الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم مريم الهادي

الجريمة

أطلقت صرخة ألم وتفجع ضجت لها أروقة المكان وكشفت عنها سُدف الزمان، اجتمع الجميع عند تلاحم الغيوم، وظهور البوم. تشرب الهواء الروح.

يحاول الجميع التخفيف عنها، وتذكيرها بالله وحثها على الصبر والتجلد أمام مشيئة الله، فهذا درب مسلوك من الجميع مهما طال الزمان. ظلت تصرخ وتلطم وجهها ولم تهدأ إلا عندما أخذت إبرة المخدر.

فتحت عينيها بعد يومين بصعوبة منهكة القلب، خائرة القوى، وما هي إلا هنيهة لتعود تتذكر الفاجعة وتعود إلى الصراخ واللطم، استمرت على هذا الحال قرابة الشهر أو يزيد، كل من في المستشفى متعاطف معها، يحاول أن يخفف عنها، ولكنها استمرت في رفض الطعام ولجأت إلى الصمت المطبق، لم يترك المحيطون بها وهم قلة ولا الأطباء من وسيلة إلا بذلوها ليخرجوها من صمتها وإعادة ملامح لحياة إلى وجهها الشاحب، لكن هيهات .. هيهات.

مرت الشهور الست دون أن تنبس ببنت شفة، أخرجها زوجها إلى البيت لتعود إلى ذكريات منسية، وأحداث مطوية، لتتجدد الأحزان وتعود الأنهار تحتل مكانها البارز في الوجه، ولكن هذه المرة بلا صراخ. كل من رآها لم يصدق أنه أمام نعمات تلك الشابة المنطلقة المتمردة، التي لم يسلم أحد من لسانها وأذيتها، كأنهم أمام مثال حي ناطق بأن الله يمهل ولا يهمل، أصبحت لهم عظة فيما حدث لها، وإن كانوا متباينين في ذلك ما بين ساخرٍ وشامتٍ، ومشفقٍ وداعٍ .. لكن اجتمعوا على شيء واحد وهو التساؤل عن مصدر هذا الحزن العميق الطويل الذي يبدو عليها؟ فكل واحدٍ منهم فقد غاليا ولكن لا أحد مثلها في حزنها.

مرت سنة واثنتان وهي على نفسِ الحال من دمعة تطفر بين حين وآخر، وصمت كصمت الجبال، بدأ المحيطون يعتادون على وضعها، وانصرف كل إلى حياته إلا جارتها الوفية سماح التي لم تزل تقوم بكل أمورها؛ فهي امرأة أرملة رحل عنها زوجها منذ خمس سنوات، لم يرزقها الله الولد ولا حظ من الجمال، كأن الله عوضها عن ذلك بهذه الجارة المكلومة.
سماح تطلب إلى زوج نعمات أن يظل بجانبها إلا أنه يتحجج في كل مرة بأمر ليأتي ذلك اليوم لتقول له محتدة: يا عوض إن حزن الدنيا قد تجمع بين عيني امرأتك، وأنت لاه بعملك ولا تهتم لأمرها.

وماذا تريدين أن أفعل؟ فما أقوم به هو لأجلها.

كيف يكون لأجلها وأنت لا تنظر إليها ولا تسأل عن حالها أبدا.

إنني ألقي عليها نظرة عندما أعود من العمل، وكذلك عندما أخرج.

أو تكفي في اعتقادك؟

ماذا تريدين أن أفعل؟ أتريدين أن أجلس إلى جانبها وأفعل مثلها؟

لا يا سيدي ولكن هي زوجتك.

أوه زوجتي ..!! إني قد نسيت فعلا .. !! ما هذا الهراء يا امرأة ، أعلم أنها زوجتي.

إذن قم بمسئوليتك تجاهها.

ألا ترين أنك تتدخلين فيما ليس من شأنك.

بل هو من شأني، فهي كأخت لي ، وأنت تعلم مقدار تضحيتها من أجلك.

تلعثم عندها وقال محولا عيناه إلى النافذة: ما دمتُ إلى الآن لم أتزوج عليها ومتحملا لما هي فيه من الهم والغم الذي جرته إلى حياتنا فهذه هي التضحية بعينها.

أرادت سماح أن تكمل كلامها، إلا أنه أسكتها بإشارة من يده ورصاصة من فمه: إما أن تبقي وأنت ساكتة ولا دخل لك في أمورنا، وإلا فعودي إلى بيتك..

جلست سماح على تلك الأريكة الحمراء القديمة في الزاوية اليسرى من الغرفة ضامة رجليها إليها، وهي تقول لنفسها: كيف لي أن أترك نعمات وهي في هذه الحالة، لقد عوضتني عن الحرمان، مسكينة إنها كطفل يحتاج إلى الرعاية، وإن عدت إلى بيتي فمن لي؟

تلمح سماح عوض يتأنق وهو خارج المرة تلو الأخرى. وذات يوم أتى وجلس أمام نعمات، التي ما إن رأته حتى احمرت عيناها وانتفخت أوداجها وعلت أنفاسها واضطرب جسدها، وطاشت حركاتها، حين رأت سماح هذا الوضع أخذت تخفف عنها وتحاول تهدئتها، وعوض جالس في اطمئنان ثم أخرج سيجارة وأخذ ينفثها في الهواء بتلذذ يثير الحفيظة، وتستمر نعمات في اضطرابها، لم تفلح محاولات سماح فطلبت إلى عوض أن يخرج حتى تهدأ، ولكنه ابتسم بنصف فم ليقول: هذه المعتوهة التي تفور بين يديك هي طالق بالثلاث. عندها ازداد هياج المرأة وأخذت تضرب بكل ما تصل إليه يديها ضربات طائشة، نهض وأخذ يضحك ويقهقه، وخرج وصوت ضحكاته تملأ المكان.

لم تهدأ نعمات وعادت إلى الصراخ المكلوم والدموع الحرى، وتستمر محاولات الجارة للتخفيف عنها بلا فائدة بل زاد الأمر سوءا، ولم تعد تستطع أن تتركها لوحدها خشية أن تفعل في نفسها شيئا، بالأمس ضربت رأسها بالحائط حتى سالت دماؤها، وقبل يومين ضربت يدها بحافة الكرسي الحديدية لتقطع وريدها، حاولت سماح أخذها إلى المستشفى ولكنها لم تستجب لها، طلبت من أقربائها أن يفعلوا شيئا إلا أنهم تملصوا الواحد تلو الآخر، ووجدت سماح نفسها وحيدة مع شبح الحياة الذي كان فاقدا لكل شيء!! جلست تقرأ عليها بعض آيات القرآن التي حفظتها منذ زمن من أطفال الشارع حين كانت تسترق النظر إليهم متشفقة وهم يلعبون، وتوزع عليهم الحلوى في المناسبات، فكانت تسمعهم يقرؤون هذه الآيات فتحاول أن تقلدهم فتنطلق ضحكاتهم عالية ويقولون أنها ستدخل النار لأنها تقرأ خطأ؛ فتنتفض وتتطلب إليهم تعليمها حتى لا تدخل النار. تهدأ نعمات كلما سمعت هذه الآيات القصيرة وتستكين مع اللمسات الحانية التي تغدقها عليها سماح.

استيقظت سماح على صوت يناديها فاستوت جالسة منصتة وتساءلت إن كان هناك أحد غيرها ونعمات في البيت، لوت فمها متعجبة ثم استعاذت بالله ونهضت لتغسل وجهها، وما إن بلغت الباب حتى شهقت شهقة عالية، ثم رجعت إلى الوراء وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وعيناها في قمة رأسها وأطرافها ترتعش وركبتاها لا تقوى على حملها، وأمام جحافل الخوف التي هجمت أغمضت عينيها باستسلام.

لم تدر كم مر من الوقت ولكنها أحست بالفراش تحتها، فتحت عينيها ثم تذكرت ما رأت وعادت تغلقهما بسرعة، فإذا بيد تحركها بلطف وتناديها: سماح، سماح افتحي عينيك أيتها الوفية.
نبرة الصوت تعرفها تماما ولكن يستحيل أن تنطلق في هذه الأوضاع، مازلت تشعر باليد الحانية تحركها، ولم تستطع أن تفتح عينيها وكل ما فيها يضطرب ويصطفق.. أخيرا سمعت خطوات تبتعد، ففتحت عينيها لترى ظهر ذلك الشخص، ولكن استبعدت أن يكون هو، ودارت دوامة عاصفة في رأسها: هل الشياطين تظهر بالنهار؟! ألا تخشى القرآن؟! هل يستطيع البشر أن يروها؟! هل تتمثل في صورة الأحياء؟! .

أُغلق الباب جلست واضعة يدها على رأسها لتغرق في لجة التساؤلات والفرضيات، مر الوقت سريعا.. فإذا هي وجه لوجه أمام الشيطان، أرادت أن تصرخ، ولكنه وضع يده على فمها مسمّيا عليها قائلا لها: ما بك لم أعهدك بهذا الجبن!! أيعقل أنك لم تعرفيني؟ ثم سحب يده عن فمها ظلت عيونها معلقة ولسانها مستمر بالقراءة، فإذا به يبتسم، وهي تغرق في رعبها!! أحست بيده تحركها بعنف هذه المرة ويطلب إليها ذكر الله، والعودة إلى الواقع. تجرأت نظرت مباشرة إلى الوجه غير مصدقة، إنه يشبه إلى حد بعيد نعمات!! أيعقل أن تكون هي؟ وتعود لتنفي ذلك بسرعة إلا أن من كان أمامها أكد أنه فعلا نعمات، إذن ليس شيطانا ولا زائرا من كوكب آخر! مدت يدا مرتعشة إلى الوجه لتتأكد من وجوده وأنها لا تحلم، حين تأكدت من ذلك طفرت الدموع غزيرة من عينيها لترتمي في أحضان الشيطان كما توهمت ..!!

شفيت نعمات وعادت إلى الحياة، وسماح إلى جانبها ترى بين فترة وأخرى دمعة متمردة عابرة مساحة الخد.. إن نعمات لم تشفَ تماما هذا ما يبدو من شكلها، وإن أكدت لها دائما أن عينها تؤلمها وحين تطلب إليها الذهاب إلى المستشفى فالحجج لا تنتهي.. سماح ليست غبية فتنطلي عليها ما تقوله نعمات وتحاول أن تؤكده.

ذات ليلة استيقظت على صوت بكاء مكتوم فنهضت لتستبين مصدره فوجدته صادرا من نعمات التي تشاركها في الغرفة نفسها بعد أن تركت بيتها وسكنت معها دون أن تبرر لها ذلك، مع أن بيتها أكبر وأجمل من هذا البيت الحقير!!

هزتها برفق تسألها عما أصابها فإذا بها تنهض وتتعلق برقبتها وتبكي بكاء مرا مزلزلا، حولت أن تخفف عنها، لم تفلح، تركتها تبكي وهي تشاركها في ذلك إلى أن هدأت دموعها وسكنت أنفاسها، وسحبت الطوق عن عنقها، ذهبت وأحضرت لها ماء وجعلتها تشرب منه، وغسلت وجهها بالباقي، وأخذت تنظر إليها مشفقة منتظرة ماذا ستقول؟

رفعت نعمات عينيها إليها ثم قالت: أعلم أنك تتساءلين عما بي؟ هزت سماح رأسها ولم تجب.
 إن من أمامك لا يستحق نظرة عطف منك ولا من سواك، إن يستحق أن يداس مع أحقر المخلوقات، وإن كانت لتحتج وتندد بذلك، وستُطالب بالإنصاف من الخالق بعد أن فقدته من المخلوقات!!

نظرت سماح إليها في دهشة وقالت لها: لا تقولي ذلك يا أختي ..

قاطعتها قائلة: إن الجريمة التي ارتكبتها أكبر من تصور البشر، كل يعتقد إني ملاك سليط اللسان.

همت سماح أن تفتح فمها إلا أنها أسكتتها بإشارة من يدها

دعيني أتكلم لا تقاطعيني أرجوك فأنا فعلا لا أستحق منك اهتماما أو رعاية، كان حقي أن أرمى للكلاب!! .. وإن كنت أشك أنها ستتسمم إذا أكلتني وستدخل النار !!

سماح بتعجب: لمَ كل هذا يا صديقتي وأختي وحبيبتي؟ لقد قمت بتضحيات جليلة لأجل زوجك وطفلك. لمَ تقولين هذا الكلام؟! صحيح أنك سليطة اللسان، طائشة اليد، ولكن هذا لا ينفي أنك إنسانة طيبة القلب.

ضحكت بتهكم: نعم طيبة القلب، أتعلمين كيف ترجمتُ ذلك؟ أجيبيني أتعلمين كيف ترجمت ذلك؟

ماذا دهاك الليلة يا نعمات؟

أجيبيني فقط

نعمات كل إنسان يرتكب حماقات وأخطاء وليس هناك إنسان كامل، فاستعيذي بالله واستغفريه إن كنت مصرة أنك مُذنبة، وعودي إلى النوم.

كيف تغمض عينٌ قتلت نورها؟! كيف يستكين قلبٌ قطّع أوردته؟! كيف ترتفع هامة دُقت فقراتها؟!

الله يهديك ويصلحك، ما هذا الكلام في هذه الليلة المظلمة؟! سأنهض لأشعل النور.
إن النور لن يجدي، لن يزيل سُدف الظلمة عن نفسي، لمَ تنظرين إليَّ هكذا؟! أتريدين أن تقولي أنه أصابني مس من الجنون، يا ليت أن ذلك كان صحيحا، ليبعدني عما أنا فيه. إن سفينة الروح السوداء تأبى أن تلج إلى بوار الجسد، إن حربا ضروسا ستقوم بينهما ولن تنتهي إلا باختفائي من الوجود.

باسم الله الرحمن الرحيم، ما هذا الهراء، سأخرج يبدو أن السوداوية مخيمة عليك، اذكري الله ونامي.

أمسكت بأثوابها راجية دامعة: لا تتركيني لن أحتمل أكاد أختنق، إن ما بين السموات والأرض مطبق على أنفاسي. اسمعي إلى ما سأقول، أتذكرين العمة مبروكة التي حدثتك عنها التي كانت تسكن إلى جوار منزل العائلة في الروضة؟!

ما الذي ذكرك بها الآن؟ كنتِ تكرهينها، وتحقدين عليها.

أتعلمين لمَ ذلك؟ لأنها كانت تعلم حقيقتي، الكل خُدع بي، إلا هي كانت نظراتها تجردني تعريني، كأنها كانت تنظر إلى روحي الملوثة، ثم تشيح بوجهها عني.

لا إله إلا الله، ما أطول هذه الليلة.

أرجوك اصبري واسمعيني، أنا من قتل ولدي من أجل زوجي فخسرت لحمي، وفسد دمي!!
تنظر سماح إلى السماء: إن لله وإن إليه راجعون، كنتُ أعلم أنك لن تخرجي من مرضك بسهولة وهاهي الأمور تتجلى أمامي.

نعم، قتلتُ ولدي لأني أردت أن أكسب زوجي، تعلمين أن ولدي كان معاقا لا يستطيع أن يتحرك يتابع بعينين .. ثم أجهشت ببكاء مر، اقتربت منها سماح وأخذت تمسح على رأسها ثم ضمتها إليها، انتزعت نفسها بقوة لتقول:

أطفئتُ نور عينيه، هشمتُ ابتسامته الوادعة بيدي هاتين..إني مجرمة قاتلة.

هدئ من روعك، إن ما حدث كان مقدرا.

قدرا أتى على يديّ.

لا تكفري، اذكري الله.

إني فعلا أرجو أن يُغفر لي، مع أني لا أستحق ذلك. كان ( عاطف ) يحمل براءة الدنيا بين جنبيه، فضنيت بها عليه، أتعلمين أنه ليس ابن عوض؟

ظهرت الدهشة على محيا سماح وإن كانت لم تفارقها أصلا.

لا تندهشي، فقد أخفيت هذا الأمر عن الجميع، توفي أبو عاطف بعد شهور قليلة من زواجنا فحمدت الله على ذلك فقد كنت كارهة له، حاقدة عليه.

استغفر الله.

لا تقاطعيني، إلا أن الله انتقم مني وزرع في أحشائي ابنا له، فمادت بي الدنيا واسودت، ولعنت كل شيء لم أستثني أحدا من ذلك.. فقد أفسد علي هذا الحمل كل شيء، فقد كنت مخططة أن أعود إلى عوض حب الطفولة والمراهقة الذي لم يغب خياله عني، وبهذا الحمل اللعين فسُد كل شيء، حاولت التخلص منه بشتى الطرق إلا أن مشيئة الله نافذة، وخرج إلى الدنيا، لو تجتمع كل كلمات القواميس والمعاجم على ترجمة مشاعر الكره والبغض الذي أحمله له حين أتتني الممرضة تبشرني به وتحمله لعجزت، ولو وزعت على مخلوقات الأرض لتناحرت، فكان طبيعيا أن لا ألتفت إليها أو إليه، كان معاقا ضعيفا ولكن على شفتيه ابتسامة وادعة.
خرجتُ من المستشفى ولم أعد إليه، وأخرجته جدته مرضية وسمته ( عاطفا ) ولد محروما فكيف يمكن أن يعطي ما حرم منه ويعطف على من حرمه؟!! أترين المفارقة؟!

لم أكن أمّا كسائر الأمهات، بل إن أمهات الحيوانات والهوام لتحن على أبنائها، وأنا لم يتحرك لي جفن لهذا القادم الممقوت قبل ولادته، والمهمل بعدها. إني لست إنسانة بل شيطانه، تركته لأجل نفسي وملذاتي؛ شتان بين ما قمت به وما قامت به جدته التي اعتنت به رغم سنواتها السبعين وكتبت كل ما تملك وما تركه ولدها أبو عاطف له، وحرمتني من نصيبي، طبعا ثرت وغضبت ونددت، نعم، تجرأت على ذلك فلم يردعني دين أو خلق، أصلا لم أكن أملكهما ..!! فطالبت بحقوقي، ووقف أهلي للأسف في صف الجدة، وتغيرت معاملتهم لي خصوصا حين ضربت بكلامهم عرض الحائط واستمريت على الخروج مع عوض إلى أن طردت من البيت..
قطعت كلامها شهقت من سماح: طردت من بيت أهلك؟!!

لم يكن يهمني أحد في هذا الكون الواسع إلا عوض، هو مدار حياتي وسر سعادتي وهنائي، قررت أو بمعنى أصح قرر ووفقته على الخروج من المنطقة وفعلا خرجنا وأجرنا بيتا.
أشارت بيدها وقالت: أتقصدين بيتك هذا؟

نعم، عوض يعلم أني كارهة للطفل، ولجدته وكل ما يربطني به، فأشار عليّ أن أخذ الطفل وأرعاه فإنه لن يعمّر طويلا وسننعم بما تركته له عائلته، راقتني الفكرة الدنيئة إلا أن الجدة طردتني، وقالت: أنتِ لم تسألي عنه ورميته، والآن تريدينه؟! فقلت لها: إنه ابني وأريد أن يكون معي. لترد عليّ بحدة وصوت مبحوح: منذ متى؟ يكفيك عوض، فأنت غير جديرة بأن تكوني أما، بل .... استغفر الله.

ولكني لم أيأس، ولم أكترث إلى كلام الناس وتغامزهم وتهامسهم عندما أمر بجانبهم، فالتحالف مع الشيطان يجعل المجرم قويا مستميتا ..!!

لا أصدق ما تقولين، أشعر أني في حلم مزعج، أو كابوس مخيف، أنتِ تهذين أليس كذلك؟!
للأسف، فأنا أكبر مجرمة، عندما استقريت في هذا البيت خلعتُ كل ما كان يربطني بسيرتي الأولى إلا طفلي الذي قررتُ أن أخذه مهما كلفني الأمر، أتدرين شيئا ؟ الشيطان حينما يتعاقد مع إنسي أكثر شرا منه فلا يستطيع أحد منعه، وقد ساعدتني الظروف أيضا فقد مرضت الجدة ولم تعد تستطيع الصمود أمامي، أخذت الطفل لأتفنن في تعذيبه، كنت أعتقد أنه سيعيش يوم أو يومين وبالكثير شهرا وخصوصا أنه يعاني من إعاقة شديدة مع ما تحمله من مضاعفات، ولكنه لم يمت منعت عنه الأدوية، ولم يمت!! غضب عوض وقال: إن هذا المعاق يقف في طريق سعادتنا وأحلامنا وحبنا، وبدأ يتغيب عن البيت وحينما أسأل عن السبب، يتحجج بالطفل الذي يتلذذ في تعذيبنا وحرماننا من السعادة، إنه ليس طفل بل شيطان!!
أمام حبي الكبير لعوض، وكرهي الشديد للطفل، سعيت لإرضائه فكتبت له وكالة بها يستطيع أن يتصرف في أملاكي وأملاك الطفل، وزدت من جرعة التعذيب فلا أكل ولا شرب ولا دواء ولا نظافة، بدأت البكتيريا تغزو جسده، الحشرات تتجمع حول رأسه وفمه ورقبته المتورمة من شدة قرصها، وذات يوم صحوت ورحت أطمئن على موته..!! لقد كنت فعلا أستاذة للشيطان، كان بالنسبة لما أفعل تلميذا بليدا. رأيت النمل في عينيه وهو ينظر إلى بعين كيف لي أن أصفها لكِ؟ كلما تذكرتها تميد بي الأرض وتضيق على اتساعها..

ثم أجهشت في البكاء الحارق المدمر، سماح هذه المرة لم تخفف عنها، فقط نظرت إليها بعينين مذهولتين وفم مستنكر، ولكن دون نطق.ولما هدأت قليلا عادت لتقول: عندها شعرت إني أسمع من يقول لي أيتها .... كيف لك أن تنعمي بالحياة؟! قتلت سرها؟!! إذن لن تجديها، المرارة هي شرابك من الآن ستترشفينها حتى الثمالة، نعم، ستسكرين ستدفعين ذلك غاليا، وغاليا جدا. انظري إلى عينيه وفمه ووجهه وجسده، كيف مثلت بها، اهنئي بالنعمة يا نعمات!! ابشري بسياط القلب المجنونة، وتطويق الروح بفضلات الديدان ونخر العقارب..!! استمتعي بالحب والسعادة في كنف عوض عندما يدخلك النفق ..!! كيف يمكن لمن استأصل روحه أن ينبض قلبه أو أن تستكين نفسه، سيشرب كؤوسا مترعة بالألم والحسرة .. لن يجدا منجاة من عذاب الروح وتشظيها ، سيصبح رمادا تذره الريح في كل أرض، ولن يجد الراحة أبدا ..

عندها فقط انطلقت نحوه وحملته لثاني مرة في حياته، كانت الأولى عندما أحضرته إلى هذا البيت، والثانية عندما ذهبت به إلى المستشفى، ليقولوا لي مات، عندها انهار كل شيء من حولي وبدأت الحقيقة تطل برأسها وتظهر لأول مرة في تاريخ البشر بأقبح صورة، وأسوأ منظر، انزاحت السُتر، وبانت الرمال المشرئبة، وسقط النور في اللجة، واغتسلت الغربان، وأقامت البوم مع الهوام عرسا.. هذا سري الذي أخفيته عن الجميع ولكنه بات بثقل الجبال وحمل الأيام وتمزق البُرهات، ضحيت بكل شيء لأجل عوض فتركني ورحل بعد أن أهرق نبضي..!!

فعلا أنا لا أستحق إلا ما حدث لي، وأنتِ كثيرةٌ عليّ؛ أنتِ الوفية الطاهرة النقية، وأنا الملوثة مظهرا ومخبرا أسكنتني بيتك ولم تسأليني لم تركت بيتي، أعتقد أنك عرفت الآن السبب، أنا لا أستحق الحياة، أنا قاتلة كل ألفاظ الدنيا الذميمة والتي لا تطلق حتى على أحقر الكائنات كثيرة عليّ. الحياة بكبرها لا أستحقها فهي نعمة ثمينة، اغتصبتها ممن لا يملك حولا ولا قوة، وأعطيتها لم لا يستحق. لم أستطع أن أكتم عنك أكثر من ذلك فالبركان يتفجر بداخلي محرقا لكل شيء في الأحشاء، لا أستطيع أن أتحمل، أحتاج إلى من يعرف الحقيقة ويخفف عني .. أنت الآن عرفت الحقيقة، فهل ستبقين معي؟

نهضت سماح متثاقلة مترنحة من هول ما سمعت، وخرجت وأغلقت الباب خلفها..!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى