تصاحبها ابتسامته المعتادة ! لحقت به على عجالة، كانت واجمة مضطربة، كررت نداءها عليه : باش مهندس إبراهيم ، إليك ملف القضية الخاصة بتعويضات مراسلنا قيد العلاج ما يزال في المستشفى.. في هذه اللحظات، لم يكن يسمع سوى صخب من الأصوات يقرع في أذنيه .. باش مهندس.. لم يجبها ؟ اصفر لونها، شعرت بخوف يجتاحها، فارتجفت قدماها، وارتعشت يداها، و ما تزال تحمل ذاك الملف، حتى بدت وريقاته تتراقص كأنها تريد السقوط لا محالة.. لكنها استعادت رباطة جأشها وتقدمت: وضعته أمامه .. استجمعت قواها بسؤالها: تأمرني بشيء آخر باش مهندس.. لا إجابة منه، فإبراهيم كان سارحا في طنين أذنيه، غارقا في دوامة من التحليلات أقلها كان مرعبا ؟.. استدارت راجعة للخلف، وقد أمسكت بيدها على مقبض باب المكتب، و تسمرت مكانها بلا حركة حين سمعت نداءه لها !...
- روان، أين الملف ؟ لا وقت لدى، سأوقع عليه سريعا فلابد لي من الخروج فورا.. كان مبعثر الكلمات، شاخص بصره نحو نافذته المطلة على الميناء مباشرة .
 أمامك، على المكتب جاهزا منذ لحظات، أجابته.. تقدمت نحوه من جديد .. لا عليك ينتابني توتر ما، عذرا .. تستطيعي أن تلغى كل مواعيدي لهذا اليوم، سأغادر بعد ساعة من الآن، وفى حالة الطوارئ يمكنك الاتصال عبر هاتفي الخاص، انسحبت بهدوء تام وقد تنفست الصعداء،واستعادت توازنها وتبدد قلقها ..
بدأ بتقليب تقارير تكلفة إقامة المراسل وعلاجه، وتعويضات أخرى وفواتير ومعاملات قد تمت بحاجة إلى توقيعه.. حيث أشر عليها سريعا بالموافقة، أغلق الملف وتركه كما هو في مكانه و استعد للخروج بعد أن أوعز لسائقه بالتحرك إلى المصحة التخصصية.

لا يعرف كيف أوصله سائقه للمكان، دخل يجر قدميه بتثاقل واضح.. اقترب من السكرتارية، فأشاروا له بالانتظار في داخل مكتب الطبيب ، كما هي تعليماته في حال وصول إبراهيم قبل أن ينهى جولته اليومية على الأقسام، بصفته رئيسا للقسم التي تخضع نجوى للعلاج والمتابعة فيه .

طلب خلال انتظاره من السكرتارية مهدئ للصداع، فوافوه فورا بالمهدئ مع كأس من الماء، و اتبعته بفنجان من القهوة، نصف ساعة مضت بالتمام.. وإذا بالطبيب يدخل المكتب، فوقف يسلم عليه وفى عينيه أكثر من تساؤل حائر، في انتظار إجابة علها تريح أعصابه، وتخفف من توتره ..
 إبراهيم، أنت مثقف وعلى درجة من الوعي والعلم والمسئولية، تجعلني أصارحك بان الوضع الآن يتأزم جدا، وقد صدقت توقعات فريقنا المشرف.. لقد أنقذنا نجوى الليلة الماضية من محاولة انتحار مؤكدة في الدقائق الأخيرة...
 ماذا تقول ؟محاولة انتحار يا دكتور ! كان قد انتفض واقفا، ضرب كفه على جبينه، ثم ما لبث أن اسقط بجسده على الكرسي مستسلما، لقدر بدأت تتضح معالمه جيدا بشكل لا يقبل التأويل أو الجدل، في استعصاء حالتها من شفاء قريب أو منظور .

لكنه استفاق على كلمات أوحت له بوجود بارقة أمل، عندما سمعه يقول: سنجرب معها الصدمة المرتجعة ؟ هي محاولة تتلخص في عمل لقاء مع أطفالها على وجه السرعة، وليكن غدا ..
 أيمكن ذلك يا دكتور ؟ أيعقل بعد أن أخبرتهم بان أمهم في دراسة خارج البلاد.. كيف لي أن أتدبر الأمر الآن ؟ لكن لا باس، سأتوصل إلى حل ما ..
 لكن كن حذرا، لقد أخبرتني بوجود ابنة كبرى فماذا ستفعل ؟
 سأواجهها بالحقيقة، ابنتي سلوى يجب أن تعلم الآن كل الحقيقة التي أخفيتها عنهم جميعا، فهي في المرحلة الثانوية، وعقلها سيدرك كل الأمور، نعم يا دكتور وبخصوص الأطفال سأجد حلا مناسبا ..
 أنصحك فعلا بمواجهتها بينك وبينها على انفراد، دون أن يسمع احد من الأطفال حديثكما.. وسأنتظركم جميعا غدا على منتصف النهار إن شاء الله، إنها محاولة علاجية كما جاءت بإجماع اللجنة المختصة، والمتابعة لحالتها، ونتمنى أن تكلل بالنجاح، وان يكون تأثير الصدمة مجديا .

ودعه على عجالة، كمن يريد استباق الزمن وترتيب الأفكار، وشرح الأمور لابنته التي تشغل تفكيره الآن بجدية لا مثيل لها، فالموقف لن يكون سهلا كما الأمر بالنسبة لأطفاله الصغار .. قفل عائدا بصحبة سائقه، وطوال الطريق تلبسه صخب غريب لم يعتده من قبل..حتى كادت رأسه تنفصل عن جسده متطايرة، من هول الضجيج الذي تملكه.

وصل البيت.. دلف إلى غرفة نومه مباشرة، لترتيب أفكاره التي تسارعت واختمرت في رأسه طوال الطريق، يريد أن يستجمعها ويرتبها ، فقد اهتدى إلى اختراع قصة تبدو سهلة ومقبولة، في أن يقول لهم: عادت أمكم اليوم في الطائرة، ولكن تم نقل جميع ركابها إلى مستشفى خاص لوعكة ألمت بالجميع نتيجة لأكلهم طعام فاسد.. كانت فكرة سديدة ومنطقية، لكن كيف سيكون وقع الحقيقة على ابنته؟ أشعل سيجارته، ادخل سمومها عميقا في رئتيه،شعر باسترخاء، نفثها في الهواء باتجاه الحائط المجاور.. هناك كانت صورة زوجته نجوى، ابتسم لها ابتسامة حزينة، دعا لها بالشفاء العاجل وبان يكون غدا مجديا لها.. أشاح بنظره جهة مطفأة السجائر، فانتبه إلى جهازه الحاسوب، فابتسم له ابتسامة أمل، شعر بقوة لمواجهة الأحداث، أحس بداخله بأنه أكثر ثقة وتوازنا، ليواجه الموقف بكل حسم وحرص وحذر.. فلا وقت يضيعه في التردد، فالميعاد تقرر غدا، والخبر بالتأكيد لن يكون هينا على ابنته.. والاهم من كل هذا، ماذا سيكون وقع لقاء نجوى بأطفالها وابنتها الكبرى على نفسها؟ ومدى انعكاساته عليها وعليهم لاحقا.. صخب من التساؤلات يغلفها الرجاء والأمل والتضرع إلى الله ، جميعها كانت تتزاحم في عقله.. قبل أن يسمع نداء أم سعد للعشاء .

********

ح (9)
استجمع احمد أفكاره سريعا، أعاد ترتيبها بعد نداء أم سعد للعشاء ..بعد أن هدأت أفكاره المتزاحمة وقلّ طنينها في أذنيه ..لكن ارتباكه بعد قراره بمواجهه ابنته البكر ما يزال باديا على ملامحه.. تؤرقه الفكرة وتقلقه ردة فعلها.. وما ستحدثه المفاجأة من صدمة متوقعة و وتداعياتها غير المحسوبة... وصل متأخرا على غير عادته، حيث اعتاد أن يكون أول الجالسين على المائدة، يحث ويستعجل أطفاله حتى لا يتأخروا ما يضطر أم سعد إعادة تسخين الطعام، فقد كان يرفق بحالها ويرأف لما آلت إليه صحتها، فهي تعيل أسرة كبيرة، تقطعت بها سبل العيش لموت زوجها باكرا.. وسعيها الجاد في توفير لقمة عيش لأولادها.

كان الأمر صعبا عليه، فهو مضطر الآن لمواجه ابنته سلوى بحقيقة مرض أمها.. مر زمن طويل وهو يخفى حقيقتها، وقد نجح في هذا على مدار ثمانية شهور، استطاع بكل جهده وحنانه تعويض أولاده غياب الأم، وان يزرع فيهم الأمل بانتظار جميل، وأخبار سارة عن نجوى ، كان يختلقها حين يلحون عليه وتحاصره أسئلتهم.. بينما كان الحزن يخيم على قلبه، إلا انه بكل الحب وعاطفة الأبوة، نجح في معظم الأحيان في زرع الابتسامة على شفاه أطفاله...
- سلوى حبيبتي، بعد انتهائك من نقل الأطباق، وتنظيف السفرة، ارغب في حديث معك على انفراد.. حدثها وهو يتجه صوب غرفته...
 نعم يا أبى سأكون فور انتهائي، سألحق بك وأجهز قهوتك بنفسي، تاركة ابتسامة رقيقة قبل أن تتجه حاملة أطباق وأواني العشاء ناحية المطبخ، حيث سبقتها أم سعد ..

مرت نصف ساعة قبل أن تقرع الباب مستأذنه بالدخول..
 أهلا ابنتي ..ما شاء الله عليك حبيبتي، تكبرين بسرعة فائقة، ها قد أصبحتِ عروسا يا سلوى، كم أتمنى من الله وأدعوه متضرعا أن يمنحكم السعادة والهناء.. لا تنسى وعدك لي بأن تصبحي مهندسة معمارية .. ابتسمت سلوى مكررة وعدها، بينما كانت تصب القهوة في فنجان خزفي تعود أن يشرب به قهوته دوما.. ولطالما نهت إخوتها الصغار عن استخدامه قائلة: فنجان أبى الخاص لا احد يعبث به.. جلست ترقب أباها بينما أشعل سيجارته، وارتشف أول رشفة .. نظر إليها بكل عطف وحب وحنان...
- سلوى، اعلم أنك واعية لما سأقوله لك..اعلم بأنك تستطيعين أن تتفهمي وتعذري تصرفي في إخفاء حقيقة لها شهور طويلة عليكم جميعا.. من أجلكم فقط فعلت هذا! لكن بنيتي جاءت لحظة الحقيقة، أنت صغيرتي الكبيرة، المتفوقة والمدركة و.... قاطعته والحيرة التهمت وجنتيها حمرة فتورد خديها كالجمر،وجحظت عيناها ..أبى ماذا حدث ؟ بدأت أطرافي ترتجف.. أنا خائفة يا أبى، ما الأمر؟ هل حدث شيء لأمي في غربتها؟ ماذا يا أبى؟ أخبرني .. انهمرت دموعها وارتمت في أحضان أبيها وهى تبكى بحرقة ..
 لا لا أبدا يا سلوى، أمك بخير، لم يحدث لها شيء.. ليس هكذا الأمر حبيبتي..
 إذا هناك شيء تخفيه! أنا أحس بهذا الآن، قل لي كل شيء، أريد الحقيقة، فان كانت أمي بخير ما الذي تخفيه عنا ؟ لماذا لم تسال علينا؟وأين هي .. أريد الحقيقة.. وراحت تبكى وتهدج صوتها ..تمسح دموعها بمنديل ورقى ذاب بين أناملها الغضة الرقيقة.. تحاول لملمة كلماتها المبعثرة.. يسرع احمد في احتضانها.. يربت على ظهرها وكتفيها محاولا بث السكينة في نفسها .. مكررا أن أمها بخير .. يقسم لها..يكرر قسمه.. حتى بدأت في السكون ولكن بحذر !...

ساد صمت لم يدم طويلا.. قطعه احمد :سلوى ماما ليست في الجامعة ! وليس هناك منحة دراسية، ماما في مصحة نفسية تخصصية هنا في داخل بلدنا.. وغدا طلب الأطباء بان نزورها جميعا.. قال جملته الأخيرة سريعا، دون أن يترك لها مجالا للانفعال والمقاطعة .. بينما كان يرى الذهول على وجهها، ويقرأ في عينيها حزنا وألما وحسرة.. نظرت حولها .. زاغ بصرها..تكورت في ركن الغرفة البعيد ،تضع كفيها على وجهها تنوح ببكاء يقطع نياط القلوب.. كانت تكرر: ماما..ماما..حرام عليكم .. حرام .. ماذا حدث لك؟ كيف لم أرك وأنت هنا !..تكرر كلماتها ، بصوت متهدج وقد تاهت معالم وجهها تماما في بحر من الدموع والنحيب والذهول.. وقد احتبست الدماء في مقلتيها كيف يا أبى؟ لماذا لم تأخذني طوال هذه الفترة إليها كيف تفعل هذا؟كيف هنت عليك يا أغلى الناس على قلبي.. وكيف لم تطلب أمي رؤيتي وإخوتي كيف؟؟ حرام ..حرام ما فعلتموه.. تتأوه، تلتاع حزنا.. تقطع قلب أحمد.. يتماسك..يحاول أن يتماسك ..ينجح لابد وان ينجح في هذا الموقف العصيب..وإلا فتداعيات الصدمة ستكون معقدة على ابنته...
 اهدئي بنيتي، سأشرح لك كل الحكاية الآن..

انتهت أم سعد من ترتيب المطبخ، أعدت الحليب للأطفال كعادتها في كل ليلة قبل نومهم، تتأكد بنفسها من تناولهم له ، فكم مرة وثقت بكلامهم وتركته، لتأخذه في الصباح كما تركته مصبوبا لم يلمسه احد.. حدث هذا في الأيام الأولى من قدومها، بعد مغادرة نجوى إلى المصحة، حيث عرفت شقاوتهم.. لهذا ترافقهم حتى يذهبوا في نوم ملائكي.. ثم تنسحب متسللة من غرفتهما إلى احمد حيث تكرر سؤالها اليومي عليه، إن كان يريد شيئا قبل أن تخلد للنوم...

قرعت الباب على احمد، وهى تعلم بوجود سلوى عنده في أمر تعلمه مسبقا، فعلى ما يبدو أن ساعة الحقيقة قد حان ميعادها.. كانت تحدث نفسها عندما قرعت الباب بدقاتها المعروفة..

دخلت أم سعد، وقد اغرورقت عيناها بالدموع عندما رأت سلوى في وضع لا يحسد عليه، فهذه الشمعة المضيئة ، والوردة الندية قد احترقت وذبلت ..

ارتمت سلوى في أحضان أم سعد وعادت لتبكى .. كان بكاؤها اخف حدة، بدأت تعاتبها هي أيضا لإخفائها الحقيقة عنها.. وهنا توجه احمد بالحديث لام سعد:لقد طالبني الطبيب المعالج بان نتوجه جميعا بزيارة عاجلة إلى نجوى غدا.. وقد بحت بالحقيقة لسلوى كاملة.. وبحمد لله تفهمت لأنها ابنتي الواعية والمثقفة ..
 اااه يا ابنتي سلوى سارد على سؤالك، لقد اخفي والدك عليكم القصة، لأنه كان يتأمل شفاءها عاجلا، وعودتها وكأن شيئا لم يكن.. كان لمصلحتكم ابنتي، ولم يقصر في واجبكم أبدا.. وأنا الم أكن لك الأم والصديقة ؟ .
 نعم تيتا لم أحس أبدا بغياب أمي ..لكن...
 استأذنكم الآن، وسأجهز الأطفال غدا ليكونوا على أهبة الاستعداد ..
 اعلمي بأننا على منتصف النهار يجب أن نكون هناك..
 نعم فهمت، إن شاء الله.. أغلقت الباب وراءها وهى تخرج تكرر قولها: لا حول ولا قوة إلا بالله يا رب الصبر، والرحمة بعبادك.. وألطف بهم غدا يا الله.

خرجت سلوى من غرفة أبيها، وقد جففت دموعها واستسلمت للأمر الواقع.. بعد أن تفهمت كل شيء، وعرفت ماذا ستقول لإخوتها الصغار غدا، كما أوصاها والدها.. استأذنت أباها وقبلت يده ..فقبلها في خديها وجبهتها، وضمها بقوة وحنان إليه.. أغلقت باب الغرفة ومضت...

القي بجسده منهكا على السرير.. أشعل سيجارته ونظر إلى ساعة الحائط، فقد قاربت على العاشرة والنصف.. نهض من سريره بعد أن استفاق من مشاهد كأنها فيلم اكشن دارت أحداثه على الطبيعة أمامه قبل قليل.. ارتشف ما تبقى من فنجان قهوته.. توجه إلى حاسوبه حيث كانت حنان في انتظاره ...
– ااااه حنان، حبيبتي.. كم أنا محتاج إليك الليلة..بدأ حديثه فورا إليها.
 حبيبي احمد يا أغلى من حياتي.. كلى لك يا غلاي.. ما بك يا مهجة الروح ..ما هذا الحزن في قلبك..لا لا تبك.. دموعك غالية على حنانك، ماذا حدث؟ هل واجهت سلوى بالحقيقة؟..
 نعم، وراح يقص عليها وقائع كانت قبل لحظات.. وهى تستمع إليه ..تهدئ من روعه.. تعطيه أملا.. تشير وتشور عليه بخطوات تطابقت بما كان يفكر فيه..

وهنا يقف أحمد مذهولا! كونها الحبيبة وترأف به وبأسرته وبزوجته.. يقف محتارا.. فالموقف يدعو للتأمل حقا.. لكنه ليس بالخيال، فحنان حقا امرأة عاشقة لأحمد بكل ذرات كيانها..تريد له الخير ولأسرته السعادة !طيبة القلب،واعية ومدركة لكل الظروف، محبة حد الثمالة له،.. يشعر على أثر محادثتها بهدوء يجتاحه،براحة بال تتلبسه، بأمن وأمان يسرى في كيانه.. فيصمت.. لتتوالى بنفسها الأحداث تباعا...

********

ح (10)
وصل سائق إبراهيم في العاشرة والنصف صباحا..كان الوقت ما زال مبكرا على موعدهم المقرر عند منتصف النهار.. حملت إليه أم سعد الشاي مع قطعة جاتوه، قبل انهماكها في تجهيز الأطفال، وإعداد الفطور للأسرة.
 هل انتهيتِ من تجهيز نفسك بنيتي؟ للتو أنهيت اتصالى بالمدرسة لأخذ إذن بغيابك اليوم، وقد وافقت الإدارة مشكورة، فكوني مطمئنة حبيبتي سلوى.
 نعم يا أبى أنا جاهزة، وسأقوم بمساعدة أم سعد بتجهيز اخوتى، ليتسنى لها تحضير الفطور على عجالة.

بينما كان الأولاد يتناولون فطورهم، تحدثت سلوى إليهم بصفتها الأخت الكبيرة، مختلقة قصتها كما اتفقت مع أبيها، فأخبرتهم بأن أمنا عادت بالسلامة من سفرها أمس.. وقد نقلتها الوزارة إلى مركز للتعليم العالي لإكمال دراستها، وهى تنتظرهم اليوم حيث تقيم.. فرح الأطفال، واخذوا يتصايحون ماما..ماما.. والسعادة تغمر وجوههم، والبراءة على محياهم، تعلن تجلى الطفولة بكل صورها...

كانت ليلة عصيبة على إبراهيم، فقد جابت أفكاره كل الاحتمالات، حتى شعر بصداع رهيب يضغط رأسه، كحمل ثقيل يتربع فوقها، صخب فظيع كأنه أجراس تدق في أعماق رأسه، فتناول مسكنا حتى استطاع المكوث مع حبيبته حنان، التي لعبت دورا كبيرا في حفظ توازنه، وتهدئته بمشاركتها في التخفيف عن قلقه، وحيرته وتعثر أفكاره.. فمنحته حنانها، وأفادته كثيرا في إعادة ترتيب أفكاره، حتى أحس بقربها منه أكثر، بل أصبحت بمثابة قطعة من جسده لا يستغنى عنها..لم يمكثا طويلا حتى طالبته مستأذنة الخروج من محادثتهما، حتى يتمكن من النوم باكرا ليأخذ قسطا اكبر من الراحة، فيستيقظ صباحا بأحسن حال، وأكثر تركيزا وثقة، ليتمكن من مواجهة أي طارئ، أو تداعيات قد تترتب على زيارتهم المقررة ظهر اليوم.

وصل الجميع قبل الموعد بقليل، كان د. نصري في استقبالهم شخصيا عند وصولهم مدخل مبنى الإدارة، المرفق مباشرة بباقي الأقسام بواسطة ممر يغلق بباب خاص، لاستخدام الموظفين والأطباء، قبل أن يصطحبهم إلى داخل مكتبه. انزوت سلوى جانبا تسترق النظر إلى باب المكتب بعيون شاردة زائغة، لا تستقر على مقعدها، تنقل كفيها على وجنتيها تارة، وتضرب على ركبتيها المنتفضتين بعصبية لا إرادية تارة أخرى.. كان الطبيب يلاحظها باهتمام:
 أنت سلوى بالتأكيد، لقد كلمني والدك عنك كثيرا، انه يفخر بثقافتك الواسعة، وبوعيك المتقدم، وتفوقك في دراستك، وحصولك على كثير من الجوائز المدرسية كما أعلمني .. قاطعته متلعثمة:
 أريد أمي حالا ..أريد رؤيتها الآن يا دكتور، أرجوكم ..أتوسلكم.. وأجهشت ببكاء تتقطع له القلوب. سارع إبراهيم إلى ضمها، يقبل رأسها، يحوطها بذراعه، يهدئ من روعها، هامسا بكلمات بالكاد تخرج من فيه، حالا بنيتي.. سترون أمكم فورا، ملتفتا جهة الطبيب، ينتظر إشارته بالتحرك إلى حيث تقبع نجوى، فهي لا تعلم بهذه الزيارة مسبقا كما أرادها إجماع الأطباء، لأنها تندرج ضمن وسائل علاجية حديثة، يتبعونها في مثل هذه الحالات .

استأذن دكتور نصري الجميع، باصطحاب إبراهيم لبعض الوقت إلى مكتب مجاور، حيث كان مساعديه بانتظارهما، تاركا سكرتيرته معهم، وقد احضر المراسل عصير البرتقال، وقطع من البسكويت كما أراد ورغب الأطفال ...
 باش مهندس إبراهيم، سنطلعك الآن على خلاصة التقرير، الذي رصد حالة نجوى منذ البداية ..كان الحديث للدكتور نصري، وهو يلوح ممسكا بملف وقد امتلآ بالأوراق، وأضاف متابعا : سأحاول تلخيص الوضع سريعا، لتكن على علم مسبق، حتى لا نصاب جميعا بخيبة أمل من هذا اللقاء المعد اليوم.
 هل تلاشى الأمل بشفاء نجوى في وقت منظور؟ أرجوك دكتور، لخص لي الحالة باختصار شديد، فلا يمكن ترك الأولاد طويلا، وسلوى حساسة جدا، واخشي أن يدب في قلبها الوسواس والخوف، فتنهار من فرط لهفتها للقاء أمها، فالانتظار الآن لا يمكن تخيله بالنسبة لها..
 هذا صحيح، لن نطيل عليهم، إليك خلاصة التقرير:
باش مهندس، أنت تعلم بان مجتمعاتنا الحديثة مليئة بالمرض النفسي/ العصبي، وقد بدأنا هنا بعمل فحوصات فيزيولوجية عامة، ثم فحوصات للغدد الصماء وما شابه.. و بحثنا عن مسببات العقدة النفسية التي تجتاحها حتى تملكتها، وهيمنت على عقلها، أي عن أسباب الصراع الانفعالي داخل عقل نجوى، وعن مكونات أسباب اللاتلاؤم مع البيئة.. وحالتها وصلت إلى أعراض حالة الهلع، أو الخوف من كل شيء يحيط بها ..من الأسواق والأماكن الواسعة المزدحمة، وثبت بالمتابعة أنها بقيت ملازمة للمنزل وعدم مغادرته.. أو لغرفتها هنا دون طلب مغادرتها وهذه حالة متقدمة من الاكتئاب، ومن أعراض المرض نفسه.. حيث تم الكشف عن مورثات المرض في عائلتها، وثبت لدينا وجوده بالتدقيق والفحص.. وهنا تسببت العوامل الوراثية في انتقاله من جيل لآخر، وبدأ مع نجوى مع وفاة والديها بفترات وجيزة، عندما كانت في سن العشرين.. بشكل غير مرئي للأسف، فان الحالة شديدة التعقيد والخطورة، لأنها تطورت إلى انفصام تام في شخصيتها، يسبب لها آلامًا اشد وطأة من الآلام البدنية، وقد لا تقل عنها حدة ومدة أو عمقًا ودوامًا، بل إنها معرضة للانتقال إلى المرض العقلي بمعنى الجنون.. فمحاولتها الأخيرة للانتحار، كانت خير دليل على ما رصدناه من تطور للحالة.. ويبقى وجه الله وحكمته أولا وأخيرا.

اغرورقت عيناه بالدموع، فأجهش بالبكاء.. بعد اطلاعه على ملخص مرير، افقده الرجاء بشفاء منظور لزوجته الحبيبة، وأم عياله، لكنه تماسك، فما زال هناك بصيص أمل في الخطوة القادمة، مطالبا سرعة العودة إلى أطفاله .. فكان ما أراد.

تقدم الجميع بخطى حثيثة نحو غرفة نجوى، كانت سلوى والأطفال يتسابقون بخطواتهم، يتهامسون فرحين بلقاء أمهم المرتقب، فقد مرت شهور طويلة على غيابها..يتقدمهم د. نصري ومساعديه من الأخصائيين المشرفين على حالتها، لرصد كل ما يدور، وما قد يحدث لتسجيل ردة فعلها وطبيعة تصرفاتها، ليتسنى لهم الاستفادة لاحقا بتطوير وسائل العلاج ورفع كفاءته، إن لم تحدث ردة فعل ايجابية، تكون بداية شفاء لها كما يتمنون ويرجون حدوثه.. فالجميع كان على أمل ورجاء من رحمة الله.

توقف الجميع، مع توقف خطوات الأطباء أمام باب غرفتها رقم: 22، كان يعلمه إبراهيم جيدا في زياراته.. هنا احتضن أولاده بذراعيه هامسا: هنا تقيم ماما حتى تنهى دراستها أحبائي.. فأومأت برأسها سلوى تصديقا لما أخبرتهم به صباح هذا اليوم...
 من الطارق؟ ردت نجوى على دقات تعرفها، وقد اعتادت عليها ..
 مفاجأة .. نحن حبيبتي، أجابها إبراهيم من خلف ظهر الأولاد اللذين اندفعوا مهللين يتصارخون ..ماما..ماما، يتزاحمون أيهما يصل أولا إلى حضن أمه.. كانت سلوى بعيون الحيرة، وشغف اللقاء وحرمان الأم، تندفع خلف الأطفال مباشرة، ترتقب بادرة الاشتياق من أمها لتأخذها في أحضانها .. تمسد شعرها.. تقبلها، تضمها إلى صدرها ..كانت تريد دفء وحنان الأم، الذي تتوق إليه بعد طول غياب.. بينما اتخذ الأطباء ناحية ليست بالبعيدة، يرقبون اللقاء بكل حيثياته، ويسجلون ملاحظاتهم.

********

ح (11)
اتخذ الأطباء مكانا قريبا.. يسجلون ملاحظاتهم بدقة وخبرة عالية.. كانت سلوى في هذه الأثناء تعانق أمها بلهفة عارمة .. بينما الأطفال يتشبثون بتلابيب ثوبها.. صراخ وهتاف ماما..ماما.. بكاء ودموع تنهمر من مقلتي سلوى.. لا تصدق بان ذراعيها تطوقان أمها في لقاء طال انتظاره..

في تلك اللحظات الحاسمة ..كانت أقلام الفريق المشرف تسجل: ذهول وفتور واضح من جانب الأم..نظرات غير مستقرة.. ردة فعل عادية جدا لا توحي بحنين واشتياق للأسرة.. مجاملات أشبه ما تكون رسمية لا تغطى الحدث المتوقع... كانت رؤوس أقلام كتبتها أيادي مختصة..قبل أن يغلقوا ملفاتهم ويمضوا خارجين.

بقيت الأسرة يتقدمهم إبراهيم بجانب نجوى.. التي بدأت تحكي لهم عن عالمها الخاص وروايتها التي توشك على الانتهاء.. وأحلامها بان يتلقفها منتج سينمائي لتصبح فيلما يمثله كبار الممثلين.. قطع حديثها إبراهيم:
 نجوى حبيبتي، أرأيت انهار وامجد كيف كبرا .. دوما يسألان عنك.. يريدانك معهم في البيت ..انظري إلى سلوى، عروستنا الجميلة كم تشتاق إليك ..
 نعم إبراهيم، شهور مرت ولم أشاهد أي منهم هنا؟..لكن لا باس، فقد عكفت على روايتي بهدوء ودون إزعاجات منهم !! تراجع إبراهيم إلى الخلف مذهولا من جملتها الأخيرة.. اصطدم بالكرسي، تماسك، التف حوله مصوبا نظراته إليها .. واضعا كلتا يديه على حافته كمن يستند عليه من هول إجابتها..كان الدكتور نصري مازال واقفا معهم.. يتابع بدقة متناهية دون أن يدون شيئا، فهو بمثابة الصديق لهما.. وهذا من أسرار العمل لحالات كهذه.

انتهى لقاء اليوم.. اصطحب إبراهيم أسرته عائدا بعد وداعهم نجوى..وفى الممر المؤدى لبوابة الخروج، نطق دكتور نصري بجملة قصيرة: سأتصل بك لاحقا باش مهندس.

استقبلتهم أم سعد بالسؤال عن صحة وأحوال نجوى..كانت متلهفة لسماع أخبار مفرحة..بخير إن شاء الله.. أجابها إبراهيم وهو يخفى عذابات اللقاء.. وهواجس المستقبل!

لاذت سلوى بالصمت مسرعة إلى غرفتها.. أقفلت الباب على نفسها..وأجهشت بالبكاء.. بينما اصطحبت أم سعد كلا من انهار وأمجد إلى غرفتيهما.. تغير ملابسهما وترعى شؤونهما ..وانسل إبراهيم إلى غرفة نومه.. والحزن باديا على وجهه.. والألم يعتصر قلبه.. حيث فقد الرجاء وأمله الأخير بشفاء زوجته .

رن هاتف المنزل.. كانت مكالمة طارئة من روان سكرتيرته الخاصة..تنبهه إلى أن هاتفه النقال مغلقا.. و تعلمه بوصول الوفد الفني الدانماركي غدا للاطلاع على الخطة وآلية العمل.. والإعداد لحفل التوقيع على اتفاقية تمويل اكبر مشروع وطني لتوسيع حوض السفن.. الذي انتهت كل دراساته وتصميماته.. شكرها وطالبها بحجز إقامتهم في أفخم الفنادق.. وبإعلام مساعديه بان يكونوا على أهبة الاستعداد لملاقاتهم غدا عند نقطة العبور البرية.. وبأنه سيكون على رأس الوفد المستقبل لهم بشكل رسمي.

شعر بصداع شديد.. وزحمة أفكار تضغط رأسه.. و برغبة شديدة لأخذ حمام ساخن.. والنوم ساعة زمن يرتاح فيها قليلا .. ليعيد تنظيم أفكاره.. وآلية تحركه على مستوى الأسرة وواجبات العمل.. مستذكرا همسات دكتور نصري له بأهمية عودته بعد غد.. ليتسنى لهم دراسة آخر الملاحظات.. وعمل التقرير النهائي لحالة نجوى..واتخاذ القرارات النهائية بناء على ذلك ؟

خرج مساءً للقاء آخر بصديق طفولته القادم من أمريكا.. في المقهى ذاته حيث تقابلوا جميعهم أول مرة.. كانت ضحكاتهم تعلو في كل موقف يتذكرونه من سنوات الطفولة والدراسة المدرسية.. يشاركهم إبراهيم بابتسامته المعهودة.. وقد ذكرهم بمدرس اللغة العربية.. وكيف كانت صعوبة دروس النحو، كأنها رموز هيروغليفية مبهمة.. أشبه باللغة الصينية، فقهقهوا جميعا.. ثم تناولوا طعام العشاء معا.. كان العشاء الأخير.. فقد كان لقاء وداع لصديق طفولتهم سامح قبل سفره عائدا إلى مهجره القسرى.. حيث لقمة العيش الصعبة.. المغمسة بالغربة والمعاناة.

عاد مسرعا للبيت فور انتهاء العشاء.. فالساعة تقترب من الحادية عشرة.. حيث حنان تكون في انتظاره..هذا اللقاء الذي يحتاجه الليلة بشكل خاص وأهمية بالغة.. بادلها الكلمات فورا:
 حنان.. احتاجك أن تكوني اقرب إلى أكثر من أي وقت مضى.. اهمس إلى قلبك الطيب: كوني بخير لأنك قلبي .. فدموع الفرح بلقائك تنهال منى الآن.. تغسل معها حنقا ويأسا وصخبا يجتاحني.. احتاجك يا مهجة الروح.. يا حبا اندمج في قلبي بكل سكناته ونبضاته.. فيدق هاتفا باسمك.. ويتغنى دوما بلحن حروفك ..هل تحبيني يا حنان؟؟ وانتظر يسمع إجابتها...

********

ح 12 (الأخيرة).
كان اللقاء مع الوفد الفني الدانماركي ايجابيا.. وهو يطلع مبهورا على المخططات والتصاميم.. وبارك البدء في تنفيذ المشروع الضخم.. الذي ارتبط انجازه باسم الباش مهندس إبراهيم.. حيث دأب وسهر وعانى مع فريق العمل شهورا طوال.. حتى يثبتوا للعالم قدرات هذا الشعب الأبي في الانجاز.. كما هو في الصمود والتضحيات.

تم توقيع الاتفاقية لاحقا بحضور وزير النقل والمواصلات من كلا الطرفين.. واحتفلوا جميعا بهذه المناسبة الكبرى والسعيدة.

في اليوم المقرر لميعاد اللقاء مع دكتور نصري وفريقه المتخصص.. كان إبراهيم يصارع ويواجه على الجبهة الأخرى اشد واعتي أنواع التحدي..فكان اللقاء وكانت الحقيقة..
 أهلا باش مهندس إبراهيم.. كان ترحيب الدكتور نصري وقد تحلق من حوله ثلة من مساعديه..وهو يُقلب ذاك الملف الأزرق المعنون برقم: 22 عنوانا للسرية التامة على أسماء النزلاء في أفخم مركز تخصصي، للأمراض العصبية والنفسية ..
 أهلا بكم جميعا.. لقد اتخذت قرارا ؟ أريد اطلاعكم عليه فورا؟
 تمهل باش مهندس أرجوك.. ولتستمع أولا للتقرير النهائي وتوصياتنا .. كن حليما، فنحن بصدد إخبارك بأمر هام لعلك لم تفكر به سابقا!
 تفضل دكتور.. سأستمع أولا..
 أجرينا تقييما معمقا.. ومراجعة شاملة وكاملة.. تحدثنا مع نجوى أمس.. وبناء على ذلك اتخذنا قرارا بعد أن تيقنا من الحالة وصعوبة الشفاء التام: بان تخضع نجوى لعلاج دائم مدى الحياة.. وستغادر المصحة في أسرع وقت.. وهناك كثير من التعليمات والإرشادات التي ستتبعونها في البيت.. على أن تبقى تحت رعايتك.. وخصوصا أم سعد المربية التي تعين الأسرة، ستكون المعين لها ولكم وننصح ببقائها دوما.
 ياااه غير ممكن ؟ مستحيل!!..
 كيف؟ ماذا تقول باش مهندس؟.. في هذه اللحظات بدأت العيون شاردة! تتلاقى فيما بينها على استغراب واستحياء وذهول!.
 لا يا سادة لا تفهموني خطأَ..أرجوكم، كنت أقصد هل من المعقول أن يكون قراركم هو نفس قراري الذي اتخذته أنا بالأمس! هذا ما كنت سأطالب به..فهذا تطابق مع قراري الذي وددت إعلامكم به في البداية.. خاصة بعد أن اتضح نهائيا عجز الطب الحديث في علاج هذا النوع من الأمراض المزمنة، والمستعصية على الشفاء. وما أن انتهى من تفسيره، حتى ارتاحت النفوس الحائرة، واستقرت العيون المذهولة، وتنفس الجميع الصعداء.
 ولكن ماذا بشان حديثكم إلى نجوى؟ أريد الشفافية الكاملة.
 نعم كان اللقاء هادئا.. وفى لحظات هدوئها واتزانها بفعل العلاج الجديد الذي وصلنا حديثا هذا الأسبوع.. حيث تطابق أخيرا مع وضعها الصحي والنفسي.. وقد أفصحت بكل شفافية وعفوية: بأنها لا تشعر بأمومة تجاه الأولاد كما السابق.. لكنها لا تنفر ولا تنزعج منهم، ولا تشعر بضجيج يمخر عباب رأسها.. و أفادت: بأنها تشعر براحة وتوازن كبيرين مع كورس العلاج الجديد.. لكنها تعانى من تدهور شديد في استجاباتها كأنثى ..بمعنى أدق، لا تفكر باحتياجاتها معك! أو مع أي رجل آخر.. فلست أنت المقصود هنا.. وهذا ناجم طبعا عن نوعية العلاج الجديد والفعال والذي سيواكبها مدى الحياة .. فلكل ايجابياته وسلبياته.. وبوجه عام وهذا معلوم لدينا سابقا بان الحالة المرضية المتقدمة قد أفقدتها الرغبة في لقاءات زوجية حميمة..تفهم قصدنا طبعا باش مهندس.
 نعم أتابعكم.. وأتفهم ما تقولونه..يُشعل سيجارته، يأخذ نفسا طويلا، يخرجه ببطيء.. يستدرك قائلا: لكن وضعها النفسي والسلوكي مع الأسرة كيف سيكون؟ ما يهمنى هو حالة الأسرة كلها.. وانعكاسات وجودها لاحقا؟
 لا تنزعج، سيكون سلوكها بشكل ملائم وعادى.. ومسيطر عليه بفعل العلاج الجديد الناجع.. وستسير الأمور إن شاء الله على خير ولكن: متابعة دقيقة للعلاج وعدم التقطع فيه أمر في غاية الأهمية وهى احد تنبيهاتنا الصارمة.. وهناك خبر مفرح فنجوى الآن تأخذ دوائها بنفسها.. فقد عاد التوازن إليها.. والثقة بنفسها وهذا هو الأهم .. لقد عرفت أخيرا بمرضها.. وتناقشت معنا أمس.. وهذا مؤشر نجاح العقاقير الحديثة بعد تتبع لحالتها على مدى الشهور الماضية.
 حمدا لله..كم أنا شاكر لكم ما صنعتموه، وهذه الجهود المضنية والمتابعة الحثيثة عبر شهور طويلة..
 لا باش مهندس.. هذا عملنا، وهذا قسمنا..وهذه فرحتنا، لكن: لا يكتمل الحلو كما يقول المثل فهذه سنة الحياة والأقدار المكتوبة على الإنسان!!

خرج إبراهيم مستبشرا.. والراحة تغمر كيانه.. وبشائر لم شمل الأسرة مع أمهم قد أعاد البسمة إلى وجهه..لم ينتظر وصوله للبيت.. هاتف ابنته سلوى بالأمر.. وطمأنها بان أمها ستكون في وضع جيد.. ولن يأتيها شعور الانزعاج أو الضيق أو عدم الاكتراث واللامبالاة الذي رافقها سابقا..وهى متفهمة جدا لوضعها الآن.. وتعرف الكثير عن نفسها وهذا انجاز كبير بنيتي.. أجهشت بالبكاء من الفرحة.. وبصعوبة كانت تخرج كلماتها مرحبة بأمها قائلة : سنكون جميعا يا أبتي في خدمتها.. وأي شيء تحتاجه سنكون إلى جانبها.. وستعود البهجة إلى البيت بوجودها ..
 نعم حبيبتي، ستعود البهجة أخيرا إلى البيت.. لنستعد لاستقبالها بعد يومين إن شاء الله.. أبلغي أم سعد أن تعمل على إعداد غرفة النوم المغلقة وتنظيفها.. فانا سأحضر اليوم غرفة نوم جديدة تليق بها وبمكتب خاص كما تحب.. و ستكون جاهزة هذا المساء.. فنجوى ستكون سعيدة بالنوم وحدها كما هي رغبتها بنيتي!! وهنا تنهمر دموعه حارقة.. وقد امتزجت بالفرح والألم! حيث أخفى الجانب العاطفي المفقود عندها، واحتياجاته الطبيعية كرجل.. وأحقيته بالتمتع في الحياة.. فليس المجال لذكرها لابنته في هذه الأثناء.. فقد كان تركيزه على سعادة أطفاله ومستقبل أسرته في المقام الأول.

في لقائه ليلة أمس مع حبيبته حنان.. كان قد سألها: هل تحبيني يا حنان ؟؟ فكانت إجابتها البلسم الذي أضاء له طريقه.. وسط صخب ما يزال يعصف بروحه وقلبه..
 احبك ..! ألازلت تسألني؟ ألا تشعر بفتونى بك ؟ ألا تشعر بجنوني بك ؟ احبك..! لا تكفي كلمة احبك.. لا تكفي أبدا كل مفردات الكون.. لا تستطيع أن تعبر لك عن مشاعري وأحاسيسي تجاهك.. أنت الماء الزلال في صحراء عمري .. أنت الدفء الذي يسكنني بالحنان والأمان .. أنت تسري في عروقي كدمي .. أنا لا أتنفس إلا إياك.. ولا أعيش إلا بك.. ولا أرى سواك.. ولا أريد سواك ..احبك؟ تسألني إبراهيم إن كنت احبك وأنت النبض في خافقي وأنت كل كياني ووجداني.. وأنت فكري وأمنياتي.. وأنت حلم عمري الذي لم اصدق إني وجدته أخيرا ..تسألني هل احبك ؟هل ستكفي هذه المفردات لتعبر لك عن حبي..احبك نعم .. وأذوب فيك وانصهر في حناياك حتى آخر أنفاسي .

أسدل الليل بساتره .. وتسلل النعاس إلى الجفون..وأغلق كل منهما حاسوبه.. وقد قاربت الأمنيات من بوح صريح لأحلامهما .. بوح تشتاق القلوب العاشقة إلى سماعه..فلا عوائق نفسية أو معنوية أو مادية ستقف حائلا بينهما.. حيث سيكون لاحقا تجسيد الأحاسيس والشعور بالحب الصادق والعواطف الجياشة إلى حقائق دامغة.. رسمت الأحداث الصاخبة نهاياتها.. و بانت واضحة وضوح الشمس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى