الخميس ٣١ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم رندة زريق صباغ

ليس بالحبر وحده ...نكتب!

عندما تصغر الكلمة...وحين يتحوّل الحرف إلى رمز ضعيف مسكين وحين تكون حالة الغربة التي تعيشك كما التي تعيشها، أكبر من التعبير عنها بالكلمات...قد يخجل قلمك من أن يكتب...
يفضّل الحبر أن يجفّ ويختبئ بداخله...فليس هناك من مجرى نظيف يستوعب ما ينضب به فيفضّل أن يحتفظ به لنفسه....وحين تدرك أن رشة الملح التي دأبت على رشها في كل وجبة تقدمها فقدت نكهتها وبالتالي قيمتها...

وحين يتعفّن خبزك ويفقد طعمه ورائحته الأصلية و الأصيلة،حينها ....فإنّك تفضّل أن تمتنع عن الإتيان بأيّة حركة كي لا تفسّر الأمور خطأ من جهة وكي لا تتشوه العبرة بقصد أو غير قصد ،وكي لا تسقط العبرة في غير مكانها...

أوقعت نفسك في هذه الدوامة مدة سنتين،واقتنعت بأن لا حياة لمن تنادي ،وليس هناك من يهتم لما يكتبه الأدباء الكبار فهل سيهتمون لما تكتبه أنت؟

لكن ها هو الواقع يؤكّد لك العكس، وأن هناك وقعا ولو خفيفا لما ترغب بطرحه... وصدى أقوى من الذي تصورته... تكتشف من جديد أن هناك من يقرأ وأن هناك من يحب أن تكتب وان هناك فعلا من يقرأ ويستمتع بل يستمدّ الكثير من الكلمات... وما يختبئ بين الكلمات....
ها أنت ذا تكتشف أن هناك من لا يزال بحاجة لما تقدر على إعطائه...

وأن العديد من الأشخاص مستعدون لمدّك بالفكرة أو القصّة فتصوغها بأسلوبك الخاص...
عدت لتكتشف من جديد أن الملح لا يزال محتفظا بقدرته على إضافة طعم مميز وإعطاء نكهة حلوة وحارة في آن معا لأطباقك الخفيفة والمغذّية...عدت لتكتشف أن خبزك لا زال يتمتع برائحة التنور المميزة وطعم خبز جدتك الذي تحن إليه...

وأما الحبر فانه يستمد قوته من كل ذلك محوّلا الحالة التي تراها وتعيشها إلى كلمات تجد مكانا لدى البعض، يتعايش و الحالة... فمشابهة هي لحالته أو لحالة أحد أقاربه تساعده في التّماهي والرغبة المؤقتة -على الأقل- في التغيير...بطبيعة الحال فان القارئ يصيد ما يستهويه ويمده في أزمته المناسبة ...

يكون الامتحان الأول لمعظم ما تكتب أمام أصدقائك ومعارفك ،تتمنى من الصميم أن يكتشفوا ما لوحت به وأن يكشفوا لك ما أكملوه بالتخمين الذي لا يخلو من إسقاطات وتداعيات ذاتية وجماعية....

رغم إدراكك لهذه الحقيقة إلا أنك تكذب على نفسك إذا ادعيت أنهم –أي أصدقاءك-هم الذين يمنعونك عن الكتابة أو يدفعونك اليها...مهما أثنوا على كتابتك أو مهما أحبطوا من عزيمتك...أنت مربوط بالكتابة وهي مربوطة بك...فالأمر ليس متعلقا بعناصر خارجية،الموضوع شخصي وحالة الكتابة ذاتية محضة...تعيشها وتعيشك...قد تخبو الشعلة أحيانا لكنها سرعان ما تعود للاشتعال بمجرد ملامسة أول نسمة تعيدك للحياة...مع ذلك فانك كما الأطفال تحتاج وتريد الحنان...تريد اهتمام من حولك بك...والقراء بما تكتب...فبك عطش مشروع لتقديرهم وحبهم لك...فبه ومن خلاله تكمل المشوار بشكل ناجع أكثر وأفضل....

تدرك أنه نظرا للأوضاع الاقتصادية والثقافية الراهنة ليس هناك من يقرأ خاصة في المجتمع العربي إلا في محيط ضيق قد يخجل الكتاب والمثقفون حتى من الاعتراف بمقداره....كما أنك تعي تماما بأننا ضحية العلاقات والأهواء...وبان الساحة مفتوحة الآن لكل من انضم زورا وبهتانا إلى قافلة الفن والفنانين...وان صورة أنثى على غلاف أو فضيحة لأحد المشاهير قد تكون سببا في تسويق مجلة وحتى كتاب...وأن الراقصات والمغنيات معروفات أكثر من أي كاتب أو كاتبة...ورغم ذلك تعود للكتابة وقد تحترق ريثما تنهي روايتك أو إصدارك....ليبقى السؤال مجلجلا في كيانك:ترى لماذا كل هذا الجهد؟لماذا نحرق أنفسنا لنغير في واقع لا يبالي...ولن يبالي؟في مجتمع أضاع البوصلة؟

أي سؤال هذا؟فكأنك قادر على إيجاز أسباب متنوعة، متعددة وشائكة في إجابة واحدة... فكأنك تنسى أن شرف المحاولة يكفيك ويغني روحك... كما لو أنك تتساءل ترى كيف ولماذا نحب أحباءنا؟

ها أنت ذا تدرك الآن بوعي تام انك تكتب لتقاوم الموت....الموت العام الذي يغيّب الزمان وبعضا من المكان... يغيّب الشخصيات والذكريات...العواطف والروائح...
وها أنت ذا تعي بادراك تام انك تكتب لتقاوم موتك الشخصي الذي هو قادم لا محالة..ذلك الموت الذي تقربك إليه حركة وحرارة حياتك نفسها فتحرقك بلهيبها عاجلا أم آجلا...فبالكتابة تتحدى الموت...وبالكتابة تثبّت وتثبت التجلّيات المتحركة للحياة فتصل بها الذروة والنهاية ....أو بالأحرى اللا نهاية الحتمية...

تقرر أن تكتب حتى وان لم يقرأك أحد في زمنك هذا...فكما لو أنك تكتب لزمن وزمان غير الزمان...ولعبق مكان غير المكان...ولأناس ليسوا موجودين...لكنك أكيد بأنهم كانوا يوما أو سيكونون...فأنت تريد...أشخاصا غير هؤلاء...وباختصار تدعو لدنيا غير الدنيا وحياة غير الحياة التي تعيشها ويعيشها مجتمعك...تريد واقعا غير الواقع...وإيقاعا غير الإيقاع....ترنو لكل هذا باسم الحياة والإنسانية...لا باسم الهروب منها...والخروج عن طبائعها...وطبيعتها
تعرف أنت بأن ما يبقى من الزمن هو صورة...أو ذكرى....قد تكون صادقة كما قد تكون مخادعة كاذبة تسعى لأن تغشنا...تدرك أنت بان الصورة أو الذكرى هي ليست الواقع ...لكنك تعي بأنها قد تكون جوهره ...أو قد تكون تزييفا لحقيقته....وهكذا يستمر الصراع في داخلك أنت تحديدا...وقد تقع في تلك المصيدة...مصيدة الصراع بين الصدق والكذب...بين قول الحقيقة والتزوير...بين الجوهر المستتر والظواهر العابرة المرئية....فماذا أنت فاعل؟

تختار الخيار الأول فهو ما تربّيت عليه...الحق ولا شيء غير الحق والصدق....وفي خضم تصويرك لروح الواقع وتدوينك لصوت الزمن...تدرك أنك وبشكل مقصود أو لا مقصود... تستعرض وقد تصحّح....تشذّب وقد تجمّل ... تصقل وقد تروّض....فماذا أنت فاعل؟ما عليك سوى تحمّل المسؤولية كاملة عن كل ما كتبت...وما قد تكتب....والأعظم أنك ستتحمل أيضا المسؤولية عن كل ما لم ولن تكتب....فيكفي أنّ بنت أفكارك ولدت في رأسك...ويكفي أن المبادرة قد تشكّلت في ذاتك...لتصبح ذا مسؤولية أمام نفسك بالدرجة الأولى وأمام كل من حولك بالدرجة الثانية...

عندما يلتقي وعيك المدرك بإدراكك الواعي في آن معا....فان الغربة قد تملأ ذاتك وروحك...وبالتالي قد تشقى ويحبطك الواقع الموجع، لكن سرعان ما تتدارك الأمر وتعيد الحياة إلى روحك...والروح إلى حياتك...تعيد النبض إلى قلمك فيعاود ضخّ الحبر من جديد....تزيل العفونة عن خبزك فيستعيد رائحته المحببة التي تأخذك إلى عوالم أرقى وأسمى...فإذا بك تستذكر الملح...تتناوله وترش منه رشة على الجرح...على أمل أن يتطهّر فيظهر الفرح....
وها أنت ذا تعود من جديد لتتعايش مع واقعك وتصقله من خلال..
الخبز....الحبر....والملح


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى