الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١

المستويات الفنية في« الابواب المنسية»

إبراهيم جوهر

تذكّر (الابواب المنسية ) للمتوكل طه بالإنتاج الادبي الذي يأخذ من القضية المعالجة وهجا آسرا يثير العواطف أكثر مما يستثير العقل،ويبعد محاكمة النص المنتج فنيا في سبيل التركيز على المستوى الواقعي للمسألة المطروحة.. من هنا فإن المتلقي يؤخذ بروح النصوص ويعيش أجواءها وهي تدور في ساحة المعتقل وتحاور السجّان وتحلم مع السجين. ولعل في هذا المستوى من القراءة ما فيه من روح التضامن والتأثر والانسجام والتماهي مع قضية وطنية ذات أبعاد إنسانية مؤلمة و(منسية) في الوقت نفسه. وهي قراءة طيبة النوايا ولكن النوايا وحدها لا تكفي لعمل فني يعبر عن قضية وطنية وإنسانية ذات مستويات سياسية واجتماعية وفنية يجب التعاطي معها وتناولها بعيدا عن الشعارات والخطب الإنشائية.

إن قضية بحجم قضية الأسرى الدامية المنسية تقتضي تناولها بعقل وإبداع ومسؤولية فنية، ربما لم يعد مقبولا اعتلاء موجتها والنطق باسمها اليوم لكثرة الكلام الذي لم يحرر معتقلا من أبنائها. ولتكن كتاباتنا معبرة عنها بقدر بسيط من حميميتها وروائها.

قداسة القضية وعظمتها وجماهيريتها لا تشفع لأي إنتاج دون المستوى الفني اللائق وإن حمل اسمها ودافع عنها وروّج لها.

من هنا كانت صرخة محمود درويش الاستباقية في أوائل السبعينيات ((ارحمونا من هذا الحب القاسي)) صرخة مؤسّسة واعية واعدة راسمة أفقا إبداعيا يطلب محاكمة النص وفقا لشروطه الفنية لا موضوعه المعبر عنه. كانت الصرخة تحمل طلبا واعيا مفاده: قيّمونا وفق مضمون نصوصنا فنا ومضمونا وإبداعا وتأريخا، لا وفق توجّه مسبق يقبل كل غث وسمين فيخلطهما معا ويعاملنا بشفقة وتضامن ونظرة تشجيع لم نعد نقبلها لأننا ناضجون.

قضية الاسرى وما يحيط بها وكل هذا الشجن الذي تثيره قضية إنسانية بالدرجة الاولى ووطنية بالمستوى نفسه لا يجب أن تعقد أي اتفاقات بعيدا عن حلها حلا نهائيا لان القائد لا يترك جنوده في الغابة بينما يقول: اتفقنا!!

أن نبدع أدبا في سيمفونية (أدب السجون) يعني أن نضيف جديدا وأن نعلي رسالة التحدي وأن نقرع الجرس في الإطار الفني فلا مجال لحيرة الفن وتردده ونكوصه في ميدان السهر والتعب والمعاناة والصمود. باختصار: نريد إبداعا متألقا يعبر عن قضية إبداعية.

ليس مطلوبا منا أن نجامل ولا أن نتحامل أيضا * وليس مطلوبا منا أن نضيع في دفء القضية وجاذبيتها ونغض الطرف عن الهنات الفنية والمستوى الإبداعي النسبي الذي حققته هذه النصوص التي تجيء بعد مسيرة طويلة من البحث والتأليف للزميل المتوكل. فهذا الكتاب يحمل الرقم 39 في مسيرة الكاتب.
العنوان:
(قصص الابواب المنسية) ثم اسم الكاتب يليه اسم راسمة اللوحات:ريما المزين.
أترك لغة الالوان التي جاءت لتوصل رسالة باللون الذي يوصل رسالة ذات دلالة وإيحاءات ورموز: فاللون الازرق لكلمة (قصص) ثم اللون الاصفر للعنوان (الابواب المنسية) ثم اللون الابيض لاسم الكاتب فاللون الاصفر ثانية لكلمة (لوحات ريما المزين) على خلفية من اللون السماوي الممزوج بالاخضر هي لوحة ألوان فنية تحكي مسيرة من الصدام وفق إطار واضح المعالم يوضحه الرسم التقريبي لباب السجن،وما الأزرق والأصفر ثم الأبيض سوى رموز واضحة الدلالة.فهل عنى المصمم ذلك؟!

في صفحة الإهداء جاء إهداء الكاتب (إلى شهداء وأسرى الحرية) وهو إهداء عام يحمل رسالة واضحة تساوي بين الشهيد والاسير،في حين كان الاصح أن يقول: إلى شهداء الحرية وأسراها فيعطف الاسرى على الشهداء ويضيف الحرية (لفظا وضميرا) إلى الشهداء والاسرى فيتساوى الشهداء والاسرى في التعريف، وتكون العبارة سليمة من الناحية اللغوية.وهذا خطأ شائع الاستعمال.

تبدأ نصوص الكتاب بنص (طوبى) وهو نص بليغ جميل معبر مدهش، مما يحقق استهلالا طيبا وموفقا للولوج إلى ساحة النصوص الثلاثة والستين التي جاء عددها بعدد سنوات النكبة (المنسية). طوبى:نص بديع أخذ من القصة القصيرة جدا اللغة المكثفة والجملة المركزة واللفظة الشعرية الموحية ذات الظلال والافق المفتوح على التأمل والتأويل. وأخذ لغة الصمت من الورق (أخذوه منها) الجملة الافتتاحية القوية الرشيقة الدالة. تأتي الجملة الافتتاحية في سطر منفرد ( أخذوه منها) وفي السطر التالي عودة ارتدادية إلى الماضي،إنارة خلفية لصاحبة الضمير غير المعلن عن اسمها (إنها:ها (منها) من هي؟؟ إنها هي.....ليكتشف القارىء أنها كل أم وكل زوجة فلسطينية صارت شجرة (وراح الناس يتظللون بفيئها،واحتشدت بالاعشاش والزغب والهديل والزقزقات،وأضحى من يمرّ بها يعتقد أنها شجرة تنبىء بغابة ستمتد،لتنشر المسك والشهد والزنجبيل) (صفحة 12)

شكلت هذه المقدمة (فاترينة)جاذبة للولوج إلى عالم النصوص التي جاء على الغلاف أنها (قصص) ليكون النص الثاني المعنون ب(طلق نعنع)نصا غير داعم للنص الذي سبقه من الناحية الفنية إذ هبط هبوطا مدويا صارخا. إنه نص يمثل البدايات لأي كاتب. نص تنفيسي ذاتي يحمل ذكرى ما لتجربة ما خلطت بين الخاص والعام في لغة مباشرة رتيبة أفسدها تدخل الكاتب المباشر وخلطه بين لغة الوصف والذكريات والتعليق والخبر (...والآن ها هو يتمدد على سريره،يكاد يلفظ آخر رمق من روحه، وإدارة المعتقل ترفض الإفراج عنه. لقد التهمه السرطان!)(صفحة 13) يتضح أسلوب نقل الخبر بلغة باردة إخبارية غير فنية تريد نقل المشهد بأكمله. وفي السطر التالي يقول: (واستشهد صاحب الكوبّاي، فوددنا أن نودعه قبل أن يأخذوه، فانكببنا على وجهه نقبّله،ونغسله بدموعنا الباردة! لاحظ السجان أن صاحبنا يغمض كفه ويقبضها على شيء ما! فحاول أن يفتحها فمنعناه، وهدّدناه، فطلب منا أن نفتحها خوف أن نكون قد هرّبنا معه شيئا!) هنا يتضح الاسلوب الحكائي الإخباري غير الفني، فلا اللغة لغة قص فني، ولا الحدث معبّر عنه بأسلوب فني قصصي بلغة ذات رشاقة. إنها لغة عاجزة تقف على الجانب الموازي للغة النص الاول ((طوبى).

هذان مستويان متباينان في اللغة والقص الفني إذا. وهما يمتدان ليطالا عددا من النصوص المتبقية، في الوقت الذي ينهض عدد ليس قليلا من نصوص أخرى جمع بين الأسلوبين فكان وسطا بين البلاغة والسمو، والهبوط اللغوي التعبيري.

تنتمي نصوص: (ساحر) (ابنتنا الشمامة) (صهيل في العتمة)(اللبلابة) وغيرها....إلى هذا المستوى المتوسط (بين بين).
وتنتمي نصوص طلق نعنع) (اعتقال ناظم الغزالي) (العقرب) (تقمص) (لم تنته الجلسة) إلى المستوى الهابط فنيا في لغة التعبير،ونقل الموقف المتدفق، واللغة المترهلة الزائدة عن الحاجة الفنية، وفي التعليق والتشبيه غير الموفق.

ثلاثة مستويات فنية هي نصوص الأبواب المنسية للمتوكل طه. وهو الكاتب الذي يستطيع الكتابة المعبرة التي أقصدها،ولكنه تسرّع في النشر ولم يتأن في وقت مطلوب منه فيه أن يقدّم جديدا فنيا يسمو فوق ما وصل إليه من قبل.


الكتاب صدر عن منشورات وزارة شؤون الاسرى والمحررين في رام الله سنة 2011 م.
ورقة مقدمة إلى ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني/الحكواتي التي ناقشت الكتاب مساء الخميس 31 /3 /2011 م.

إبراهيم جوهر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى