الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم حسن توفيق

السويس.. من التصدي للغزاة إلى تحدي الطغاة

  نعم لزيارتها.. فأنا مشتاق حقا إلى لقياها.

هذا ما قلته – دون تلكؤ أو تباطؤ - للصديق مصطفى عبد الله رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب عندما طلب مني أن أرافق بعثة الجريدة لزيارة المدينة التي أعشقها، ويسعدني أن ينافسني في حبها ملايين من العشاق على امتداد الأجيال. إنها السويس.. إنها المدينة التي تصدت للغزاة الطامعين الذين تصوروا أنها لقمة سهلة الهضم، فإذا بهم يدركون أنهم يواجهون قلعة واثقة بالله وبنفسها، بفضل نضال أبنائها الأبرار المخلصين. إنها السويس التي لم تكتف بالتصدي للغزاة وحدهم، وإنما شرعت منذ اليوم الأول من أيام الثورة الشبابية والشعبية في تحدي طغيان الطغاة وجبروت الجبابرة، إلى أن تحقق لها ولنا كلنا أن نشهد ميلاد مصر الجديدة الحرة.
زيارة السويس ليست زيارة للنزهة ولو لبرهة، فالهدف المحدد أن نلتقي مع ناسها البسطاء الطيبين، وأن نتعرف على ما أسهم به شبابها الثوار من إسهامات فعالة ومؤثرة في إنجاح ثورة الغضب التي اجتاحت مصر من شمالها إلى جنوبها ومن أقصاها إلى أقصاها، وكلنا نعرف بالطبع أن السويس كانت المدينة الأولى من مدن مصر التي راح من أبنائها من راحوا من الشهداء، إلى جانب الجرحى والمصابين الذين اكتظت بهم المستشفيات خلال أيام هذه الثورة الشبابية الشعبية التي بهرت العالم كله بأسلوبها الحضاري المتميز والأصيل.

هكذا كان علينا أن نلتقي مع أقرباء الشهداء الذين قدموا أرواحهم قرابين فداء لميلاد مصر الجديدة الحرة، وكان علينا أن نتعرف من الجرحى والمصابين على طبيعة جراحهم وإصاباتهم، وماذا جرى لهم وقتها وما مشاعرهم بعد أن قدموا ما قدموه من التضحيات، وهل ساعدهم أحد فيما يتعلق بالتئام جراحهم أو علاج إصاباتهم، وقد تحدث كثيرون من هؤلاء بكل تقدير وإكبار عن روح التضامن الجماعي، لكن واحدا من المصابين أكد لنا أنه يعاتب الشيخ حافظ سلامة لأنه لم يهتم إلا بتقديم تعويضات لعائلات الشهداء وحدهم، وقد رد عليه مصاب آخر قائلا إن الشيخ حافظ كان قد حدد منذ البداية أنه يركز فيما يقدمه من مساعدات وتعويضات على عائلات الشهداء دون سواهم، على أن تقوم جهات خيرية أخرى بمساعدة الجرحى والمصابين، وهكذا تتوزع الجهود الخيرية وتتنوع.

كان علينا كذلك أن نتذكر أننا نمثل أخبار الأدب، ومن هذا المنطلق كان لا بد أن نسعى للقاء أدباء السويس وشعرائها وفنانيها الذين أسهموا في إثراء الحركة الأدبية والفنية على امتداد أرض مصر العريقة والولادة ، وفي صدارة هؤلاء الكاتب القاص والروائي الأصيل والمخضرم محمد الراوي والفنان الجاد والملتزم الذي يعرفه الجميع كبرا وصغارا ويلقبونه بالكابتن غزالي، ولا بد هنا أن نتذكر روابط الصداقة العميقة والحميمة بين كل من محمد الراوي والكابتن غزالي مع الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل عندما كان يعمل في جمارك السويس في مقتبل حياته، والواقع أن أمل دنقل لم يستطع أن ينسى حبه للسويس بعد أن هجرها إلى الإسكندرية ثم القاهرة، حيث كتب هذا الشاعر الكبير قصيدة من روائع شعره عن السويس خلال سنوات المواجهة المجيدة ضد قوات الجيش الصهيوني الذي كان يتوهم ويوهم الآخرين بأنه قوة لا يمكن قهرها، وها هو أمل دنقل يتذكر المدينة التي يعشقها خلال حرب الاستنزاف التي قادها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وكان من شهدائها العظماء الفريق عبد المنعم رياض :

والآن، وهي في ثياب الموت والفداء
تحاصرها النيران وهي لا تلين
أذكر مجلسي اللاهي على مقاهي الأربعين
بين رجالها الذين
يقتسمون خبزها الدامي وصمتها الحزين
ويفتح الرصاص في صدورهم طريقنا إلى البقاء

المسافة ما بين القاهرة والسويس لا تزيد على مائة وأربعين كيلو متر، والسيارة التي تقل بعثة أخبار الأدب تنطلق على الطريق دون أن تتوقف أو تتمهل فهناك لقاءات ومعاينات ميدانية عديدة في انتظارنا، لكني ظللت على امتداد الطريق مستغرقا في تأملاتي المنبثقة من ذكريات غالية.

 أتذكر أني خلال إحدى سنوات حرب الاستنزاف كنت قد دعيت لإحياء أمسية شعرية في السويس، وحين توجهت لمكان تلك الأمسية فوجئت مفاجأة غريبة أربكتني في بدابة الأمر، لأني وجدت أن الحاضرين الذين امتلأت بهم القاعة الكبيرة ليسوا من المدنيين، فقد كانوا جميعا من الجنود والضباط على اختلاف رتبهم العسكرية، وتنبهت على الفور إلى أني أواجه جمهورا لم أواجهه أبدا في حياتي، وهنا قررت أن أرتجل كلمة مطولة عن عشق الوطن الغالي وعن معنى الصمود، وأخذت أستعيد ما أحفظه من قصائد وطنية لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وسواهما من شعرائنا المرموقين العظماء، وأحسست بأن الطمأنينة تسري إلى روحي بمجرد أن لاحظت التجاوب الجميل من جانب الجمهور المؤلف من ضباط وجنود بملابس عسكرية ولم يكن أحدهم يحمل ديوانا شعريا أو رواية أو مجموعة قصصية وإنما كانوا يتأبطون بنادق ومدافع رشاشة، ومع سريان الطمأنينة من جانبي والإصغاء الجميل من جانبهم أتيح لي أن أخوض تجربة فريدة لم تتكرر كما قلت في حياتي!

لم أشأ أن أعود للقاهرة في اليوم التالي للأمسية، وهكذا ظللت أعانق الحياة في السويس أكثر من عشرة أيام بلياليها، وأنا أحس أني أكاد أندمج مع كل ما أراه وأن روحي تتوحد مع هؤلاء الذين قدر لهم أن يعيدوا للوطن كرامته وهيبته عندما خاضوا حرب أكتوبر 1973 المجيدة، وحين حاول الصهاينة أن يدخلوا السويس بعد أن استطاعوا وقتها أن ينفذوا من ثغرة الدفرسوار ظلت عروقي تغلي إلى أن عرفت وعرفت الملايين أن الدبابات الصهيونية قد تحولت إلى ركام من الحديد المحترق بعد أن دمرها أبناء جيشنا البواسل ومعهم أبناء المقاومة الشعبية، وقد قدر للكابتن غزالي ومن معه من أبناء السويس الشرفاء أن يعايشوا تلك الملحمة العظيمة من ملاحم نضال مصر، وكانت فرقة أولاد الأرض تؤدي رسالتها على إيقاع طلقات الرصاص ودوي المدافع وهدير الطائرات، لكن الكابتن غزالي لم يقنع بإطلاق رصاص كلماته خلال سنوات حرب الاستنزاف وخلال أيام حرب أكتوبر، وإنما انطلق بروحه الشابة رغم أنه يطل من شرفة الثمانين لكي يواكب ما عاشته السويس منذ اليوم الأول من أيام الثورة الشبابية والشعبية ضد الظلم والطغيان والاستبداد.

بعد أن اكتملت لقاءاتنا مع من التقينا معهم من جرحى ومن مصابين ومن أدباء وشعراء ومن شبان أسهموا فيما حققته مصر كلها بفضل حيوية شبابها، وبعد جلسة ممتعة على المقهى مع الكابتن غزالي، شاء الشاعر عزت المتبولي أن يكون دليلنا الهادي عبر جولة مطولة مشيا على الأقدام في شوارع السويس، حيث تفقدنا آثار المواجهات الحادة ما بين الشرطة وشباب الثورة، ودخلنا قسم شرطة حي الأربعين الذي احترق مبناه، وعرفنا من خلال لوحة لم تحترق أن هذا المبنى كان قد شيد في عهد الملك فؤاد الأول!

ما تزال السويس كما رأيناها تبدو وكأنها مدينة في حالة حرب، خصوصا أن الدبابات والعربات المصفحة ما تزال في شوارع عديدة من شوارعها وأمام الكثير من المنشآت والمرافق، ومع هذا فقد تراءى لنا وجه مشرق يترقب إطلالة الغد الآتي وقد تمثل هذا الوجه في الجداريات الضخمة التي رسمها شباب الثورة، وعلى الرغم من تفاوتها وتنوعها في مستواها الفني فإنها مجتمعة تمثل ضمير مصر الجديدة والحرة.

ومع اقترابنا من ضفة قناة السويس أحسست أن أرواح آلاف الشهداء من أبناء مصر الغالية ترفرف في الأجواء، إنها أرواح الشهداء من العمال الذين قاموا بحفر القناة، وإنها أرواح الشهداء الذين قاموا بعمليات فدائية ضد قوات الاحتلال البريطاني لمصر، وإنها أرواح شهداء معارك سنوات حرب الاستنزاف ومعارك أيام حرب أكتوبر المجيدة التي انتشلت أرواحنا من ظلمات النكسة ٍ، وإنها أخيرا أرواح الشباب الذين أسهموا في صياغة مصر الجديدة الحرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى