الخميس ٧ نيسان (أبريل) ٢٠١١
مسبحة من خرز الكلمات

للشاعر يحيى السماوي

بقلم: عـصـام شـرتح
  1. مصداقية الرؤية
  2. عمق التخييل
  3. التضاد اللغوي
  4. تبئير المداليل
  5. كثافة المشهد
  6. خصوبة اللغة
  7. تلوين النسق
  8. تفعيل الحدث
  9. قلب الرؤى
  10. اقتصاد العبارة
    لا شك في أن لكل نص أدبي خاصيته الجمالية، ومؤثراته الفنية، تبعاً لقدرة الشاعر على تحفيز الرؤية، وتعزيزها مشهدياً، فالنص النثري يختلف عن النص الشعري بحرية الأول، وتقييد الآخر، أي أن النص النثري يمتاز بسهولة تشكيلية في النسق الأدبي قد تبدوللقارئ للوهلة الأولى، لكن هذا المذهب غير دقيق، إذ إن النص الشعري يستعين بالإيقاع، في حين أن النص النثري الأدبي يستعين بالرؤية، فمن المألوف للشاعر الاحتفاء بالإيقاع، في حين لا يحتفي الاحتفاء المطلق بالرؤيا، أما النص الأدبي النثري فلكي يثير القارئ ينبغي أن يقوم بتحفيز الرؤية ليستقطب القارئ، ويدفعه إلى التفاعل رؤيوياً مع النص، ولولا ذلك لفقد النص الأدبي الإبداعي الكثير من قدرته الجمالية، فالنصوص الادبية النثرية ترتقي – إذاً – بالرؤيا، ومقدار انفتاحها النصي، فالمرتكز الفني – في قصيدة النثر – ليس مرتكزاً إيقاعياً، وإنما مرتكزاً رؤيوياً تشكيلياً مثيراً، يقول الناقد الأسلوبي المتميز رحمن غركان قولاً دقيقاً، من المفيد تتبعه، إذ يقول: " لم تعد قصيدة النثر اليوم بعد ثراء تجاربها العربية، وانفتاحها بأشكال أداء كثيرة إلا جزءاً من تطورات الشعرية العربية، وجزءاً من جديد الذائقة، تأثر بالثقافة العالمية من جهة، وانفتاحاً على التراث بنوع من قراءة جديدة، وأشكال نظر متعددة إلى مرجعية ذلك التراث من جهة أخرى، وقد يلفت نظر الدارس ان أشكال الأداء تعددت في قصيدة النثر، انطلاقاً من مكوناتها العامة، فعلى صعيد المعجم هناك أشكال أداء أظهرت نص الصورة الغامضة، ونص الصورة الموحية، ونص الشرح اليومي، ونص اللغة الإيحائية، ونص اللغة الإشارية وغيرها... وعلى صعيد الإيقاع، هناك الإيقاع الغنائي، وغيرهما... وعلى صعيد التراكيب هناك نص الوحدات المتكررة، ونص الجملة القصيرة، ونص المشهد، ونص الحوار وغيرها...، وعلى صعيد البناء هناك نص البناء الدرامي، ونص البناء القصصي، ونص البناء التراكمي، ونص البناء المقطعي وغيرها... وعلى صعيد الصورة هناك: نص الرؤيا، ونص الأسطورة، ونص الخرافة، ونص الصورة الرمزية وغيرها " (1)

إن ما أشار إليه رحمن غركان يضعنا على توجهات القصيدة النثرية بما عرفت عليه في الآونة الأخيرة، والطرق والأشكال التي اتخذتها في عالمنا العربي، ويحدد غركان أهم ميزات قصيدة النثر قائلاً: " إن أهم ما يميز قصيدة النثر في مستواها الإبداعي، ذلك الانفتاح على أشكال الأداء، لأن حرية الصدور عن مكونات أداء غير مقيدة بقواعد، وحدود، ومكونات معينة تلك الحرية تتيح تكثيف الشعرية "(2)، وإن هذه الحرية لا تقف حدَّ الأشكال التعبيرية، وإنما تطال الرؤى المبثوثة، وعمق التعبير عنها. ولعل أبرز ما يثيرنا – في نصوص السماوي النثرية – في مجموعته: ( مسبحة من خرز الكلمات ) إيقاعها الداخلي، بما تعززه في بنيتها من تجنيسات، ومقابلات دلالية، ومزاوجات صوتية، ضمن العبارة الشعرية، وكأنها مموسقة بإيقاع روحي خصيب، يلون مساقاتها الشعرية، ويحفز رؤاها، لتبدوبغاية التفاعل، والتمازج الصوتي، والائتلاف النسقي ضمن المقاطع النصية المجسدة، ومن تدقيقنا في مثيراتها الجمالية، وقيمتها الفنية، وجدنا أن العبارة – لدى السماوي – تشكل مرتكزاً مهماً في تكثيف الرؤية، وتحفيز المنظور الشعري، بما تملكه من حركة نسقية، وتمازج صوتي رهيف بين الكلمات، وكأنها منظومة تنظيماً إيقاعياً محكماً... تحفز قارئها تحفيزاً صوتياً، ودلالياً تدفعه إلى التأثر بنصوصه النثرية لتبدوبمثابة نصوصه الشعرية في تحقيق الإثارة والجاذبية النصية للقارئ، وأبرز هذه المثيرات التي نستخلصها ما يلي:

1 – مصداقية الرؤية:

ونقصد بـ ] مصداقية الرؤية [: التعبير عن المنظور الرؤيوي بدقة، ورؤى واضحة تبين حجم الضغط الشعوري، بكل محفزاته النفسية، واصطراعاته الداخلية، ولذا، فإن القصيدة النثرية – لديه – ليست حياكة أنساق، وتلوين مساقات بالتجنيسات الإيقاعية فحسب، وإنما هي خرق لما يسمى الرؤى السطحية إلى رؤى عميقة، تتبطن حيز الشعور النفسي الداخلي ومصاحباته العاطفية، وما تبثه من رؤى ومداليل متعددة ضمن نسق العبارة الواحدة، كما في قوله: "

ألقيتُ قوسي وسِهامي...
رافِعاً قلبي راية َ استسلامِ
فكوني المِشنقة َ التي ترفعُني إلى السماءِ
أو
القيدَ الذي يشُدُني إلى الأرضِ...
فأنا لن أستعذِبُ خُبزَ الحُريةِ
ما لم أكُنْ
مشدوداً إلى تنورِكِ
بقيودِ نبضي! " (3)<،poesie>

يعتمد الشاعر التعبير الدقيق عن حيز الرؤية الغزلية، بنبض شعوري ترسيمي غزلي، يزيد ألق اللحظة الشعورية، ويبين مهارته الشعرية بتلوين النسق الشعري، بنقله من نسقٍ توصيفي إنشائي إلى نسق إخباري تكثيفي شعوري، مؤكداً حيوية الجملة – لديه - في التعبير عن اتقاده العاطفي، فما أجمل هذا الحس الغزلي الساحر في قوله: " فأنا لن أستعذِبُ خُبزَ الحُريةِ، ما لم أكُنْ ، مشدوداً إلى تنورِكِ، بقيودِ نبضي! "، واللافت أن محفزات جمله تتبدى في مصداقية الرؤية، أوالمنظور الذي يبثه إلى القارئ، بتحفيز شعوري، وترسيم دقيق للحالة الشعورية الغزلية التي يلونها بجمل مثيرة، وصورة مرهفة.

وقد يحفزنا السماوي بتجسيده الرؤية بوضوح فني، واقتصاد لغوي، كما في قوله: "

أنتِ لستِ شمساً
وأنا
لستُ زهرة َ دوَّارِ الشمسْ...
فلماذا
لا يتجه قلبي
إلا نحوَكِ؟! " (4)
<،poesie>

هنا، يتبدى المقصود الدلالي، أوالرؤيوي واضحاً، إذ إن كل نسق تصويري يبدومتضافراً مع النسق الآخر في تبيان الحالة الغزلية، بوضوح دلالي، يفهمه القارئ العادي، دون طول إمعان وتدبر وتفكر بأنساقها، إذ تبدوأنساقها اللغوية ذات لغة سلسة مأنوسة تجري بدفق الشعور، ووميض الشوق، وعصارة التوق، ورهافة الإحساس، لدرجة يمكننا أن نقول عن شعرية السماوي في قصائد هذه المجموعة مايلي: إن شعرية السماوي واضحة الرؤى، جلية المداليل، يستقطبها القارئ منذ الوهلة الأولى... وإن هذه السهولة لم تفقد نصوصه نبضها الشعوري، وإنما ساعدت القارئ على فهمها وتأملها بعمق خاصة في مساراتها الغزلية المتنوعة، لتبدولغته متقدة عاطفياً، بالوضوح المقصدي، والرؤية الجلية التي يستقطبها القارئ بسهولة ويسر، وهذا ما يحسب لنصوص هذه المجموعة أنها ذات ألق تشكيلي، ووضوح مقصدي، وإثارة عاطفية مشحونة بكثافة الرؤى، وعمق المداليل، فالشعرية – عند السماوي – تتألق من نص لآخر، فلا نلحظ تكراراً ممضاً في قصائده، وإنما نجد تآلفاً نسقياً يقود حركة نصوصه الدلالية، لتبدوبغاية التحفيز النسقي، والاكتناز التشكيلي الجمالي.

2 – عمق التخييل:

ونقصد بـ «عمق التخييل»:
الاستقصاء في بلورة الرؤية بمتخيلات بعيدة المدى، يستقطب من خلالها الشاعر المؤثرات التشكيلية المباغتة التي تسهم في تعميق فضاءات المتخيلات الشعرية، بألق تصويري، وحنكة نسقية في تفعيل الأنساق اللغوية، ليبدوالمشهد الشعري بغاية المباغتة، والتفعيل النسقي، وهذا الأسلوب في التفعيل النسقي، يزيد بؤرة التخييل الشعري عمقاً وانفتاحاً رؤيوياً، وقد امتازت نصوص هذه المجموعة بتفعيلها لفضاءات المتخيلات الشعرية، بأنساق متوازنة تشي بعمق التخييل، وبداعة التعبير، كما في قوله: "

أيُّتها البعيدة ُ كقلبي عن يدي..
القريبة ُ كالشمسِ من عيوني:
ادخُلي صحارايَ آمنة ً...
لأبايُعكِ مليكة ً
في أقاليمِ جنوني..
أنا الملكُ المتوَّجُ...
رعايايَ:
الوردةُ..
السنبلة ُ..
والعصفور..
في مملكتي الممتدة
من بابِ الكرخِ
حتى سريريَ المصنوعَ
من سعفِ النخيل! " (5)
<،poesie>
يعمد الشاعر - في هذه التشكيلة الشعرية - على فضاءات متخيلاته الشعرية البعيدة، بحس غزلي شعوري مكثف، يشي بحركة تخييلية عميقة، تستقطب المثيرات الغزلية بشتى الأنساق، والرؤى المكثفة، وهذا الأسلوب الذي يعتمده الشاعر يثير القارئ، ليس - فقط - بالتناغم التشكيلي، وإنما بالمتخيل النسقي العميق، كما في قوله: " أيُّتها البعيدة كقلبي عن يدي..، القريبة كالشمس من عيوني "، فالقارئ رغم بساطة العبارة لا يعتقد أن يأتي الشاعر بمتخيلات بعيدة الغور الدلالي، والعمق التأملي في تكثيف المثيرات التصويرية التي يخلقها بين التراكيب الشعرية، كما في قوله: "
مِنْ حُسنِ حَظي
أنني كنتُ سيِّئ الحَظ ِّ
فلم تصطدْ شِباكي
طيراً واحِداً
من طيورِ البُستانِ...!
أكان بساط ُ الخُضرةِ
سيكونُ
بمثلِ هذا الجمال
لولم يكنْ
مُطرزاً بالطيورْ " (6)<،poesie>

إن الدهشة - في هذا المقبوس - تكمن في المتخيلات التأملية الغزلية التي تحفز الرؤية، وتزيد العمق التأملي بالحيزات التصويرية التي تخلقها حركة الأنساق اللغوية، مما يجعلها ذات فضاء تخييلي عميق، كما في قوله: " أكان بساط ُ الخُضرةِ، سيكونُ، بمثلِ هذا الجمال، لولم يكنْ، مُطرزاً بالطيورْ "، إن هذا المقبوس يؤكد عظمة الرؤية الغزلية، وجمالية الصورة المتخيلة التي لا يتوقع القارئ أن تأتي على هذه الشاكلة، إذ إن القارئ يتوقع أن يقول الشاعر مطرزة بالزهور أوالورود، لكنه فاجأ القارئ بلفظة " الطيور " التي زادت الصورة التخييلية عمقاً وانزياحاً تخييلياً بين رؤيته الشعرية المفاجئة بفجوتها التخييلية الحادة ورؤية المتلقي البسيطة المعتادة، وهذه المسافة، هي التي أطلق عليها كمال أبوديب: (الفجوة: مسافة التوتر الحادة) بين ما يتوقع القارئ، وما يفاجئه الشاعر من رؤى متخيلة في تراكيبه الشعرية، وهذه هي التي تخلق الإثارة والمتعة في قصائد يحيى السماوي، يقول الناقد الجمالي علي جعفر العلاق: " إن القصيدة الحقة، أوالنص المكتمل، ليس جهداً شكلياً محضاً، خالياً من دفء الذات، وليس حشداً من المفردات المرصوفة بعناية، بل هومغامرة الروح وهي تبتكر، من اللغة وفي اللغة، كياناً حسياً لعذابها الوارف، أوانتصارها العصي على التحقق، إنه لغة تتضح بما تشتمل عليه اللغة من مرح، أوحيرة، أوتماسك، لذلك، فإن تقنيات الشعر لا تأتي على حساب هذا المخزون الروحي المحتدم. ومن أبرز البراهين على اكتمال الموهبة قدرة الشاعر على توظيف هذه التقنيات، والاجتهادات الأدائية، لتكون في خدمة رؤيا، وهويكشف عن ينابيع روحه الفوارة بالرؤى، والانفعالات " (7).

إن ما أشار إليه العلاق يجعلنا ننظر إلى شعرية السماوي من منظار فني بنيوي ( تخييلي جمالي ) يعتمد التكثيف والإيحاء، والمتخيل الماورائي النصي البعيد، ناهيك عن أسلوبه في تكريس الفوران العاطفي، والاصطهاج التأملي في مثيرات هذا الكون الحافل بالمتغيرات الوجودية، وتعد الأنثى أولى هذه التغيرات التي لمسها في عالمه الاغترابي، لتخفف عنه مأساته الاغترابية، وتكون له بمثابة كأس الخمرة التي تسكره برحيقها وعذوبة شفتيها، كما في قوله: "
خطيئتُكِ
أنكِ دونَ خطيئَةٍ..
لا عيبَ فيكِ
سوى عَذابي!
كيفَ أملأ بالشَهدِ صحني...
وقارورتي بالرحيق
إذا كانت حدائقكِ
أعلنتِ العِصيانَ
على نحلي؟ " (8).<،poesie>
إن هذا الحس الشعوري الجمالي المرهف يقود حركة الدلالات في ثنايا القصيدة، ويبث الرؤى الغزلية بفوران عاطفي، وقدرة على ترسيم المشاهد الحسية بعمق، واكتناز تصويري فاعل، كما في قوله: " كيفَ أملأ بالشَهدِ صحني...، وقارورتي بالرحيق ، إذا كانت حدائقكِ، أعلنتِ العِصيانَ، على نحلي؟ "، إن أهمية المتخيلات التأملية في الغزل تثير لغة السماوي الشعرية، وتجعلها محط استقطاب القراء حتى في نصوصه النثرية التي قد يبدوللقارئ أنها خالية من الإيقاع الداخلي، فهي تكتنز بالإيقاعات الداخلية، والقوافي المنسجمة التي تؤدي دوراً تحفيزياً إيقاعياً يغني دفقته الشعرية عن إيقاعها الخارجي، يقول الناقد رحمان غركان: " إن حضور المكون التصويري – في قصيدة النثر – محتاج إلى سمات تميز قصيدة النثر من سواها، وعند ذاك يكون شكل الأداء التصويري فيها قد أكسبها خصوصيتها الأدائية إبداعياً، ولكن حين يكون الأداء بالتصوير الشعري – في قصيدة النثر – صادراً عن المكون التصويري صدوراً يتشابه فيه مع فنون أخرى كالخاطرة، أوالحكمة، أوالمثل، أوالجملة القصصية، أوالروائية، أوالحوار المسرحي، فإنه أداء بالشكل غير الشعري، بمعنى غير ما يحقق لـ " جنس قصيدة النثر " تفرده، لأن ( المكون التصويري ) قائم مستقر في كل فن أدبي من الشعر إلى الحكاية، إلى قصيدة النثر، إلى سائر الفنون الأخرى، وبخلاف ذلك تضعف خصوصيته التصويرية حين يقترب هذا الجنس من غيره، فالتصوير – في الشعر – إدهاش باعث على التأويل في بعض خصائصه، ولكنه في المسرح تجسيد درامي يصنع الفعل، وفي القصة والحكاية يسرد الحدث بنحوأوبآخر، وفي قصيدة النثر يكثف المعنى الفني، ويبعثه متوهجاً ". (9) وهكذا، فإن قصيدة النثر تتعزز إيحائياً باعتمادها على المعنى الفني، أوالرؤية الفنية التي تطرحها بأسلوب منفتح... وهذا ما ينطبق على قصائد يحيى السماوي في هذه المجموعة أنها ذات خصوبة في التكثيف الإيحائي، والتلوين النسقي، والوضوح المقصدي، وعمق المداليل المستحدثة التي يبثها السماوي في تراكيبه الشعرية.

3 – التضاد اللغوي:

إن التضاد الأسلوبي - من مثيرات قصائد هذه المجموعة - التي تتضمن مولدات نصية فاعلة تغذي الشعور الاصطراعي النفسي لدى الشاعر، وتعد هذه الوسيلة من أهم الوسائل التي تعزز المعنى، وتكثف الرؤية، وتبلور منحاها التأملي الوجودي، إذ إن " للتضاد دور أساسي في تشكيل الصورة الشعرية عند الشاعر، فالمعاني الشعرية تنجم عن مجموعة من العلاقات المتشابكة بين الكلمات المختلفة في معانيها، كما يضيف عنصراً جمالياً في النص من خلال قضية التأثير بين الشاعر والمتلقي لما فيه من حس لفظي إيحائي، وكلمات معبرة، وإتساع في الأجواء، وإثارة في التحليق، فإذا بالمتلقي أمام صور شعرية نابعة بالكثير من المعاني في أطرافها، ومتعالية في انطلاقتها " (10).

والتضاد لا يقف حدَّ الدلالة الجدلية التنافرية ( الاصطراعية ) بين الأنساق، والمسميات الضدية التي يولدها في بنية السياق، وإنما يسهم في قلب المنظورات، وتكثيف المداليل، ويبثها بالنقيض، أوالمعنى المضاد، وهذا ما أشرنا إليه من سابق، إذ تتميز الأضداد بفاعليتها الدلالية، وقدرتها الفائقة على كشف العلاقات الداخلية في النص، وذلك: " برفضها للضوابط المعيارية، والثوابت الوضعية بما فيها من هيمنة اللغة التي تمجد الدلالة، وتربطها بأحادية المعنى الوصفي، الأمر الذي يجعلها احتمالية تقبل التحول، والمراجعة في وجوه لا تتباين ولا تنتهي " (11).

ويعد التضاد – من مثيرات القصيدة عند السماوي – ذلك أن " قيمة التضاد تكمن في نظام العلاقات، الذي يقيمه بين العنصرين المتقابلين، وعلى هذا، فلن يكون له أي تأثيرٍ ما لم يتداعَ في توالٍ لغوي، وبعبارة أخرى: فإن عمليات التضاد الأسلوبية تخلق بنية، مثلها في ذلك مثل بقية التقابلات المثمرة في اللغة " (12).

وقد وظف السماوي التضاد مقوماً فنياً جمالياً في تحفيز الرؤية الشعرية في نصوص هذه المجموعة، لتبدوذات تناغم فني بين المتضادات النسقية، الأمر الذي يحفز رؤية القصيدة، ويبث جدلها الفني، كما في قوله: "

لن يكونَ بعيداً اليومُ الذي
سينتقِمُ فيهِ:
الجرحُ من السكـِّـين
الشاة ُ من الذِئبْ..
الدموعُ من دُخانِ الحرائقْ..
الشجرةُ مِنَ الفأسْ..
العُراة ُ من ذوي القفازاتِ الحريرية..
الجِياعُ من المُتخمينْ..
الأغلالُ من صانِعيها..
الأوطانُ من السماسِرة ْ..
وملائِكة ُ يقيننا
من شياطينْ ظنونِهمْ!
لن يكونَ بعيداً
اليومُ الذي يتآلفُ فيه:
الخبزُ مع الجِياعْ..
العشبُ مع الصحارى..
والحدائِقُ مع العُشاقْ!
هذا ما قرأتهُ
في كتابِ عشقي
المكتوبِ على فمي
بمدادِ رُضابِكِ! " (13)<،poesie>
يعمد الشاعر – في هذا النص – إلى فاعلية التضاد الأسلوبي وفق منطق لغوي تصويري جدلي، يعزز الدلالات والمشاهد الجدلية، فالشاعر يرغب في أن يأخذ كل ذي حقٍ حقه من الظالم الذي لا يأبه أويرعوي بحقوق الضعفاء الأبرياء، والمساكين، لهذا، راكم الشاعر – في المقبوس السابق – المتضادات اللغوية وفق متواليات متتابعة معدداً الحالات التي عليها، كما في المتضادات التالية: ] ( الجرح، السكين )، (الشاة، الذئب )، ( الدموع، دخان الحرائق )، و( الشجرة، الفأس )، و(الجياع، المتخمين )، و( الأغلال، صانعيها )، و( الخبز، الجياع )، و( العشب، الصحارى ) [، واللافت أن هذا الأسلوب في تكثيف المتضادات في النسق الشعري السابق يعزز دلالات القصيدة لديه، ويعمق مداليلها، ومدلولاتها النصية المفاجأة ضمن النسق الشعري، إذ يحاول الشاعر عن طريق خاصية التضاد نفي السلبيات، والمظاهر الظالمة، وإحلال الحق والخير والنور والجمال، فجاءت القصيدة بكاملها حركة ضدية بين نسقين متضادين، من أول الكلمة في القصيدة إلى آخر كلمة في تشكيلها النصي، وهكذا يبدولنا أن " أن الجمالية في النص الادبي ماثلة في نظام التركيب اللغوي للنص، أي في بنية تركيب الجمل والمفردات، كما في بنية الزمان والمكان التي تولد فضاء النص، وتخلق للفعل فيه، مسافة ينموفيها، وأرضاً يتحقق عليها، فينسج العلاقات على أكثر من محور، تتقاطع، وتلتقي، وتتصادم، وتخلق غنى النص، وتعدد إمكانيات الدلالة فيه "، (14).

وقد يأتي التضاد كاشفاً عن مغزى قصائده، ودلالاتها الكامنة في أعماقها ومداليلها كافة، كما في قوله: "
بينَ احتضاري في غيابِك..
وانبعاثي في حضورِكِ:
أتدَلى...
مشنوقاً بحبلِ أسئِلتي
محدِقاً بغدٍ مضى...
وبالأمسِ الذي
لم يأتِ بعد! (15).<،poesie>
إن هذا التفعيل الفني الجدلي للتضاد قد عزز الموقف الغزلي، وزاد من حيوية المشهد الشعري، لتبدوالصورة جدلية من خلال الانزياح التركيبي، والتضافر الأسلوبي بين التراكيب المعكوسة، أوما يمكن تسميته بالتضاد المعكوس بين الأنساق الشعرية، كما في قوله: " بينَ احتضاري في غيابِك..، وانبعاثي في حضورِكِ:، أتدَلى...، مشنوقاً بحبلِ أسئِلتي، محدِقاً بغدٍ مضى...، وبالأمسِ الذي، لم يأتِ بعد! "، إن هذا الأسلوب الضدي، يعزز مثيرات الموقف الغزلي، ويؤكد فاعليته الأسلوبية في تحفيز الرؤية، وتعميقها في نصوص هذه المجموعة.

4 – تبئير المداليل:

ونقصد بـ ] تبئير المداليل [: تركيز المداليل، وتعميقها بالالتفاف بالصورة، أوالرؤية الشعرية، لتبدوالرؤية عميقة ذات مغزى دلالي متشعب، أومتعدد، وهذا الأسلوب التشكيلي الذي يعتمد تبئير المداليل هومن أساليب الشعر الرؤيوي، الذي يسعى إلى تبئير الرؤية، وتعزيز حيوية الحدث الشعري المجسد، وقد لجأ الشاعر يحيى السماوي في قصائد هذه المجموعة إلى تبئير رؤيتها من خلال التركيز على مثيراتها في استقطاب القارئ، وتعميق رؤيته صوب مثيرات الرؤية التي يثيرها باستمرار، وللتدليل على ذلك نأخذ قوله: "
منذ ُ دهورٍ
وهوَ يصرُخ ُ..
لم يسمعهُ أحد..
ليسَ لِأنهُ
مثقوبْ الحُنجُرة..
إنما
لِأنهُم اعتَقلوا الهواءَ
في
قاعَةِ الوطن " (16)<،poesie>
هنا، يبئر الشاعر الرؤى صوب الحرية المكبوتة، إذ إن اعتقال الهواء دليل مصادرة الحريات، وكبت الفكر، والآراء، وهنا بأرَ الشاعر الرؤية بقوله " لِأنهُم اعتَقلوا الهواءَ "، ومقصوده – بذلك – اعتقال الفكر، وذوي العقول النيِّرة، لئلا تسعى إلى الثورة والتغيير، وهذا الأسلوب في تعميق الأفكار، والرؤى من أساليب الشعر الرؤيوي الذي يعتمد اللمحات الإيحائية لا التصريحات الشعورية التي تبث الرؤى بسهولة ووضوح.

وقد يلجأ الشاعر يحيى السماوي إلى المزاوجة بين إيقاعي: ] التصريح، والتبئير [، كما في قوله: "
لسنا هنوداً حُمراً...
فلماذا يريدونَ إبادَتَنا؟
يجتَثونَ بُستانا ً كامِلا
كُلما نبَتتْ عُشبَة ُ فَرَح
يهدُمونَ حياً كامِلا
كُلما بنينا بيتاً طينياً
أخذوا من بقرةِ الوطنِ اللحمَ والحليبَ
وأعطونا الروثَ والحوافِرَ...
أما من فئرانِ تجارِبَ
لاختبارِ آخر مبتكراتِ البنتاغون
غير الشعوبْ؟ " (17).<،poesie>
هنا، يعتمد الشاعر – بداية – التصريح في بث رؤاه الثورية الغاضبة بأسلوب المحاكمة العقلية، ثم سرعان ما يلجأ إلى التبئير الأسلوبي في طرحه السؤال الأخير: " أما من فئرانِ تجارِبَ ، لاختبارِ آخر مبتكراتِ البنتاغون، غير الشعوبْ؟ "، وكأنه يريد أن ينفي عن هذه الأمم الرحمة والشفقة والحس الإنساني، لأنهم يبيدون الشعوب، ويحرقون أحلامهم، ويقتلون أمانيهم بالظلمِ والتسلط والقسوة والاحتلال، وهؤلاء الشعوب من حقهم الحياة بحرية وأمان، فلماذا لا يخترعون فئران تجارب تحل محل إبادة الإنسان، لكي ينفسوا عن نوازعهم الشريرة الداخلية التي تضج في نفوسهم الشريرة، لا أن يجربوها على البشر الأبرياء، إن هذا الترسيم الشعوري في رسم الرؤية الإنسانية وبلورتها، يدل على روح إنسانية شفافة تسعى إلى بث الرؤى، والمشاعر العاطفية، بمصداقية، وإدراك معرفي وجودي إنساني شامل، وهكذا، يبدولنا أن تقنية التبئير من مستحدثات قصائده في نصوص هذه المجموعة، للتعبير عن الحدث الشعري بأسلوب صريح حيناً، وأسلوب عميق يتناول المسكوت عنه في بعض الأحيان، وفق منظور تبئيري عميق للرؤى والأفكار المبثوثة في قصائده، لتبدومباغتة مثيرة بتمركزها الدلالي، وشحنها العاطفي، وحسها الإنساني الشفيف.

5 – خصوبة اللغة:

إن اللغة أساس العمل الأدبي، وهي مكمن إثارة النصوص الشعرية، يقول أدونيس مقولة شهيرة فيما يخص اللغة وخصوبتها الجمالية في النصوص الأدبية ذات الفعالية اللغوية المتميزة قائلاً: " ليست اللغة وسيلة تعبير فحسب، وإنما هي – كذلك – طريقة تفكير، لكل وضع اجتماعي – إذاً – لغته،... لغتنا السائدة هي لغة أوضاعنا السائدة، وهذه أوضاع متخلفة، على جميع المستويات، لهذا فإن الثورة التي نتطلع إليها في اللغة العربية، ليست، إذاً، شكلية أوجمالية تقصر همها على حروفية الألفاظ، على جرسها الخارجي، على تآلفات النغم واللفظ، وإنما هي تفجير للغة من الداخل، إن ثورة اللغة حين تقتصر على الشكل، على الجرس وإيقاعاته النغمية تتحول إلى ترجيع صوتي مصطنع " (18).

وللغة وخصوبتها دور جوهري في إيصال رؤية القصيدة إلى القارئ، إذ " عن طريق اللغة وحدها تنهض القصيدة وجوداً حسياً ملموساً، يمكن لمسه، ورؤيته، وتشممه. وفي اللغة وعبرها تتنامى اللذة الحسية والجمالية، ويتهدل علينا غيم البهجة، أوالفجيعة حميماً لا مهرب منه. ولا شيء غير اللغة يواجه القارئ، أولاً: يملأ روحه وثيابه وجسده بالدهشة، ويبعث فيه الإحساس بالجمال أوالأسى. اللغة أولاً، هي ما يفتتن به القارئ، تسحبه وراء ضوئها الغامض إلى شجرة الروح حيث النسيم، والأعشاش، والضجيج الأخضر الطريّ... وأنا هنا، لا أعني أن القصيدة لغة فقط، أوأن هذه اللغة هي كل ما تحمله القصيدة، ما أريد الإشارة إليه أن كل ما تشتمل عليه القصيدة يكمن هناك، وراء لغتها. أي أن كل تنظيم داخلي لها، وكل عنصر من عناصر نسيجها، لا يزدهر متوهجاً طرياً إلآ عبر ماء اللغة، ورنينها الدافئ السيال كالذهب. حين نواجه قصيدة حقيقية فإننا نجتاز إليها لغتها أولاً، أي نغرق في اللغة قبل كل شيء، وحين نصل إلى التفاصيل الداخلية للقصيدة فإننا نصل إلى هناك مبللين برذاذ اللغة، ومكسوين بفضائها الغائم " (19).

إن اللغة من أبرز مثيرات الخطاب الشعري – عند يحيى السماوي – فهي من مثيرات هذا الديوان، فلغته حافلة بالإيقاع الداخلي، والتكثيف الشعوري، والعمق الدلالي في إصابة الهدف النصي، أومكمن الرؤية الفنية في القصيدة، ولذا، فاللغة طيعة له يقودها كيفما شاء، ويشكلها كيفما يشاء، بحس جمالي شعوري عميق، كما في قوله: "
أمطارُكِ تأبَى الهطولَ...
علامَ أحرِث ُ حَقلي؟
على ضفافِ نهرِ الضوءِ الصوفي
هيّأتُ لي
قبراً من الماءِ
لأبعَثَ حياً
في عُشبِكِ!! " (20) <،poesie>
هنا، يعبر الشاعر بلغة غزلية شفيفة، تثير القارئ بسلاستها، وعذوبتها، وإيقاعها الداخلي، وكأنها نغمات موسيقية تبث أنغامها بأصداء العبارة، لتحولها من نسق انسيابي إلى آخر، لدرجة يثير القارئ إلى الأبعاد الإيحائية التي تحمله الجملة الشعرية، كما في قوله: " هيأتُ لي، قبراً من الماءِ، لأبعَثَ حياً، في عُشبِكِ!! "، إن مكنون العبارة الشعرية يعتمد الحنكة اللغوية، والحرفنة النسقية في تشعير النسق، لتمتاز لغته الشعرية بالجاذبية، والأناقة التصويرية .

ومن يطلع - على قصائد هذه المجموعة - يلحظ سموقها اللغوي، وتفعيلها النسقي، إذ تأتي لغتها ذات نبض عاطفي شفيف، ورشاقة إيقاعية متتابعة ضمن نسقها النصي، كما في قوله: "
القَمَرُ يهبِط ُ إليَّ بنورِهِ...
وأنا أصعَدُ إليهِ بِنَظَراتي...
.........
بينَ عينيكِ وعينيَّ:
صبحٌ يتيمُ الشمسِ...
وليلٌ مثكَلٌ بالقَمَرْ
بينَ حُنجُرَتي وقيثارَتِكِ:
أسوارٌ مِنَ الصمتِ...
كيفَ لي بالوثوبِ إلى ربيعِكِ
إذا كنتُ مقيداً
بسلسِلَةٍ
من جِبالِ الخَريفْ؟ " (21)<،poesie>
إنَّ هذه اللغة الانسيابية التي يبثها الشاعر – في جمله السابقة – يؤكد مهارته اللغوية، وحسه الشاعري الأصيل، بالنسق الشعري المتميز، إذ يرتقي بالعبارة الغزلية من حيز جمالي إلى حيز آخر أكثر جمالاً ومتعة وزركشة لغوية متفاعلة نسقياً تبهج النفسَ وتريح الروح، فما أجمل هذا التركيب الذي يثيرنا بمفاجآته التشكيلية، وانسيابه الإيقاعي الساحر، كما في قوله: " كيفَ لي بالوثوبِ إلى ربيعِكِ، إذا كنتُ مقيداً، بسلسِلَةٍ، من جِبالِ الخَريفْ؟ "
، وهذا التفعيل اللغوي لا يحفز القارئ إلى مدلول العبارة فحسب، وإنما إلى مدلول النسق المقطعي بأكمله، وكأنه منسوج بحياكة لغوية تشكيلية غاية في الروعة، والمهارة، والإتقان النسقي، والتكامل التصويري.
وقد تأتي الحيازة اللغوية معتمدة على نسق تكاملي ذي طبيعة عاطفية شفيفة، وهذا ما نلحظه في قوله: "
كالضريرِ الذي
يَرى الطريقَ بعصاهُ:
أرَى تضاريسَ جَسَدِكِ بأصابِعي...
وكما يشمُّ البجَعُ رائِحَة َ أنثاهُ
عبرَ السواحِل القصيَّة:
أشُمُ... وأنا في آخرِ شبرٍ من اليابِسة
رائِحَة َ شعرِكِ المُخَضَبِ بالحِناءِ...
وأرى دموعَ نهديكِ تحتَ
شمسِ الظَهيرة
فأوَدُّ أن أمسحها
بمنديلِ أجفاني " (22)<،poesie>
إن هذا الحس المرهف، وهذه السلاسة اللغوية، والشفافية الإيقاعية المنبعثة من أصداء التشكيلات اللغوية المتناغمة يحول النسق من طابعٍ نثري إلى طابع شعري شفيف جذابٍ للقارئ، برؤيته الجمالية المبتكرة، التي يعززها بالومض الإيقاعي المتآلف مع مدلول العبارة، وصداها التأملي، فكل نسق تشكيلي يقود النسق الآخر في تدفق، وانسياب، ومفاجأة نصية لغوية فاعلة في تحفيز الرؤى، وتكثيف المداليل، كما في هذا النسق التشكيلي المثير،الذي يفجره ضمن النسق النصي، والقفلة المقطعية التي جاءت منسابة بإيقاعها التقفوي في فاصلة الختام، كما في قوله: " وأرى دموعَ نهديكِ تحتَ ، شمسِ الظَهيرة، فأوَدُّ أن أمسحها ، بمنديلِ أجفاني "، وهكذا، يثيرنا السماوي – في نصوص هذه المجموعة – بأناقتها التشكيلية، من خلال بداعة تشكيلها اللغوي، ونسقها التشكيلي الذي ينساب متدفقاً مع رنين الإيقاع الداخلي، وبداعة التشكيل الأسلوبي، والترنيمات الصوتية ضمن النسق الشعري العام الذي تخطه من أول كلمة إلى آخر كلمة في نسقها النصي، لتبدوقصائده النثرية في هذه المجموعة خاصة ذات مهارة لغوية، وقدرة تكثيفية إيحائية عالية، من خلال المثيرات الرومانسية التي يبثها في النسق الشعري على مستوى القفلات النصية، والاستهلالات المباغتة التي تزيد درجة التفعيل اللغوي للأنساق الشعرية ضمن نسق القصيدة العام.

6 – تلوين النسق:

ونقصد بـ ] تلوين النسق [: تفعيل النسق لغوياً، بالانتقال من نسق سردي إلى وصفي، ومن نسق وصفي إلى نسق تصويري تأملي، انفتاحي، بغية تعزيز الإيحاء، وتكثيف المشهد الشعري، بحيازة نسقية فاعلة تسهم في تحفيز الرؤية، وتعزيز منظوره النصي، وقد أفاد الشاعر يحيى السماوي من تجربته الغنية الحافلة، وثقافته الواسعة في الاطلاع على تراث الغرب الشعري، وأساليبهم المبتكرة في التشكيل النصي، من خلال ابتداع نصوص ذات طاقات أسلوبية متجددة، تؤكد براعته، وتحريكها النسقي ضمن النسق الشعري الواحد، وهذه الخصيصة تعد من خصائص النصوص البديعة ذات التكثيف الإيحائي، والومض الشعوري العميق، كما في قوله: "
اعبُري
لا ترفَعي الثوبَ إلى رُكبَتيكِ
ليسَ ماءً ما ترينَ
إنَهُ بريقُ ساقيكِ
على الرصيفِ
المُخَضَّبِ بِآهاتي! " (23)<،poesie>
هنا يلون الشاعر النسق التشكيلي تلويناً جمالياً من نسق طلبي، إلى نسق وصفي، وهذا الأسلوب قد ولـَّـدَ حركة نسقية متماوجة، تبث إيقاعها العاطفي الترسيمي الجمالي، بحس تأملي، ونسق غزلي مفاجئ رغمَ إباحيته، وترسيمه الشهواني الغريزي، وقد فاجأنا بهذا النسق الأخير الذي حول الحركة الدلالية والنسقية إلى الوصف التأملي الجمالي، كما في قوله: " إنَهُ بريقُ ساقيكِ، على الرصيفِ، المُخَضَّبِ بِآهاتي! "، وهذا الأسلوب الالتفاتي في التلوين التصويري، بالانتقال من نسق إلى آخر يعزز المداليل الشعرية، ويزيد مشهدية الرؤية، وتكثيفها الإيقاعي، وحركتها المفاجئة للقارئ للتفاعل مع النص.
وقد يلجأ السماوي إلى هذا التفعيل النسقي في مقاطع أخرى، بتلوين الأنساق، بالانتقال المفاجئ في حركة النسق من نسقٍ إلى آخر، كما في قوله: "
كيفَ الهُروبُ منكِ
إذا كُنتُ مُتَحِداً بِكِ
اِتِحادَ العِطرِ بالوَردَةِ...
والخُضرَةِ بالحَقلِ...
والرايَةِ بالسارِيَةِ...
والجذورِ بالطينِ؟...
تَخرُجين من بابِ اليقظةِ
لِتُطلي
من شبابيكِ الحُلمِ! " (24)<،poesie>
هنا، يفاجِئنا الشاعر بتلوين النسق، وابتعاده من مشهد نسقي بسيط إلى مشهد نسقي بعيد، من نسق التساؤل إلى نسق التوصيف، أوالإخبار، وهذا الانتقال الأسلوبي الحركي من الإنشاء إلى الإخبار يفاعل النسق الشعري، بالتلوين بين إيحاءات النسق اللغوي الواحد، كما في قوله: " تَخرُجين من بابِ اليقظةِ، لِتُطلي ، من شبابيكِ الحُلمِ! "، إن هذا الانتقال النسقي يثير القارئ، ويفاعل حركة الأنساق اللغوية تفعيلاً شعرياً عميقاً، كما في قوله: " كيفَ الهُروبُ منكِ... من شبابيكِ الحُلمِ! "، وهكذا، تبدونصوص هذه المجموعة بغاية التفعيل، والممازجة النسقية، والتكثيف الإيحائي، والومض الشعري، وهذا ما تبدى – بوضوح – كذلك في قوله: "
لأنَكِ اللُؤلؤة ُ
وزهرَة ُ المُستَحيلْ التي
تأرُجُ كُلَما لامسَتها العواصِفُ
فـَـقـَـد شَكرتُ اللهَ كثيراً
حينَ جَعَلني صَدَفَة ً
في بحرِ عشقِكِ
وأكرَمَني بِجنونِ العواصِفِ
وهستيريا الرُعودْ! " (25)<،poesie>
هنا، يفاجئنا الشاعر مشهدياً بحركة الأنساق اللغوية، وتفعيلها بالانتقال من نسق لغوي إلى آخر، بتلوين نسقي من نسق وصفي يرصد الحالة رصداً من الخارج، إلى نسق إخباري باطني إلى نسق إنشائي تكثيفي يرصد إحساس الذات من الداخل، إذ ابتدأ النسق بعلاقة رابطة تعتمد إيقاع السبب والسببية، أوإيقاع السبب بالمسبب، كما في قوله: " لأنكِ... فقد شكَرتُ... "، ثم انتقل إلى علاقة نصية فاعلة كاشفة عن عمق الرؤية وتكثيف الصور، ومنظوراتها النصية، لتبدوالصورة رغم وضوحها واقتصادها اللغوي في النسق الشعري الغزلي فاعلة في تحفيز القارئ واستقطابه إلى حيز النسق الشعري مشدوهاً بالأنساق المفاجئة ضمن المسار السردي الوصفي، كما في قوله: " وأكرَمَني بِجنونِ العواصِفِ، وهستيريا الرُعودْ! "، وهكذا، تثيرنا قصائد السماوي النثرية بتلوينها النسقي، وتآلفها، وتضافرها التشكيلي ضمن المقطع، وكأن القصيدة لديه رغم إيقاعها النثري فاعلة منسجمة متناغمة تصل أعلى درجات التنامي الجمالي والتحفيز الشعوري.

8 – تفعيل الحدث:

ونقصد بـ ] تفعيل الحدث [: تفعيل الحدث الشعري من خلال التركيز على مدلول الحدث، وكثافة المشاهد ضمن سيرورة النسق الشعري العام، وتشعب الحدث في النص الشعري، وانعكاس الحدث على مثيرات الرؤية الشعرية المبثوثة بتأمل، وإدراك شعوري عميق بمثيرات الحدث الشعري المجسد، ويعد تفعيل الحدث من مثيرات القصيدة الحداثية ذات الكثافة التصويرية، والتفعيل النسقي، وتعميق الحدث الشعري، وقد افاد السماوي في مجموعته: ( مسبحة من خرز الكلمات ) من رؤاه الشعرية المفتوحة بالثراء اللفظي والغنى المعرفي، واكتظاظ رؤيته بحساسية شعورية عميقة في تفعيل الحدث، وتعميق الرؤية الشعرية، حتى في أدق التفاصيل الجزئية، كما في قوله: "
أملُكُ من الوطنِ:
اسمُهُ في جوازِ سَفَري المُزَوَّر...
من ندامايَ:
وشاياتِهِمْ...
من بحارِ الأحِبةِ الزَبَدْ...
من لؤلؤِ الحظ ِّ:
الصَدَفْ..
ومن اللذائِذِ:
النَدَمْ!
...........
..........
لستُ حُراً فأطِلُ مِنَ الشُرُفاتْ..
ولا عبداً فأحَطـِّـمُ قيودي...
أنا العبدُ الحرُّ
والحُرُّ العبدُ
محكومٌ بانتِظارِ "غودو" جديد
لم تلِدهُ أمُهُ بعدُ! " (26)<،poesie>
هنا، يعمد الشاعر – في هذا المقبوس – إلى تكريس مداليل حدث الاغتراب، بأسىً شعوري، وانكسارٍ مشهدي جارِح يدل على المرارة والجراح، والوجاعة الداخلية، فالإحساس بالنفي، والاغتراب يشكل درجة مؤلمة من معاناة الشاعر، وقلقه الوجودي، وإحساسه المأزوم بحظه العاثر، لهذا جاء قوله: " أنا العبدُ الحرُّ، والحُرُّ العبدُ "، معمقاً حدث النحس الذي لازمه، أوالحظ العاثر الذي رافقه في مسيرة حياته الطويلة الحافلة بالاغتراب والأسى والجراح والآلام، برؤى جدلية محرضة للقارئ للغوص في غمارها وباطنها الشعوري، وما قوله ذاك إلا دلالة على حالة القلق، والاغتراب، والتأزم النفسي التي يعيشها في ليالي اغترابه، ويأسه الوجودي، كما في قوله: " محكومٌ بانتِظارِ "غودو" جديد، لم تلِدهُ أمُهُ بعدُ! "، وهكذا، يأتي تفعيل الحدث متواشجاً مع الحالة الشعورية الباطنية التي يعيشها الشاعر، إذ إن الاغتراب نابع من جراح الذات، وإحساسها الداخلي قد ينعكس على الكلمات وقد يكون مبطناً ( مسكوتاً عنه ) بين الأسطر الشعرية، نستشفه من خلال رؤانا وإحساسنا بمثيرات الجملة الشعورية من الداخل لا من الخارج من سطحية الكلمات ومداليلها الآنية.
وقد يأتي تفعيله للحدث، كاشفاً بمصداقية عن عمق نصوصه، وحدثها الشعري رغم إيقاعها البسيط، كما في قوله: "
عبرتُ الحدودَ
لا بحثاً عن هويَّةٍ جديدةٍ
ووطنٍ مُستعارْ
إنما كي لا أكونَ قاتِلاً أوقتيلاً...
فأنا لا أجيدُ مهنَة َ القتلِ...
في وطنٍ باتَ مسلخا...
عليَّ البقاءُ حياً...
فقد يحتاجُ العالمُ الأعمى
إلى شاهَدٍ أخرَسَ
للإدلاءِ بصمتِهِ! " (27)<،poesie>
إن تبئير الحدث صوب نفي القتل، وإحلال السلام، يؤكد نظرته الوجودية الإنسانية السامية، ويؤكد من جانب آخر الحدث الشعري المجسد الذي هوحدث إنساني روحاني نبيل يتمثل في إحلال السلام، ونفي المظالم، ومحاربة أشكال القمع والقتل والإبادة والدمار الإنساني، محاولاً خلق لغة شعرية بوحية عميقة، دافعاً الحدث الشعري صوب مصداقية الرؤية، وشموليتها الوجودية الإنسانية، بنفي المظالم، وإحلال الأمان ونفي جميع مظاهر القتل والموت والدمار، ويعد تبئير الحدث وتركيز المدلول النفسي صوبه من مثيرات الرؤية الشعرية في قصائد هذه المجموعة، لتبدوذات أفق تأملي وجودي مفتوح، أوشامل لجميع المظاهر الوجودية وبالأخص المظاهر الإنسانية.

وقد عمق الشاعر حدث السلام، والمحبة في أكثر من موقع في هذه المجموعة، مؤكداً نظرته الوجودية السامية وحسه الإنساني الشعوري النبيل، ليعكس مافي الداخل إلى الخارج، بمصداقية واضحة وإحساس عاطفي سامٍ بالوجود، والإنسان، والكون، كما في قوله: "
لا علاقَةَ لأعيادي برؤيةِ هلالٍ في سماء
وأوراقِ تقويمٍ على جدار..
العيدُ عِندي:
أنّ يملـُـكَ كُلُ طفلٍ...
الدُميةَ َ... الأرجوحَةَ َ... والحقيبةَ َ المدرسية..
وكُلُّ عاشِقٍ:
منديلَ مَسَرَّتِهِ... قيثارَتِهِ..
وحديقة َ نجواه...
أنْ تكُفَّ نواعيرُ الدمِ عن الدوران...
وأنْ تغدوأرغفة ُ الجِياعِ أكبرَ من الصحنِ..
والصحنُ أكبرَ من المائدة...
وأن يتطهَّرَ بُستانُ الوطَنْ...
من خنازيرِ الاحتِلالْ! " (28)<،poesie>
هنا، يبدوالحدث الشعري مبأراً، صوب دائرة السلام، والمحبة، والسعادة، ليبدوالمشهد الشعري مشهد تكريس مظاهر الألفة والأمان في هذا الوجود، الذي طغت فيه نواعير الدماء والقتل والدمار، ودَمَرت معالم الطهر، والنقاء، والصفاء الوجودي، وهذه القصيدة هي ارتدادٌ مرجعي لمثيرات الطهر، والصفاء الوجودي، وليس القتل والدمار، وهذه الخصيصة في تبئير الحدث، وتعميق الرؤية تعد من مثيرات قصائد هذه المجموعة النثرية، وهكذا، يؤسس يحيى السماوي مثيرات قصائده في هذه المجموعة على تبئير الحدث، وتعميق الرؤية، وتكثيف المشهد الشعري وبلورة مغزاه الفني.

9 – قلب الرؤى، وعكس المداليل:

ونقصد بـ ] قلب الرؤى، وعكس المداليل [: أن يتلاعب الشاعر نسقياً بالعبارة، بنقلها من حيز دلالي إلى حيز آخر، ومن نسق دلالي حدثي مباشر إلى آخر أكثر عمقا وامتداداً رؤيوياً ضمن الفكرة الواحدة، لبلورة رؤية معينة، وموقف محدد، وهذا الأسلوب في صوغ العبارة، يثير القارئ بالنسقين المعكوسين، الأول باتجاه السلب، والثاني باتجاه الإيجاب، وبينهما، تتعمق الرؤية، ويزداد رسوخها في ذهن المتلقي، وهنا، يفعِّل الشاعر مدلول العبارة بهذا التشكيل اللغوي المعكوس، وقد لجأ الشاعر يحيى السماوي إلى تشكيل قصائده تشكيلاً فنياً مثيراً، في نصوص هذه المجموعة، لتعكس مقدار تفعيله للرؤية المجسدة ضمن قصائده، كما في قوله: "
ليسَ عيباً
أن أكونَ حِصاناً للناعورِ...
أو
ناعوراً مربُوطاً إلى حِصانْ...
ثوراً مشدوداً إلى مِحراثْ...
أومِحراثاً مشدوداً إلى ثورْ...
العيبُ:
ألا ّ أكونَ شيئاً ذا نفعٍ
في حقولِكِ! " (29)<،poesie>
يعتمد الشاعر – في المقبوس السابق – على عكس الرؤى، وقلب المداليل، من خلال التلاعب بالتشكيل، بعكس التراكيب بين مسميين معكوسين، الأول يتجه صوب الآخر، والآخر يتجه صوب الأول، لإضفاء جومن التلاعب التشكيلي بحركة الدلالات، لقلب الرؤى، والمداليل، وعكس الأفكار، كما في قوله: " ليسَ عيباً ، أن أكونَ، حِصاناً للناعورِ...، أو، ناعوراً مربُوطاً إلى حِصانْ...، ثوراً مشدوداً إلى مِحراثْ...، أومِحراثاً مشدوداً إلى ثورْ "، إن هذا التلاعب بالعبارة بقلب الأفكار، وعكسها يدل على محاولته التلاعب بالأنساق اللغوية بتعزيز الرؤية بوساطة تحريك المعكوسات، أوالمتنافرات، لإثارة الرؤية، وتحفيزها بذهن المتلقي، فهويريد أن يكون ذا قيمة مرجعية بالنسبة لمحبوبته، أن يكون ذا نفع يسدل بنعمائه عليها، وهي تعم بخصوبتها الجمالية عليه، معتمداً التلاعب التشكيلي النسقي، لإثارة القارئ، وتعزيز رؤيته.

وقد يعتمد على هذا الأسلوب التعاكسي في قلب الرؤى، وتحفيز المداليل العاطفية في سياقات قصائده الغزلية، التي تزيد جمال النسق الغزلي، وتبلور صداه التأملي المعكوس، كما في قوله: "
خطيئتُكِ
أنَكِ دونَ خطيئةٍ...
لا عيبَ فيكِ
سوى عذابي!
كيفَ أملأ ُ بالشَهدِ صَحني...
وقارورتي بالرحيق...
إذا كانتْ حدائِقُكِ
أعلنتِ العِصيانَ
على نحلي؟ " (30)<،poesie>
إن هذا الأسلوب التعاكسي في قلب الأفكار، وعكس الرؤى، وبعثرة المداليل لدليل على تلاعبه بالمساقات الشعرية، لإثارة المواقف الشعورية العاطفية، كما في قوله: " خطيئتُكِ ، أنَكِ دونَ خطيئةٍ...، لا عيبَ فيكِ، سوى عذابي! "، إن ما يميز هذا الأسلوب التعاكسي تفعيل العبارة بالنقيض أوالمضاد، لتنطق برؤى الشاعر المصطرعة، أوالمتنافرة، من خلال قدرته الفائقة على تلوين أنساقه الشعرية، بالمؤتلفات اللغوية حيناً، والمتعاكسات، أوالمتباعدات اللغوية حيناً آخر، ليبدوالنسق الشعري – لديه – فاعلاً تحفيزياً مثيراً في جذب القارئ إلى دائرة نصوصه، وتفعيله لتلقي النص بانتباه، وتأمل، وإدراك معرفي بمثيرات هذه التشكيلات الجملية المتعاكسة في نسقها الشعري.

وقد يعمد الشاعر يحيى السماوي إلى خلق هذا الأسلوب التعاكسي في ربط الأنساق اللغوية، لبث رؤاه بابتكار وحنكة لغوية تبين فهمه العميق للمثيرات اللغوية والرؤيوية التي تنطوي عليها نصوص هذه المجموعة، ومن ذلك قوله: "
الدينُ محبة ٌ
المحَبة ُ دينٌ...
هما شَفَتانِ لفَمٍ واحد...
هل من نهرٍ
بضفَةٍ أخرى " (31)<،poesie>
إن هذا الأسلوب التعاكسي في التشكيل اللغوي الشعري في قوله: " الدينُ محبة ٌ، المحَبة ُ دينٌ... "، يؤكد نزوع السماوي المطلق في هذه المجموعة لخلق رؤيته الجدلية إلى الأشياء، من خلال التلاعب النسقي، أوعكس الأنساق اللغوية، لتأكيد المعنى، وتعميق الرؤية الشعرية في ذهن المتلقي، إذ إن الجمل الجدلية الشعرية تترك إيقاعها الدلالي مغروساً ذهنياً في ذاكرة المتلقي أكبر فترة ممكنة، فلا يمحي أثرها أويزول، نظراً لجدلها الإسنادي، وحنكتها المراوغة.

وهذا التعاكس في قلب الرؤى، وعكس المداليل، قد يكون فانتازياً، أولغاية لغوية، أورياضة ذهنية، لغاية التلاعب اللغوي، وقلب الرؤى، كما في قوله: "
جنونُ قلبي:
الدليلُ
على سلامةِ عقلي!
.......
نهرُ رُجولَتي
لا يستَعذِبُ الجَرَيانَ
إلا
في
حقولِ أنوثَتِكِ " (32)<،poesie>
إن هذا القول المعكوس: " جنونُ قلبي:، الدليلُ، على سلامةِ عقلي! "، يدفع القارئ إلى التأمل ملياً في مدلول هذه العبارة، ومقدار ائتلافها مع ما يؤمن به أويعتقد، إذ سرعان ما يبحث في مغزاها فيلحظ أنها تتضمن حكمة، أورؤية صحيحة بأسلوب معكوس، أومتناقض، وإن الشاعر اعتمد الأسلوب الالتفاتي التعاكسي في تعزيز مدلول العبارة، وتعميق مغزاها، إذ أردف اللفظتين المتعاكستين: ( الرجولة، الأنوثة ) في تشكيلة لغوية نسقية متوازنة قد تبدومعكوسة للقارئ، لكنها تتضمن مغزى محدداً، ودلالة واضحة، إن هذا الأسلوب الفانتازي في التشكيل اللغوي يثير القارئ، ويدفعه إلى تأمل بداعة نصوصه النثرية، وقدرتها على تلوين أساليبها برؤى جديدة، ومداليل جديدة.

10- اقتصاد العبارة:

ونقصد بـ ] اقتصاد العبارة [: صوغ العبارة صوغاً لغوياً مقتصداً بمداليل كثيفة، وبعبارات رشيقة محملة بعبق كثيف من المعاني والدلالات، وهذا الأسلوب في صوغ العبارة وتشكيلها يعد من مثيرات الإيجاز الفني التي تعتمده النصوص الشعرية، أوالأدبية ذات الإيحاء العميق، والشاعرية العظيمة، وقد استطاع السماوي أن يزيد قصائده إثارة تشكيلية، وعمقاً رؤيوياً من خلال هذا التآلف الفني النسقي الدقيق في تشكيل العبارة، وتعزيزها بالاقتصاد اللغوي، والإيجاز الفني، كما في قوله: "
الفارِغونَ
يظنونَ الكأسَ فارِغاً
مع أنهُ
مملوءٌ بالهواءْ ". (33)<،poesie>
إن هذه المقطوعة الصغيرة تؤكد إيجاز عبارته، واقتصادها اللغوي، وتحميلها بالدلالات العميقة، إذ تتضمن هذه المقولة حكمة عميقة، مردها: أن نظرة الآخرين إلى الأشياء قد تكون سطحية، أوساذجة، فالظاهر قد لا يعكس الباطن، إذ إن الباطن قد يكون مملوءاً بالقيمة والعظمة في حين أن الظاهر لا يبين عن جوهر الأشياء وقيمتها وعظمتها وسلامة معدنها.
وقد تأتي العبارة في بعض قصائده مقتصدة لغوياً، لكنها تحمل دلالات كثيرة، ورؤى عديدة، كما في قوله: "
صغيرٌ – كالبُرتُقالةِ – قلبي...
لكِنَهُ
يسَعُ العالَمَ كُلـَّـهُ! ". (34)<،poesie>
إن قارئ هذه العبارة يؤكد إنسانيته العظيمة، ورؤيته الممتدة، وما تنطوي عليه من نظرة إنسانية سامية شاملة للوجود، فقلبه الطيب الدافق بالمحبة يسع الوجود بأكمله، إن مدلول العبارة العظيم، وبلاغتها اللغوية دليل توظيف الشاعر العبارة بمدلول جمالي يشي بالشعور الباطني والحس الإنساني النبيل، باقتصاد لغوي، وإيجاز فني لا يخلومن متعة، وفكاهة، أومباغتة رؤيوية، وهذا ما نلحظه كذلك في قوله: "
أنتِ لستِ شمساً
وأنا
لستُ زهرةَ دوارِ الشمس...
فلماذا
لايتَجِهُ قلبي
إلا نحوَكِ؟ ". (35)<،poesie>
إن هذا المدلول المفاجئ في تشكيل العبارة، بالفكاهة، والاقتصاد اللغوي، يثير القارئ، ويبعث فيه المتعة والدهشة الإسنادية، بهذا القول الساحر الذي لا يتوقعه القارئ على الإطلاق، رغم بساطته ووضوحه المقصدي ونثريته البسيطة التي تبدوللقارئ، وهذا الأسلوب لا يتوقعه وهوأسلوب السهل الممتنع، كما في قوله: " فلماذا، لايتَجِهُ قلبي، إلا نحوَكِ؟ "، ولعل هذا الأسلوب في التشكيل يؤكد تنوع أساليبه الشعرية في قصائد هذه المجموعة، لتغدوذات حياكة شعرية لافته بتلوين أساليبها اللغوية، وطرائقها التشكيلية، وحنكتها التعبيرية، لدرجة لافتة تستقطب القارئ إليها وإن خلت من الوزن الإيقاعي الشعري فإنها لم تخلُ من جمال وأناقة وكثافة رؤيوية تفوق الكثير الكثير من الدواوين الشعرية المكتظة بالإيقاع والوزن.

نتائج وإستدلالات:

1 – إن نصوص هذه المجموعة متنوعة الطرق والأساليب الشعرية، وهي ذات خصوبة جمالية، ليس – فقط – بأنساقها اللغوية المفاجئة، وإنما برؤيتها الجدلية، المراوغة في بث الأفكار، والرؤى، بحمولات دلالية جديدة تشحن الموقف الشعوري المجسد، وتزيد بؤرة تفاعل الرؤى، والمداليل الشعرية، وهذه القدرة التي تملكها نصوصه في هذه المجموعة تفوق إثارة أشعاره في بعض الأحيان.

2 – إن حرص السماوي على خلق لغة إبتكارية جعله يغلب التشكيل على الرؤية، إذ سمت لديه الزخرفة الفنية والزركشة النسقية على حساب الرؤية الشعورية المجسدة في بعض الأحيان، لكن هذا لم يقلل من جمالية اللغة، وسحرها الفني، وانسيابها وتدفقها مع العاطفة، وسموها التأملي الشعري.

3 – إن محاولة السماوي خلق بنية تشكيلية ذات قيمة لغوية عظيمة أوقعه في التكلف في بعض التشكيلات اللغوية، لكن هذا التكلف لم يأتِ إلا لإضفاء أناقة تشكيلية على التراكيب، لتبث مافي داخله بفنية بالغة، واقتصاد لغوي عجيب.

4 – إن السمواللغوي – في نصوص هذه المجموعة – أضفى عليها طابعاً جمالياً، لدرجة يمكن أن نقول فيها: إنه خلق لغة أدبية جديدة تفوق لغة الشعر في بعض الأحيان، إذ يسموفيها عاطفياً، ويعزز إيحاءاتها مشهدياً، بتلوين الأنساق اللغوية، وتفعيل المداليل الشعرية، ضمن العبارة الواحدة، أوالمقطع الشعري الواحد، وهذا ما يجعله فناناً تشكيلياً في تحسس مظاهر الأشياء، وتلمس مظاهر إبداعها، واعتصار مداليل أنساقها الائتلافية المنسجمة التي تنساب مع شعوره العاطفي المتقد بالرهافة، والدقة، والابتكار اللغوي، لترقى أعلى المستويات الجمالية.

* فصل من كتاب قيد الطبع بعنوان " موحيات الخطاب الشعري عند يحيى السماوي "

الحواشي:

  1. غركان، رحمن، 2010 – النص في ضيافة الرؤيا، (دراسة في قصيدة النثر العربية)، دار رند للطباعة، ط1، ص 77.
  2. المرجع نفسه، ص 76.
  3. السماوي، يحيى، 2010 – مسبحة من خرز الكلمات، دار التكوين، دمشق، ط1، ص 91.
  4. المصدر نفسه، ص 90.
  5. المصدر نفسه، ص 95 – 96.
  6. المصدر نفسه، ص 198.
  7. العلاق، علي جعفر، 2007 – هاهي الغابة فأين الأشجار، ص 31.
  8. السماوي، يحيى، 2010 – مسبحة من خرز الكلمات، ص 130.
  9. غركان، رحمن، 2010 – النص في ضيافة الرؤيا، ص 127.
  10. الخرابشة، علي قاسم محمد، 2008 – الإبداع وبنية القصيدة في شعر عبد الله البردوني، مجلة عالم الفكر، مج 37، ع 1، ص 235 – 236.
  11. درويش، أسيمة، 1992 – مسار التحولات ( قراءة في شعر أدونيس )، دار الآداب، بيروت، ط1، ص 258.
  12. فضل، صلاح، 1988 – علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، ص 256.
  13. السماوي، يحيى، 2010 – مسبحة من خرز الكلمات، ص 130.
  14. العيد، يمنى، 1985 – في معرفة النص، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، ص 127.
  15. السماوي، يحيى، 2010 – مسبحة من خرز الكلمات، ص 92.
  16. المصدر نفسه، ص 125.
  17. المصدر نفسه، ص 196.
  18. أدونيس، 2005 – زمن الشعر، دار الساقي، بيروت، ط6، ص 237 – 239.
  19. العلاق، علي جعفر، 2007 – هاهي الغابة فأين الأشجار، ص 59.
  20. السماوي، يحيى، 2010 – مسبحة من خرز الكلمات، ص 156.
  21. المصدر نفسه، ص 156.
  22. المصدر نفسه، ص 158 – 160.
  23. المصدر نفسه، ص 162.
  24. المصدر نفسه، ص 112.
  25. المصدر نفسه، ص 100.
  26. المصدر نفسه، ص 146 – 147.
  27. المصدر نفسه، ص 145.
  28. المصدر نفسه، ص 179 – 180.
  29. المصدر نفسه، ص 128.
  30. المصدر نفسه، ص 130.
  31. المصدر نفسه، ص 124.
  32. المصدر نفسه، ص 94.
  33. المصدر نفسه، ص 131.
  34. المصدر نفسه، ص 89.
  35. المصدر نفسه، ص 90.
بقلم: عـصـام شـرتح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى