الثلاثاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١١

الغيرة الوسط، لا وكس ولا شطط

محمد إفرخاس

الغِيرَةُ غريزة فطرية خلقها الله داخل كل شخص مِنَّا، كأيِّ صفة توجد داخلنا، ولكنْ هناك من تكون الغيرة لديه معقولة، وهناك من تتعدَّى الغيرة لديه حدود اللاَّمعقول واللَّامحتَمَل. وربما توصَف الغيرة بأنها شعور مُؤْلِمٌ عند شخص يرغب في امتلاك حبيب واحتكار مشاعره، وقد تفتِكُ الغيرة بالخطيبيْن وتُنْهِي ما كان بينهما.

ويعزو علماء التربية والنفس أسباب الغيرة إلى التنشئة الاجتماعية والإحساس بالظلم وغياب الكفاءة والشعور بالنقص والفشل والخوف من المستقبل , مؤكِّدِين أن الشخص الغيور يحتاج إلى علاجٍ واحتضانٍ ومساعدةٍ، فهو ليس عدوّاً بقدر ما هو مريض، وعلينا مساندتُه وعدم استفزازه، ولابد من التعاون معه لتخطِّي حالتِه.

فما حقيقة الغيرة؟ وكيف تتراكم ترسُّباتُها في النفس البشرية؟ وكيف وضَّحَتْها شريعتُنا الغراء؟ وما الفرق بين غيرة الأزواج والمُحِبِّين والمحْبُوبين والضرائر والأصدقاء؟ وهل تَدْفَعُ بالمُبْتَلِينَ بها إلى الشَّكِّ والرِّيبَة؟

هذا وغيرُه، سنَسْتَبِينُهُ في هذا المقال، وعلى الله قصد السبيل وله المرْجِعُ والمآل.
الغِيرَةُ في الدِّين الإسلاميِّ:

إن الغيرة- كما يقول ابن القيم- هي أصل الدين، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تُميت القلب فتَمُوتُ الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة، فمثلها في القلب مثل المناعة التي تدفع المرضَ وتقاوِمُه، فإذا ذهبتْ وجدَ المرض المحلَّ قابلا ولم يجد دافعا فتَمَكَّنَ، فكان الهلاك.

روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتيَ العبدُ ما حرَّم عليه).

ورُوِي عن ابن مسعود أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (ما أَحَدٌ أغير من الله، ومِنْ غِيرَتِه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ وما أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه، وما أحد أحب إليه العُذْر من الله، من أجل ذلك أرسل مبشرين ومنذرين).

وروي أن سعد بن عبادة قال: لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغْيَرُ منه، واللهُ أغيرُ مني، ومن أجل غيرة الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتصاف الله تعالى بهذه الصفة ، والأدلة على ذلك ، وأنها صفة كمال ، كما رد على من زعم أنها انفعالات نفسية). [ الفتاوى 6 / 120 ] .

وكان الحسن يقول: (أَتَدَعُونَ نساءَكُم لِيُزَاحِمْنَ العُلُوجَ في الأسواق، قَبَّحَ الله من لا يغار!!). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، ومن الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله ، فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة، والغيرة التي يبغضها الله، فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحبه الله، اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة،والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل) .وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لغيور، وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة عليها السلام: (أيُّ شيء خيرٌ للمرأة؟) قالت: أن لا تَرَى رجلا ولا يراها رجل، فضَمَّها إليه وقال: (ذريةً بعضها من بعض)، فاستحسن قولها. وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسدُّون الكوى والثُّقُبَ في الحِيطان لئلا تطَّلع النسوان إلى الرجال. ورأى معاذ امرأته تطَّلِعُ في الكوة فضربها، ورأى امرأته قد دفعت إلى غلامه تفاحة قد أكلت منها فضربها. وقال عمر رضي الله عنه: (أَعْرُوا النساءَ يلْزَمْنَ الحِجَالَ). وإنما قال ذلك لأنهن لا يرغبن في الخروج في الهيئة الرثة.

ويَذْكُرُ بعض المؤرخين في حسنات الحجاج بن يوسف الثقفي: "أن امرأة مسلمة سُبِيَتْ في الهند، فنادتْ: "واحَجَّاجاه". وبَلَغَهُ ذلك، فجعل يقول: "لبيكِ". وأنفَقَ سبعة ملايين من الدراهم حتى أنقذ المرأة".

وقال القاضي عياض: الغيرة مشتقَّة من تغيُّر القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدُّ ما يكون ذلك بين الزوجين ".

الغيرة بين الزوجين:

الغيرة في العلاقة بين الرجل والمرأة هي شعور طبَعِيٌّ تحافظ على استقرار العلاقة، حيث يسعى كلٌّ من الطرفين للاحتفاظ بالود والحب نحو الآخَر، ومراعاة شعوره، والاهتمام به، إذاً فهي مطلوبة، و لكنْ في حدود المعقول، فمن خلالها يُظْهِرُ كلُّ طرف حُبَّهُ للآخَر واهتمامَه به.

وهي شعور مُؤْلِمٌ إذا تعدَّى حدَّه وزاد عنه كثيراً، فكثيراً ما نرى المشاكل تنشأُ بين الزوجين بسبب الغيرة، وقد تطغى هذه الغيرة أحياناً وتصِلُ إلى حَدِّ الشك والظن والحرمان، وربما ينتهي الحبُّ بين الآخَرِين بسبب هذه الغيرة, إذ إنها قد تُوَلِّدُ انعدام الثقة المتبادَلة بينهم .
فالغيرة فطرة الله تعالى، فطَرَ عليها الإنسانَ، ذكراً كان أم أنثى، وهي من صميم أخلاق الإسلام، وهي سياج حافظ للمرأة مما يراد بها.

وهي تَغَيُّرُ القلب وهَيَجَانُ الغضب بسبب الإحساس بمشاركة الغير فيما هو حَقُّ الإنسان ، و أَشَدُّ ما يكون ذلك بين الزوجين ، وهذه الغريزة يشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون في النساء أكثرَ و أشدَّ.

ولله دَرُّ الشاعر:
ما أحْسَنَ الغيرَةَ في حينِها
وأقْبَحَ الغيرةَ في غيرِ حِينْ
من لم يَزَلْ مُتَّهِماً عرْسَهُ
مُتَّبِعاً فيها لقول الظُّنُونْ
يُوشِكُ أن يُغْرِيَهَا بالذي
يخاف أن تبْرِزَهَا للعُيُونْ
حَسْبُكَ مِنْ تحْصِينِهَا وضْعهَا
منكَ إلى عِرْضٍ صحيح ودِينْ
لا يطعن منك على ريبة
فيَتْبَعُ المقْرُونُ حَبْلَ القَرِينْ

وحيث إن البشر يتفاوتون في المدارك والأفكار، والثوابت والمبادئ، فإن أشرف الناس وأعلاهم قدرا وهمة ، أشدُّهم غيرة على نفسه وبخاصة أهله، ومن حُرِم الغيرة حُرِم طهر الحياة ، ومن حُرِم طهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام ، ورحم الله ابن القيم يوم قال: " إذا رحلت الغيرة من القلب، تَرَحَّلَتْ المحبَّةُ، بل تَرَحَّلَ الدينُ كلُّه " [ الفوائد لابن القيم ].

وذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في حوادث سنة ست وثمانين ومائتين: "قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري(مدينة في إيران اليوم)، فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسْفِرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمَّموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدَّعيه". فأَقَرَّ بما ادَّعتْ ليَصُونَ زوجتَه عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفَتْ ذلك منه، وأنه إنما أَقَرَّ ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة"اهـ. زاد الحافظ السمعاني في "الأنساب": "فقال القاضي وقد أُعْجِبَ بغيرَتِهِمَا: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق"اهـ.

الغيرة الزائدة:

تُعَدُّ مشاعر الغيرة القليلة التي تنتاب المرء من الأمور الطبيعية، ولكنْ إذا زاد هذا الشعور عن الحد، وأصبح خارجاً عن السيطرة فقد يؤدي إلى الكثير من المشكلات، وإفساد العلاقات بين الأشخاص. ولا غرو في أن الغيرة الزائدة عن اللزوم تُسَبِّبُ مشاكل، فالإنسان بطبيعته لا يحبُّ من يحصي عليه كل تصرفاته و تحرُّكاته، و يسألُه عن كل صغيرة وكبيرة، و يُشَكِّكُ بأخلاقه، فهو يَعتبِرُ الغيرة كالخَنْقِ لأنفاسه، و كالقَيْدِ لحريَّتِه.

وأَفْصَحَتْ الدكتورة نهلة السيد ناجي، أستاذ الطب النفسي المساعد بطب عين شمس قائلة: إن الأزواج يكادون أن يجمعوا على أن الغيرة الخفيفة ضرورية للحياة الزوجية، وأن حياة الزوجين بدون غيرةِ كلٍّ منهما على الآخَر هي أشبه بالطعام الذي ينقصه الملح، لا يستسيغه المرء.

والزوجة الذكية يمكنها أن تتحكَّمَ بأعصابها إذا تجاذبتها نوازع الغيرة على زوجها من امرأة أخرى، فتضْغَطُ على شعورها قبل أن تبدأ بسيول الغضب، عند ذلك تكون لحظة التوتُّر قد زالَتْ، ويكون العقل قد تَدَخَّلَ وقال كلمته، و تُثْبِتُ المرأةُ تعقُّلها وحكمتَها عندما تنتصِرُ على لحظات الخطر، وتجتاز فترة التوتُّر الذي يُنْذِرُ بالانفجار.

عند ذلك يفتح لها العقل أبواباً من المعرفة والإدراك، ويخاطِبُهَا بوضوح، بأن الغيرة الزائدة ليست إلا معنىً مرادفاً للتفاهة وخراب البيوت.

وأوضحت مستشارة التربية (ماريا الصفتي يوتا)، من العاصمة الألمانية برلين، أن الغيرة تنشأُ غالباً، عندما لا يتمتع المرء بقدر عالٍ من الثقة بالنفس، ويفكر دائماً بأن الآخَرِين أجملُ أو أفضلُ منه، عندئذ يَشُكُّ المرءُ في نفسه وفي قدراته الذاتية أو في مدى حُبِّ الآخَرين له. وفي حالة الغيرة بين الأزواج فإن العلاقة - على العكس من ذلك - تفتقر إلى الثقة اللازمة في شريك الحياة، وهذه الثقة يجب بناؤها من البداية، وتحتاج عادة إلى بعض الوقت.

وتقول الخبيرة في التربية الاجتماعية بمدينة ميونيخ جنوب ألمانيا، يوتا شتيلر: «يتَّسِم رَدُّ فعل الأشخاص دائماً بالغيرة عندما يكونون غير متأكدين مما إذا كان شريك الحياة أو شخص آخَرُ مُهِمٌّ -مثل الأم أو الأب- مازال يحبهم بالفعل، ومن هنا ينشأ الخوف من فقدانه».

وأوضحَتْ إليزابيث رافاوف، الحاصلة على دبلوم في علم النفس بمدينة كولونيا غرب ألمانيا: «إذا كانت مشاعر الغيرة قوية للغاية، فيبدأ الشخص الغيور في أغلب الأحيان في اتخاذ تدابير المراقبة». ومن ضمن هذه التدابير على سبيل المثال: مراقبة الهاتف الجوال لشريك الحياة سِرّاً. وإذا كان الوضع كذلك، فإن مشاعر الغيرة هذه ليست لها علاقة بالحب، ولكنها ترجع إلى الشعور بعدم الأمان، وانخفاض الثقة بالنفس، أو بسبب المخاوف التي قد تعود على سبيل المثال إلى مرحلة الطفولة.

ومن خلال انعدام الثقة باستمرار، والشكوك التي ليس لها أساس من الصحة، تصبح مشاعر الغيرة من الوسائل القاتلة للعلاقات بين الأشخاص. ولذلك تنصح الخبيرة الألمانية (يوتا شتيلر) بأنه يمكن أو ينبغي للمرء الغيور جداً طلب المشورة أو المساعدة النفسية، «لأن الغيرة ليست من الصفات الفطرية للإنسان، ولكنها من الخصائص المكتَسَبَة، وهذا يعني أنه يمكن تغيير التصرفات والسلوكيات». ومِنْ ثَمَّ فإن الشخص الغيور جداً يمكنُهُ تعَلُّمُ ألَّا يكون كذلك، أو على الأقل ألا يكون بدرجة الشدة نفسها.

الغيرة عند النساء:

يصف الدكتور فتحي الشرقاوي -أستاذ علم النفس ووكيل كلية الآداب بجامعة عين شمس- المرأة بأنها أشد غيرة من الرجل، لأنها تشعُر بجرح في كبريائها وأُنوثتها. ولكنَّ رَدَّ فعلِها عادة ما يكون عدوانيا سلبيا يتمثل في المكائد والكيد والدسائس تجاهه‏.‏ فإذا ظهر من المرأة عدوان واضح نتيجة الغيرة فذلك ليس وليد اللحظة، ولكنها تراكماتٌ عبر مراحل عديدة‏,‏ حينئذ يظهر العنف بصورة فجة تصل إلى قتل الزوج أو إلحاق الأذى البدني به‏..‏ ولذلك يجب على الزوجة أن تلجأ إلى أسلوب التفريغ الموقفي القائم على العتاب واللوم وإظهار إحساسها بالظلم الواقع عليها من قبل الزوج من خلال الفضفضة له، حتى لا تصل إلى مرحلة الانفجار الكلي المتمثل في أي شكل من أشكال العنف‏.‏

وفيما يتعلق بالمرأة التي تشعر بالغيرة، فقد حذَّرَتْ أحدثُ الدراسات التي قام بها فريق من المتخصصين بجامعة شيكاغو الأمريكية، مُؤَكِّدِينَ أن عدم الاستقرار النفسي يدفع المرأة للشعور بالغيرة، وهو ما أكدت عليه الدكتورة سامية الجندي أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة الأزهر، حيث قالت: إن أغلب الأمراض الجسمانية التي تَشْعُر بها المرأة سببُها القلق والتوتُّر. ويُعَدُّ الشعور بالغيرة من أكثر المشاعر الإنسانية التي تزداد فيها حِدَّةُ التوتر والقلق، بل إن عملية الضغط النفسي المتولِّدة من الإفرازات الهرمونية تتسبب في ارتفاع ضغط الدم المؤقَّت، وآلامٍ بمنطقة الرقبة والظهر، حيث تُعَدُّ من أكثر المناطق تعرضا للتقلُّص العضلي.

وبالتالي على المرأة أن تَعِيَ جيدا أن هذه المشاعر المبالَغ فيها تعود عليها هي وحدها بالضرر، وتزيد من خطورة التعرض للأمراض الناتجة عن التأثيرات السيكولوجية عندما تأوي إلي فراشها وهي في حالة عصبية‏.‏
وقد أكدت دراسة تشيكية حديثة: أن الغيرة ليست سلوكاً مكتَسَباً ولكنها أمر وراثي يولَد الإنسان به، مشيرةً إلى أنها تقف وراء الغيرة المزمنة نقصُ المشاعر الإيجابية أثناء فترة الطفولة.

وأوضح الدكتور (ميروسلاف بالزاك) الذي شارك في الدراسة، أن أكثر من ثلث الناس الغيورين يرثون هذا المرض من أهاليهم من الأب أو الأم، مؤكدين أن الغيرة يمكن أن تأتي من الشعور بالنقص والحرمان في المشاعر التي عاشها الإنسان في طفولته?، فحين لا يشعر الطفل أثناء نموه بالقدر الكافي من الحب والتفهُّم له، فإن احتمالاتِ ميلِه إلى أن يصبح غيوراً مزْمِناً كبيرةٌ في المستقبل.

وأَكَّدَتْ الدراسةُ التي شملت 7000 شخص في20 دولة أن نفس الأمر يجري على الأطفال الذين ينْمُون في وسط عائلي تنافسي، حيث يفضِّل الأهل طفلاً على آخر لدى الأطفال الذين كانوا شهوداً على مظاهر الغيرة بين أهاليهم. ورأى 785 من المشاركين أن الغيرة هي توابل الحب وشيء طبعي ومهم, وأظهرت أن الأتراك والإسبان هم الشعوب الأكثر غيرة.

والحَقُّ أن الغيرة لم تَسْلَمْ منها حواءُ أنَّى عاشَتْ وكيف تَرَبَّتْ ومهما بَلَغَتْ من رجاحَةِ العقل ورَحَابَةِ الصَّدْر. ويَشْهَدُ لهذا الكلام ما رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنتُ أَغَارُ على اللاتي وَهَبْنَ أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أَوَ تَهَبُ المرأَةُ نفسها ؟ فلما أنزل الله عز وجل " تُرْجِي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت " قالتْ : قلتُ : والله ما أرى ربَّكَ إلا يسارع لكَ في هواكَ ( أي يخفف عنك ويُوَسِّعُ عليك في الأمور) [ رواه البخاري ].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية ، صنعتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثَتْ به ، فأخذني أَفْكَلُ (أي أصابتني رعدة بسبب الغيرة الشديدة) فكسرْتُ الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارةُ ما صنعتُ ؟ قال " إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام " [ رواه النسائي ].

ومما يُحْكَى عن شدة غيرة النساء: أن رجلا كان مضطجعا إلى جنب امرأته، فخرج إلى الحجرة، فجامع جاريةً له، فاستنبهَتْ المرأة فلم تَرَهُ، فخرجَتْ، فإذا هو على بطن الجارية، فرجعَتْ، فأخذَتْ سِكِّينا، فخرج الرجل في الحال، ووجد زوجتَه تَحْمِلُ السكين فقال لها: ما الخبر؟!
فقالتْ: ما الخبر؟! وقد وجدتُكَ عند الجارية، فجئتُ بالسكين لأنتقمَ منكما!

قال الرجل: ما كنتُ! فأنتِ حالمة من شدة النعاس والنوم. فقالت: بلى! وقد نهى الإسلام أن يقرأ أحدُنا القرآن وهو جُنُبٌ، فاقرأْ ما تيسر.

وقد كانتْ هذه المرأة أُمِّيَّةً لا تميِّز بين القرآن وغيرِه، فأنشدَها:

أتانا رسول الله يتلو كتابه
كما لاح منشور من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العَمَى فقلوبنا
به موقنات أنَّ ما قال واقع
يبيت يُجَافِي جنبه عن فراشه
إذا استثقلَتْ بالكافرين المضاجع

قالتْ: آمنتُ بالله، وكذَّبْتُ بَصَرِي. وقد انْطَلَتْ عليها الحِيلَةُ. ومعنى يجافي جنبه عن فراشه: أي يتنحَّى عن فراشه ويقوم للصلاة في بطن الليل، وهذه من صفات المؤمنين.

ومن غرائب الغيرة أيضا:

ما حكاه المبرد عن إسحاق بن الفضل الهاشمي قال: كانت لي جاريةٌ، وكنتُ شديدَ الوَجْدِ بها، وكنتُ أهاب ابنة عمي فيها. فبينما أنا ذات ليلة على السرير إذ عرض لي ذِكْرُها، فنزلتُ من على السرير أريدها، إذ لدغتني في طريقي عقرب، فرجعتُ إلى السرير مُسْرِعا وأنا أَتَأَوَّهُ. فانتبهَتْ ابنةُ عمي وسألتني عن حالي، فعَرَّفْتُها أنَّ عقربا لدغني.

فقالت: أعلى السرير لدغتك العقرب ؟! فقلتُ لا ، قالت أُصْدُقْنِي الخبر ، فأعلمتُها فضحِكَتْ، وأنشدتْ :

ودَارِي إذا نام سُكَّانُها
تُقيمُ الحدودَ بها العقربُ
إذا رام ذو حاجة غفلةً
فإن عقاربها تَرْقُبُ

ثم دعت جواريها وقالت : عزمتُ عليكنَّ أن تقْتُلْنَ عقربا هذه السنة !! (أي : إياكم أن تقتلوا أيَّ عقرب).

ويقول الدكتور فكري: إنه مما يمكن أن يساعد به الزوج زوجته التي تحوَّلَتْ غيرتُها إلى شكٍّ وخوف على حياتها معه، بأن يطمْئِنَها أنها الوحيدة في حياته، وأنه لا يفكِّر في الزواج عليها أو تركِها، والبحث عن المميزات الإيجابية لديها، وجعلِها في قائمة، وبين الحين والآخَر يذْكُرُ لها واحدة منها، هذا يجعلها تطمئن. ويُسْمِعُهَا كذلك أنه تزوَّجَها لأنه أَحَبَّهَا من بين نساء العالم، وهذا هو العلاج الأساسيُّ لتحطيم الغيرة التي لديها.

وعندما تكون الزوجة عصبية، يجب ألا يناقشَها زوجُها أو يَصُبَّ على عصبِيَّتِها الزيتَ، وإنما يتركُها ترتاح. ولْيَحْذَرْ مَدْحَ امرأة أو فتاة أمامها مهما كان الموقف، لأن المدح يزرع في نفسها الغيرة، فالمدح لامرأة أخرى من أخطر ما يدمر حياة المرأة التي تغار.

كما أن الهديةَ واستحسانَ الزوجِ لأعمال زوجته بين الحين والآخَر، من عناية بالأطفال ونظافة البيت مما يُعزِّزُ ثقتها بنفسها، فيجعلُها ترمي بُدُورَ الغيرة وراءً ظهرياً.

غيرة الرجال:

وإذا كانت المرأة تغارُ فإن الرجل نفسه لا يخلو من نوازع الغيرة وبُذُورِها، حيث أشارت دراسة نفسية إلى أن الرجل أيضاً يَغَارُ من جمال الآخَرين، وأن الغيرة ليست مشاعر قاصرة على النساء فقط. فكما تغار المرأة من جمال قريناتها وأناقتهن، يشعُر الرجل بنفس المشاعر. وأَكَّدَتْ الدراسة أن %64 من الرجال يَلْفِتُ انتباههم أناقة الرجال الآخَرين، وجودة ونوعية الملابس التي يلبسونها، ويأخذ الرجل في اعتباره هذه الأناقة وطريقة ارتداء الملابس، عند حُكْمِه على الآخرين! و47% من الرجال يشعرون بالغيرة من أناقة الآخَر ووسامته وربما جاذبيته وقدرته على لفت الانتباه وخطف الأضواء. و31% منهم خاصة من الذين لا يتمتعون بدرجة عالية من الوسامة أو جمال الوجه، يغارون من جمال ووسامة الآخَرين.

و33 %منهم يغارون من جسم الآخَرِ الرياضيِّ وعضلاته المفتولة، وطوله وفحولة جسمه. كما وجدت الدراسة علاقةً بين مستوى الرجل الثقافي والاجتماعي، ودرجة اهتمامه بمسألةِ شكلِ وجمالِ الرجل الآخَر. فكلما ارتفعت درجة ثقافة الرجل ومستواه الاجتماعي، كلما كان أقلَّ التفاتاً وتأثراً بالغيرة.

وغيرة الرجل –كما يقول د. فتحي الشرقاوي- إذا اشتدت فإنها قد تؤدي إلى إيذاء الزوجة بضربها أو بأي شكل آخَر من أشكال الإيذاء البدني الذي قد يصل أحيانا إلى حَدِّ القتل‏.‏ ولابد هنا أن نفرق بين نوعين من الحب‏,‏ الأول: يقوم على التملك، وفيه يشعر الزوج بأن الزوجة امتداد لممتلكاته، و يزداد إحساس التملك كلما زادت الغيرة القاتلة‏,‏ والثاني: حب الكينونة حيث يحب الزوج زوجته باعتبارها كيانا منفصلا عنه له شخصيته المستقلة ولكنها مكملة له، وهنا تصبح الغيرة رمزاً للحب‏.‏

ومن الأمور المفيدة أيضاً في حالة الغيرة أن يتم التحدث مع صديق أو شخص موثوق به حول هذا الموضوع، كما ينبغي بصفة خاصة التحدث مع الشخص المعني نفسه حول مشاعر الغيرة هذه. وتنصح أخصائية علم النفس (إليزابيث رافاوف)، قائلة: «ينبغي على المرء أن يفصح عما يُقْلِقُهُ»، ومن خلال ذلك يمكن التغلب على بعض الأفكار المسبِّبَة لمشاعر الغيرة.
جُمْلَة مِمَّا وَرَدَ عن الغيرة في التراث العربي:

يقول ابن أبي حَجَلَة التلمساني المغربي، في كتابه ديوان الصبابة، ص223: وأما الغيرة على المحبوب، فإنما تُحمَد حيث يحمد الاختصاص به، ويُذَمُّ الاشتراك فيه شرعا وعقلا، كغيرة الإنسان على زوجته وأَمَتِهِ، والشيء الذي هو يختص به، وهذه الغيرة تختص بالمخلوق، ولا تتصوَّر في الخالق.

وأما الغيرة على المحبوب من الآدميين، فللناس فيها ضروب وحسنات، غالبها ذنوب، فمنهم من يغار على المحبوب من النسيم إذا هَبَّ، أو سماع أَنَّةٍ في الدَّرْبِ.

قال ابن الأثير في المثل السائر: سافرتُ إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلتُ مدينة دمشق، فوجدتُ جماعة من أَربابها يلهجون ببيت من الشعر لابن الخياط الدمشقي، وهو:

أَغارُ إذا آنستُ في الحي أَنَّةً
حِذَاراً وخوْفاً أن تكون لِحُبِّه

فقلتُ لهم: هذا البيت مأخوذ من قول أبي الطيب:

لو قلتَ للدَّنِف المشوقِ فديتُه
ممَّا به لَأَغَرْتَهُ بفِدائه

والمتنبي أخَذَهُ من قول العباس بن الأحنف:

لم أَلْقَ ذا شَجَنٍ يبوحُ بحُبِّه
الاَّ حسبتُكَ ذلك المحبُوبا

حَذَراً عليكَ وإنني بك واثق * أنْ لا ينالَ سوايَ منك نصيبا (ينظر: ديوان ابن الأحنف ص34)
وقال آخَر:

يَغارُ من الطَّيْفِ المُلمَ حماتُها * ويغْضَبُ من مرّ النَّسيم غَيُورها
ومنهم من يُلحِق في الغيرة يومه بأَمْسِه، ويغار على المحبوب من كلام نفسه، كما قال البحتري:

إني لَأَحْسُدُ ناظِرَيَّ عليْكَا
حتى أَغُضَّ إذا نظرتُ إليكَا
وأَرَاكَ تنْظُرُ في شمائلك التي
هي فتْنَتِي فأَغارُ منكَ عليكَا
ولو استطعتُ مَنَعْتُ لفظكَ غيرةً
كيْ لا أراهُ مقَبِّلاً شفَتَيْكَا
خلَصَ الهوى لكَ واصْطَفَتْكَ مودَّتِي
حتى أغارُ عليكَ من ملكيْكَا

ومنهم من يغار على محبوبه من إزاره، كما قيس بن الملوّح:

أَرَى الإِزَارَ على لَيْلَى فأحسُدُهُ
إن الإزارَ على ما ضَمَّ محسودُ

ومنهم من يغار على المحبوب من ارتشاف السلاف، كما قال كشاجم:

وعذَّبَنِي قضيبٌ في كثيبٍ
تَشَارَكَ فيه لِينٌ وانْدِمَاجُ
أَغارُ على مَنْ فيه كَاسٌ
على دُرٍّ يُقَبِّلُهُ زجاجُ
وأُشْفِقُ إنْ دَنَا المِصْبَاحُ منه
على بَدْرٍ يُقَابِلُهُ سِرَاجُ

وقد أخذ المتنبي هذا البيت فقال في ممدوحه:

أَغارُ من الزجاجة حين تجري
على شَفَةِ الأمير أبي الحُسَيْنِ

وقد عِيبَ عليه ذلك لكونه خاطب ممدوحه بما يخاطب به المليحة.

ومنهم من يُنَزِّلُ نفسَه منزلة الأجنبي، فيغار على المحبوب من نفسه، كما قال أبو تمام:

بِنَفسي مَنْ أغار عليه مِنِّي
وأَحسدُ مقلةً نظرَتْ إليه
ولو أني قدَرْتُ طمَسْتُ عنه
عيونَ الناس مِنْ حَذَرِي عليْه
حبيبٌ بَثَّ في قلبي هَوَاهُ
وأُمْسِكُ مُهجَتِي رَهْناً لديْهِ
فرُوحِي عنده والجسمُ خالٍ
بلا روحٍ وقلبي في يديْه

وقال أيضا:

أَغارُ عليكَ مِنْ قُبَلِي
وإنْ أعطيتني أَمَلِي
وأُشْفِقُ أن أرَى خدَّيْكَ
نصْبَ مواقِعِ القُبَلِ

وقال آخَرُ:

يا مَنْ إذا ذُكِرَ اسمُه في مجلس
لَذَّ الحديثُ به وطابَ المجلسُ
إني لمِنْ نَظَرِي أَغارُ وإنَّني
بكَ عن سوايَ من الأنامِ لأنفسُ

ومنهم من يَغارُ على محبوبه مِنْ وصالِه له، مخافة أن يكون مفتاحاً لغيره، كما قال عليُّ بن محمد بن جعفر الكوفي الحَمَّانِي (ت245ه):

رُبَّما سَرَّنِي صدودُكِ عنِّي
وطِلاَبيْك وامتناعكِ منِّي
حذَراً أنْ أَكونَ مفتاحَ غيري
وإذا ما خلوتُ كنتِ التَّمَنِّي

ومنهم من بالغ في الغيرة حتى قتل محبوبه، مخافة أن يموت هو فيتمتَّع بمحبوبه بعده غَيْرُهُ،
كما ذُكِر ذلك عن جماعة، من جملتهم شيخُهم ديك الجِنِّ الحِمْصِيّ، القائل:

ما كانَ قَتْلَيْهَا لأنِّي لم أَكُنْ
أَبْكِي إذا سَقطَ الغُبارُ عليها
لكنْ بخِلتُ على سِوَايَ بحُسْنِهَا
وأَنفْتُ من نَظَرِ العيون إليها

وأحْسَنَ عبد المحسن الصوري حيث قال في عدم الغيرة على محبوبه:

تَعَلَّقْتُهُ سكرانَ من خَمْرَةِ الصِّبَا
غَفَلْتُ به عن لوعتي ونحيبي
وشارَكَني في حُبِّه كلُّ ماجِد
يُشَارِكُنِي في مُهْجَتِي بنَصِيبِ
فلا تلومونِي غَيْرَةً ما أَلِفْتُها
فإنَّ حبيبيَ مَنْ أَحَبَّ حبيبي

من دوافع الغيرة:

تقول (د‏.‏ فاطمة الشناوي) خبيرة العلاقات الزوجية والأسرية واستشارية الطب النفسي: إنه من الطبعي أن تحدث الغيرة بين الأزواج في سن الشباب، خاصة في بداية الحياة الزوجية غالبا، حيث تكون أكثرَ اشتعالا، مقارنةً بها في سِنِّ النضوج، لأن الشباب بطبيعته يتسم بالثورية والفوران‏..‏ أما الغيرة المرضية فلا ترتبط بِسِنٍّ‏..‏ وهذا لا يمنع أنه في كثير من الأحيان عندما تصل الزوجة إلى سِنِّ النضج تزداد غيرتها على زوجها، بسبب خوفها أن يتحوَّل حبُّه إلى فتاة صغيرة، بينما الزوج في هذه السن يكون أكثر هدوءا، خاصة أن هناك نسبة من الأزواج يُرَدِّدُون بأنه بعد العِشرة الممتدَّة لسنوات مع زوجته أصبحت بالنسبة له كأنها أخته‏!.‏

وترى (سارة لتفينوف) - مستشارة العلاقات الأسرية في كتابها: العلاقة دليلك لعلاقة أكثر عمقاً- أن الدافع الأول للغيرة المرضية، إنما هو في المقام الأول عدم ثقة بالنفس، ثم الخوف من أن يتغير الطرف الآخَر أيضا، وهو الخوف من أن ينتهي الحب ويرحلَ الرفيق فيظل الإنسان وحيداً، ومن هنا فإن من يلمح بوادر الغيرة المرضية كإحساس جديد في حياته ـ رجلاً كان أو امرأة ـ عليه أن يتوقف وأن يخلوَ لنفسه قبل أن يُطْلِقَ لها العِنان، ويسألَ نفسه في صدق: لماذا أغار؟

فإن الغيرة يمكن بالطبع أن تكون مرضاً نفسياً يتعرض له الرجل والمرأة معاً، ويحتاج بالفعل لعلاج يكونُ أكثرَ فاعلية لو تفهَّمَه الشخص نفسُه قبل طلب المعاونة النفسية.

وتُفسِّر الدكتورة النَّفْسِيّة (عزة كريم) غيرة المرأة وشَكَّهَا بالقول: "إنّ المرأة تكون أحياناً في قمة الخوف من أن يميل الزوج منها ويهرب إلى أُخرى. إذن لابدّ أن تُثْبِتَ له أنها مرغوبة، وأنه إذا لم يهتم بها فإن هناك رجالاً آخَرين يسعدهم أن يقوموا بالمهمة، وبهذا تدفعها عقدة النقص الأنثوي إلى أن تُبْدِيَ اهتماماً زائداً بالرجال، وأن تستدرجهم إلى الاهتمام الخاص بها. ولابدّ أن يكون ذلك على مرأى ومسمع من الزوج، حتى يحدثَ تأثيره ويزلزلَه ويحرِّكَه ويُشْعِلَ داخلَه الحب والاهتمام".

وتضيف: "ومن جهته يَقْلَقُ الزوجُ ويخاف ويضطرب، وهو قَلَقٌ لا يزول أبداً، ويبدي اهتمامه بزوجته، وكلما أقبل واهتمَّ زادت الزوجة في سلوكها المثير لشكِّه وغيرته. فقَلَقُ الزوجِ ثم إقبالُه الزائدُ واهتمامُه المبالَغ فيه، تُعَزِّزُ لديها هذا السلوكَ وتَدْعَمُهُ، فتحترق أعصاب الزوج. وكلما ازدادت أعصابُه احتراقاً ازداد قَلَقاً وزادتْ هي في سلوكها، وتَظُنُّ الزوجةُ أنها بذلك مَلَكَتْ زوجَها وأنها سيطرَتْ عليه. ولكنَّ الحقيقةَ عكس ذلك تماماً، فاهتمام الزوج في البداية هو اهتمام القَلَقِ والخوفِ من الفقد، إضافةً إلى رغبتِه في أن يثبت لنفسه أنه الرجل الأول والأوحد في حياة امرأته، وأنه المسيطِرُ على عقلها وقلبها. وتعطيه المرأةُ هذا الإحساس فيَسْعَدُ ويزولُ عنه بعضُ قَلَقِه. ولكنها عندما تعاود اللعبة مرة أُخرى يَقْلَقُ، حتى يَفْقِدَ الثقةَ بها تماماً، ويمكن أن يصل إلى مرحلة أنه يراها امرأة لا تستحق حبّه واحترامه".

وتُنْهِي الدكتورة عزة حديثها بقولها: "الحقيقة أنّ المرأة ضحيةٌ، والرجل ضحيةٌ، فالمرأةُ ضحيةُ عدمِ الثقة بالنفس، والرجلُ ضحيةُ امرأةٍ معدومة الثقة بنفسها، على الرغم من أنها تحبه وأنه يحبها، وعلى الرغم من أنها مخلصة له وهو مخلص لها، على الرغم من أنه يمنحها الثقة من خلال حبه، وأنه يراها فعلاً جميلة، وعلى الرغم من أنه يَسْعَدُ بالحياة معها، ولكنها لا تطمئن ولا تستريح، وتُرِيدُ المزيد. إنه الجوع للثقة، الجوع للاهتمام وللإحساس بأنوثتها".

الغيرة في نظر الأطباء:

في دراسة أجراها (الدكتور الحسيني الجميل) أستاذ أمراض القلب والباطنية، جاء فيها: أن غيرة الزوجة على زوجها تسبب سرطان الرحم والثدي وتصلب الشرايين، لأن هناك علاقة بين الاكتئاب الذي يصيب المرأة في الضغوط النفسية التي تتعرَّض لها وإصابتها بالأمراض الخطيرة، لأن المرأة مخلوق رقيق وحسَّاس، ولذلك من السهل أن تفترِسَه هذه الأمراض.

ويؤكد (الدكتور الحسيني الجميل) أن الأبحاث أَثْبَتَتْ أن أسلوب الحياة التي يعيشها الإنسان له تأثير على نوعية المرض الذي يتعرَّض له، وأن معظم الذين يصابون بارتفاع ضغط الدم هو المرض الذي يؤدي إلى تصلب الشرايين نتيجة للمشاكل الأسرية و الانفعال والغيرة.

والتدخين والإفراط في الطعام... كلُّ هذه العوامل تتعرَّضُ لها المرأة نتيجة لضغوط الحياة.
ويؤكِّد (الدكتور رضا حمزة)، عميد معهد الأورام: أن هناك علاقة بين الحالة النفسية للمرأة و استعدادها للإصابة بالأورام الخبيثة. لأن الحالة النفسية السيئة للمرأة تُدَمِّرُ جهازها المناعيَّ، و يجعلها أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المختلفة.. وأن الجهاز العصبي يتحكَّم في الغدد الصماء، والتي بدورها تتحكَّم في الجهاز المناعي.. أي أن أيَّ خلل في الجهاز العصبي سوف يؤثِّر على عمل هذه الغدد.

كما أثبتت دراسة علمية أخرى: أن الغيرة الزوجية هي أحد الأسباب الرئيسة وراء إصابة العديد من الزوجات بآلام الظهر والرَّقَبَة، ويرجع ذلك إلى أن عدم الاستقرار النفسي يدفع المرأة للشعور بالآلام، خاصة إذا لاحظت تغيُّرات مفاجئة على الزوج.

فعملية الضغط النفسي الناتج من الإفرازات الهرمونية تؤدِّي إلى ارتفاع ضغط الدم المؤقَّت بمناطق الرقبة والظهر، حيث إن هذه المناطق تُعْتَبَرُ أكثر تعرضاً للتقلُّص العضلي.

وعن هذه الغيرة يقول (الدكتور فكرى عبد العزيز)، استشاري الأمراض النفسية والعصبية، وعضو الجمعية العالمية للطب النفسي: إن النفس البشرية تشتمل على ثلاثة أوجه، هي الفكر والوجدان والسلوك، والنفس السوية يصاحبها الاستقرار النفسي الصحي الاجتماعي السوي، وأن الشكَّ والخوف يُعَدَّانِ أول مراحل الغيرة الشديدة، والغيرة عَرَضٌ لا مرض، وهي دلالة على الحب الشديد والاحتواء.

ويقول الدكتور إسحاق أمير -أستاذ الصحة النفسية بجامعة الإسكندرية- : الغيرة بنت الحب، لكنه الحبُّ الذي لا يعني الامتلاك و الأنانية، فتكونُ الغيرة ‏محبَّبَةً إذا كانت تقديراً للزوج أو الزوجة، وشهامةً من الرجل الذي لا يحتمل مثلاً أن تخرج زوجته بملابس تُلْفِتُ الأنظار‏ ,‏ أو تكون عالية الضحكات‏ ,‏ أو متباسطة مع الآخَرِين بلا حدود، وهكذا الزوجة تغار إذا ما وجدت أنظار زوجها تتجه لغيرها، أو يكون هو موضع اهتمام الجالسين دونها، لكنَّ تفسيرَ ذلك يعود إلى عدم الثقة بالنفس، فالزوجة حين تلاحق زوجها بالظنون والشبهات والبحث بين طيات ملابسه، تكون مريضة تحتاج لعلاج نفسي لأنها غيرة مرضية لا مبرر لها إلا داخلها، لأن العقل البشري يشبه دماغاً إلكترونياً بالغ التعقيد ، والخطأ يحدث عندما تَحْجُب المعلوماتُ الخاطئةُ المعلوماتِ الصحيحةَ. فالأخطاء الظنية تأتي من تداخل الأفكار التي يرغب في تصديقها الإنسان، فتكون الغيرة نتيجة عمليات داخلية غير واعية تَنِمُّ عن عدم الثقة بالطرف الآخَر .

ويشير د. إسحاق إلى أن علاج هذه الحالة يكون بالإفصاح وعدم الخجل من المصارحة بما يجول في الصدر من شكوك، وهذا يحتاج لحكمةِ وذكاءِ المرأة التي لا تريد أن تُقَلِّلَ من وزنها ومكانتها عند زوجها، ويمكِنُها التغاضي عن ظَنٍّ عابر، ونظرة لم تَرْتَحْ لها. ومن السهل اكتشاف أخطائنا حتى تكون نتائجُها واضحة، فقد يكون الخطأ على الزوجة التي أهملَتْ نفسَها، مما جعل زوجها ينصرف عنها. ومع انتشار الفضائيات والعُرْيِ لا يمكن غَلْقُ عين الزوج مما يثير زوجته. ومما يلفت النظر، أن التليفزيون أصبح يهدد الحياة الزوجية، فَبَعْدَ أن كان التليفزيون مثل حلوى ما بعد الطعام يتقاسمها الزوجان بعد الأعمال اليومية، أصبح اليوم الوجبة الكاملة التي تكتم الأنفاس، وتكتم على الصدور ، ليسود بعدها الصمت بدلاً من أحاديث الوُدِّ‏.‏

ويوضح د‏.‏ إسحاق أن قلِيلِينَ منا يعرفون أزواجهم كما يعرف البُسْتَانِيُّ نباتاتِه، وذلك لأن مفتاح نمو الحياة الزوجية بلا منغِّصات الغيرة، هو المصارحة الشخصية المتبادَلة لما يجول في العقل، وأبسط الطرق لتخفيف الاختلافات تحلِّي الزوجين بالمراعاة والفطنة ‏,‏ وفي حالة ثبوت خطأ الزوج أو زَلَّتِهِ، فإن كشْف الموضوع قد يثير أزمة كبيرة، لكنَّ تركَ الزوج لفترة ليست بكبيرة، قد يمنحه فُرَصَ التراجع عن اللميمات البسيطة، حتى لا يَعتبِرَ الزوجُ زوجتَه غافلة، أو لا تشعر بتغيرٍ تجاه مشاعره، وإدراك أن الزوج جزء من كيان الزوجة، ولكنْ ليس مُلْكاً، وحين تنفرد الزوجة بنفسها، ستجد أن هناك نمواً ذاتيا لإرادتها في عودة زوجها لعُشِّه. أما لو اتبعَتْ أسلوب التهديد والوعيد والإفصاح، فقد يزيد ذلك المشكلةَ، ويحتلُّ العنادُ فكرَ الرجل. وليكُنْ ضعفُكَ قوة، فالغيرة العاقلة لا تُغضِبُ الرجل بل تزيد ارتباطه بالزوجة، وتجعلُه يفكر ألف مرة قبل الخيانة‏.‏
الفرق بين الغيرة والشك:

تُرْجِعُ (د‏.‏ سوسن عثمان) -أستاذ تنظيم مجتمع، ورئيس الجمعية المصرية لدعم الأسرة- أسباب الغيرة إلى جذور العلاقة الزوجية نفسِها، والتي لابد أن تُبْنَى من البداية على أسس سليمة من خلال التقارب بين الطرفين، سواءً في السن أو المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فإذا توفر ذلك بالفعل، سيكونُ هناك رصيد من الثقة بين الطرفين، سيساعدهما على تفهُّم الأمر على أنه نتيجة الحب الزائد بينهما، وتنتهي المشكلة قبل أن تبدأ‏.
وعن أسباب الشك والطرق المؤدية إليه، تقول (د.إقبال السمالوطي) -أستاذ الاجتماع-: إن تصرفات المرأة وسلوكها هي التي تدفع الزوج إلى الشك، بالرغم من الفرق الكبير بين الشك والغيرة، لكن البعض يتفَهَّم خطأً أن الشك والغيرة وجْهَانِ لعملة واحدة، إلا أن الغيرة وجه من وجوه الحب، تُضْفِي على الحياة الزوجية طابَعاً محبَّباً، وتشعُرُ المرأةُ بأن زوجها يعشقها ولا يستطيع أن يقاسمه فيها أحد، حتى لو كان من خلال اختلاس نظرة. لكنَّه عندما تتجاوز الغيرة حدُودَها، تتحوَّلُ إلى شكٍّ يؤدي إلى الفرقة بين الطرفين، ويعصِفُ بحياتهما الزوجية للأبد، حيث بدأ أسهل الطرق للطلاق.

ولفتَتْ أن الشك تختلف درجتُه من شخص إلى آخَر، حسب التركيبة النفسية والاجتماعية، تتسبَّب فيه شخصية المرأة وتصرُّفاتها، كالخروج من البيت في غير مواعيد العمل المعروفة لزوجها، وتحدُّثِها في التليفون بصوت خافت، ولبسِ ملابس غيرِ مناسبة، والاهتمامِ بأحد الأشخاص اهتماما زائدا عن الحدِّ. كلُّ تلك العوامل توفر بيئة خِصبة للشك.

وتعتبِرُ الخبيرة الاجتماعية الحياة مع زوج شكَّاكٍ مغامرة كبيرة تحْصُدُ عواقبَها الزوجةُ والأطفالُ، خاصة لدى الأشخاص الذين لا يستطيعون السيطرة على وساوسهم، التي قد تدفَعُهُم أحيانا لبعض الحماقات كاتِّهام الطرف الآخَر بالزنا واللعب من وراء ظهره. إلا أن طبيعة الزوجة ودرجةَ تحمُّلِها تكونُ القاسمَ المشترَك بين احتمالية بقائها في كنف زوجٍ شكَّاك، أو تركِه والاستقلالِ بحياتها بعيداً عن المشاكل التي لا تهدأُ، لكنَّ كل الشواهد تؤكد أن الكثير من السيدات يُضَحِّين براحتهن النفسية ويصبرْنَ من أجل أبنائهن، ويتحمَّلْن كل الضغوط النفسية المصاحبة لذلك.
ودليل شَكِّ بعضِ الأزواج ما ورد في الأثر عن أبي سعيد الخدري إذ قال: كان فتىً مِنَّا حديث عهد بعُرس، قال: فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)بأنصاف النهار يرجع إلى أهله، فاستأذن يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ عليكَ سلاحكَ، فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأتُه بين البابيْن قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنَها به، وأصابتْه غيرة، قالت له: اكْفُفْ عليك رُمحَكَ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأَهْوَى إليها بالرمح..

بينما ترى (د.سامية الساعاتي)، أستاذة علم الاجتماع، أن الزوجة قادرة على فَكِّ شفرة الزوج بأكثر من طريقة، وذلك في الحالات البسيطة، قبل أن يتحوَّل الشك علامة من علامات الحب إلى مرض نفسي، من خلال الصراحة والوضوح مع الزوج الذي سوف يُقدِّر ذلك، ويمنحُها الثقة المطلوبة؛ لذلك يجب عليها عدم قتل المودة وخنْقِ العاطفة بتصرُّفاتها، وذلك بالابتعاد عن كل ما يمكن أن يُشْعِلَ نار الغيرة في نفسه، مع عدم المعاندة أو الاعتراض، حين يطلب منها الزوج توضيح أي لَبْسٍ التصق بعقله الباطن جراء أيّ فعل قامت به، حتى يطمئنَّ قلبُه ويستطيع طرد الشكوك التي تحاصره.

بينما يعتبر د. محمد المهدي، استشاري الطب النفسي، أن الشك إحدى سمات الشخصية الإنسانية، وهو ما يُطلَقُ عليه في علم النفس الشخصية الموسْوَسَة أو الارتيابية، حيث تتميز بالشك وعدم الثقة في الآخَر، سواء كان زوجا أو زوجة أو صديقاً أو ابناً، وتزداد حِدَّتُه عندما تتوافر الظروف الملائمة لذلك. ومعظم من يتصف بهذه الصفة لا يستطيع إخفاءها أو إنكارها، لأن تصرفاته تفضَحُه باستمرار، كما أنه لا يستطيع الاستغناء عنها بسهولة، وتتَسبَّبُ له في الكثير من المشاكل والمتاعب مع الآخَرين، التي تصل إلى حد الاعتداء اللفظي أو الجسدي، بالرغم من عدم وجود أيّ دلائلَ على خيانة الشخص الآخَر، حيث إن معظمها يكون محض افتراءات.

وأوضح أن الزوجة قد تكون سبباً مباشراً في إشعال نار الغيرة التي تنقلب إلى شكٍّ بمرور الأيام، خاصة تلك التي تستمْتِعُ بنظرات الآخَرين إليها، وتحاول إظهار محاسنها وجمالها بأي طريقة، حتى تُلْفِتَ نظر زملائها وأقاربها وأصدقائها، سواء كان ذلك مقصوداً أو غير مقصود، مما يساعد على تفاقم المشاكل بين الزوجين. وقابليةُ الزوج واستعدادُه النفسي للشك في علاقة زوجته بالآخَرين يكون نابعاً من البيئة التي تَرَبَّى فيها.

وينصح (د. محمد المهدي) الأزواج الذين يعانون من الشك في تصرفات زوجاتهم وأبنائهم، بالتروِّي والتيقُّن والتأكد من خطأ الآخَر، وإذا كان لا يستطيع التحرُّرَ من تلك العادة الذميمة فعليه زيارة طبيب نفسي؛ لأن الشك يُعَدُّ من أحد الأمراض التي تعالَجُ بالعقاقير المضادَّة للذهن، وقد أثبتتْ فاعليةً كبيرةً عندما يتناولها الشخص المصاب مع بعض المهدئات.

وتقول (الدكتورة نهلة السيد ناجي) -أستاذ الطب النفسي المساعد بطب عين شمس-: إنه لكي تجعلَ الزوجةُ من الغيرة وسيلةً لزيادة السعادة في الحياة الزوجية، لا بُدَّ من استعمالها بِرِقَّةٍ ولُطْفٍ، وبالتلميح أكثر من التصريح، وبلهجة هي بين الجِدِّ والمزح، وبدون تجَهُّمٍ وعُبوس، بل بابتسامة وصوت هادئ، يَشْعُرُ الزوجُ بحرصها عليه وحبِّها له.

ولكنْ بدون تلك الأسلحة النارية من الصياح والانفجارات التي تطوح بشعور الكثيرات ساعة غيرتهن على أزواجهن، فينعكس المعنى المطلوب من الغيرة، ولا تَعُودُ مِلْحاً يُكْمِلُ لذة الطعام، بل يُصبِحُ كالفلفل الحارِّ أو كالسَّمِّ القاتل، الذي يُبَدِّدُ كل المعاني الجميلة البنَّاءة في الحياة الزوجية.

والحاصل أن:

الغيرة كسائر الأمراض النفسية تَفْتِكُ بصاحبها، فيختَلُّ توازنه، ويضطربُ حبل شخصيته، وتضطرب حياته الوجدانية، وينبري جسمه، وتنحط قواه العقلية، ويقل إنتاجه....

والغيرة كالشعور بالنقص، لا بأس بها، في الأحوال العادية، إذ إنها ضرب من الدفاع عن النفس، ووازع طبَعِيٌّ للمنافسة الشريفة، والطموح، وركوب متن السمُوِّ والأماني -وهذا هو الأصل- بيد أنها تكون كسائر الصفات والطبائع والنزعات الحسنة ،قد تصبح وبالاً على المتَّصف بها فتبطش به بطشا إذا ما أسرف فيها.

ومما يؤسَفُ له، أن معظم ما يسمونه الغيرة الزوجية التي كثيرا ما تقود أصحابَها إلى مواطن التهلكة والتعاسة، بل إلى الانتحار وارتكاب جريمة القتل، كثيرا ما تكون هذه الغيرة لا أساس لها من الصحة

محمد إفرخاس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى