الاثنين ١١ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم طلعت سقيرق

رحيل الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم

رحم الله أبا مصباح شاعرا عاش سنوات عمره وهو مصرّ على أن يغمس أصابعه العشر بفضة الشعر، أو ذهبه.. كان يعتبر الشاعر نبيّ هذا العصر دون منازع. وكم قال لي مفتخرا " يكفي يا صديقي أننا شعراء فهذه نعمة لا تدانيها نعمة.. نحن يا صاحبي في قمة الهرم فمن يكتب الشعر فلا يدانيه أحد ".. وكان شاعرنا الصديق الحبيب عبد الكريم عبد الرحيم " أبو مصباح " يكتب كلّ شهر في مجلة " صوت فلسطين " عن واحد من شعرائنا الفلسطينيين.. اتفقنا منذ شهور على ذلك، وكتب عن فواز عيد، وخالد أبو خالد، وحنان عواد، ومحمود علي السعيد.. وسواهم.. وكان بيني وبينه قبل أيام هاتف أسأل فيه عمن سيكتب لهذا الشهر فقال برعشة حزن ما زالت ترنّ في أذني وقلبي " يبدو أنك ستكتب عني يا صديقي.. جاء دورك يا طلعت لتكتب عني " حاولتُ وفي الحلق غصة أن أخفف من وقع ألمه ووجعه وحرقته وضيقه من جرعات الدواء المتواصلة التي يأخذها محاولا أن يخفف من زحف المرض العضال.. قال يبدو إنها النهاية.. ولم أكن لأصدق أنّ هذا واقع أو حقيقة، فقد كان أبو مصباح رجل التفاؤل والأمل وشاعر الإصرار على مدّ مواله حتى مدينته السليبة صفد.. وفاجأني صديقنا الشاعر محمود حامد حين اتصل بي يوم الجمعة 8/4/2011، ليقول لي " آسف يا طلعت أعرف انه خبر مؤلم لكن ما باليد حيلة فقد توفي صديقنا عبد الكريم عبد الرحيم صباح اليوم.. الساعة الرابعة صباحا ".. قلت :" والله كأنني كنتُ أعرف قبل أن تتكلم لا إله إلا الله..رحمه الله وأدخله فسيح جناته ".. واتفقنا على الالتقاء كتابا وصحفيين أمام جامع صلاح الدين في منطقة ركن الدين عصر السبت 9/4/ 2011 للصلاة عليه ثم التوجه نحو مقبرة الشيخ خالد لدفنه هناك.. وهي مقبرة في الصالحية وارت جسده الطاهر ليطوي صفحة امتدت على مدار عمر حافل بالعطاء الثر الخصب..

رحمك الله يا أبا مصباح.. أعدتني وأنا شارد الذهن في المقبرة والناس من أصدقاء ومعارف يتحدثون عن ذكريات وذكريات.. مرة يقول الشاعر صالح هواري شيئا.. ومرة يحكي الكاتب الأديب عدنان كنفاني عن ذكرى قريبة.. وأخرى يقول الأديب القاص والروائي حسن حميد عن لقاء كان قريبا..ومرة يقول هذا ويحكي ذاك.. أعدتني إلى روايتك الوحيدة التي صدرت مؤخرا عن اتحاد الكتاب العرب في نهاية العام 2010 بعنوان " قريبا من الجرمق " وأذكر أنك قلت لي إنها جهد سنوات وأنك كنت دائما تفكر بكتابة رواية، وكأنك قد صممت أن تكمل روايتك تلك قبل الرحيل.. فهل كان بطلك حسن يعرف أنك ستغط حبرك في روايتك تلك ثم تطوي الصفحات كلها مغادرا شخصياتك وأصدقاءك ومحبيك؟؟..

أذكر أنني بدأت الكتابة عن هذه الرواية بشكل غريب نوعا ما حيث قلت:" حين أراد أن يغط ّ الريشة في محبرة الكلام نسي أو على جري العادة غطها في مداد القلب والروح وشفافيته العالية.. كانَ دائم الإيغال في زمن الشعر المداخل لشخصيته، إذ أنّ الشعر سكن عبد الكريم عبد الرحيم أو هو سكنه، منذ بدء تشكـّل الأغنية على شفة الربيع، وما عرفته إلا شاعرا بكل شيء، ومشغولا بالشعر حتى في يومياته وشؤونها.. وحين علمتُ منه أنه انتهى من كتابة رواية " قريبا من الجرمق " وقدمها لاتحاد الكتاب العرب، كان ظنـّي أنّ الرواية ستعلو وتحلق، لكنها ستبقى أسيرة الشعر وعلوّ الشعر.. وحين صدرت قبل فترة قصيرة وأهداني نسخة منها، أخذتها بلهفة لأفتش عن الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم صاحب دواوين " بين موتين وعرس " 1985.."آخر اعترافات الندى " 1996.. " صاعدا إلى الطوفان " 1997.." فضة الروح " 2001.." للماء أمنح صوتي " 2004.. "وأدخل في مفردات المكان " 2007.. فظنـّي أن الشاعر متورط في الشعر في أيّ جنس أدبي كتب.. ومعرفتي بالشاعر عبد الكريم عبد الرحيم، تسمح لي أن أحكم حكم قربٍ ومعرفة وصداقة، أنـّه شاعر مشدود للشعر بكلّ خيوط العمر وأعماق الذات الشاعرة حتى الإشباع والتشبع.. فهل كنتُ على حق؟؟..

أنهيتُ قراءة الرواية، وكنتُ مسكونا بالدمع والحرقة والحزن وأنا أودع مازن أحد أبطال الرواية، وأعيش مع منى وقوفها وشموخها وغمامة الحزن التي سيجتها.. سألتُ منى عن زوجها الراحل مازن أجابت " مازن ليس من النوع المحترف، وليس حبا في الخنادق مضى في تلك الرحلة التي انتهت في الصحراء، كان ممتلئا بالحبّ والحياة، وحين أدرك أن لا حبّ ولا حياة لأمثاله اتخذ هذا القرار ".. قلت :" أي قرار؟؟" قالت باستغراب:" ما بك تبدأ من النهاية.. ارجع للبدايات " هززت رأسي موافقا: " قلت : "معك كل الحق"....".. وتوقفت هنا.. وصدقني أيها الصديق الغالي لا أعرف حتى الآن لماذا توقفتُ هنا تماما.. ولماذا عدت من جديد لأقرأ روايتك تلك.. لماذا قلتُ لك يا أبا مصباح أشعر أنني بحاجة لقراءة الرواية من جديد.. يومها قلت لي :" تعلم أنني مصر على أن أسمع رأيك.. فأنت تكتب بشكل مفاجئ وساحر " قلت :" سأقرأ الرواية مرة أخرى وسأكتب إن شاء الله ".. وبقيت الرواية مفتوحة على فضاء واسع أعود إليها لأطوي الصفحات المكتوبة بكل هذا الشغف..

هل عليّ أن أفرد هنا الكثير من الذكريات والحكايات عن صحبة ورفقة شعر امتدت لسنوات؟؟.. أظن أنه عليّ أن أؤجل كل ذلك لأقدم معلومات وافية عن شاعرنا وهي معلومات مأخوذة في مجملها من الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم شخصيا.. فماذا تقول هذه السطور..؟؟..
ولد الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم في مدينة صفد عام 1942، و شُرِّد مع القافلة الأولى عام 1948، فأقام و أسرته في دمشق حتى رحيله.تكونت لغته في أسرة أزهرية، فعم أبيه القسامي الشيخ عز الدين الحاج سعيد، أول من تخرج من الأزهر، دراسات عليا في مدينته... قرأ عبد الكريم عبد الرحيم الأدب الجاهلي و الإسلامي في سن مبكرة، وتابع دراسته، و تخرج في جامعة دمشق 1967، وعمل مدرساً للغة العربية، بالإضافة إلى عمله الصحفي. التقى العديد من شعراء سورية و فلسطين و العراق و مصر في رابطة رواد الأدب منذ عام 1959 و حتى عام 1964، ومنذ ذلك الحين كتب قصيدة التفعيلة التي وجد نفسه فيها. نشر في معظم الدوريات السورية و اللبنانية ( الآداب – الغربال – المعرفة – الموقف الأدبي – الأسبوع الأدبي –صوت فلسطين - الدوريات العربية و المحلية - وغيرها )، وشارك في مهرجانات الشعر العربي.( مهرجان رابطة الخريجين الجامعيين في حمص – مهرجان أبي العلاء المعري – مهرجان إيبلا – مهرجان أعلام الشعر العربي – مهرجان أبي تمام – مهرجان درعا – مهرجان اتحاد الكتاب و الأدباء العرب بغداد 2001 – مهرجان النيلين للشعر العربي الخرطوم – مهرجان العامليين في بنت جبيل، أقام أمسية شعرية في البيت الفلسطيني في كيتشنر بكندا) و شارك بأمسيات و نشاطات اتحاد الكتاب العرب في سورية. و كان مسؤول النشاطات و الجمعيات في اتحاد الكتاب و الصحفيين الفلسطينيين فرع سورية سابقاً. وقد نشر في الدوريات العربية منذ يفاعته.

أصدر مجموعته الشعرية الأولى ( بين موتين و عرس عام 1985 ) عن اتحاد الكتاب و الصحفيين الفلسطينيين و دار الجليل.ثم ( آخر اعترافات الندى )عام 1996 عن دار الجمهورية – دمشق - .و(صاعداً إلى الطوفان) عام 1997 عن وزارة الثقافة السورية..و( فضة الروح )عام 2001 عن اتحاد الكتاب العرب..و( للماء أمنح صوتي ) عن اتحاد الكتاب العرب 2004
و(أدخل في مفردات المكان) عن اتحاد الكتاب العرب 2008.... وله (كتاب بحثي عن إبداعات أحمد أبي خليل القباني) عام 2000 عن وزارة الإعلام السورية... وله مجموعة شعرية مخطوطة بعنوان "مدن تشبهني " وهي الآن بعهدة ولديه مصباح وغيث.. 

الشاعر الراحل عضو اتحاد الكتاب العرب – جمعية الشعر – قارئ محكم في الجمعية لسنوات خلت حتى رحيله. كما كان قارئاً محكماً في وزارة الثقافة. وفي عدد من المسابقات.عضو أمانة اتحاد الكتاب و الصحفيين الفلسطينيين – فرع سورية – مسؤول النشاطات و الجمعيات.عضو اتحاد الصحفيين العرب... عضو تجمع الكتاب و الأدباء الفلسطينيين العالمي – عضو لجنة العضوية -أمين سر جمعية رواد الأدب سابقاً... كان رئيس القسم الثقافي في غير دورية عربية.تفرغ منذ عامين ليعد كتاباً نقدياً حول : أدب الحياة – دراسة في المصطلح – الشعر العربي. نُشرت مجموعة مقالات من الكتاب في دوريات عربية و على الانترنيت.

كُتب عنه الكثير من الدراسات، منها ما كتبه الناقد المرحوم أحمد المعلم في كتابه " الجذوة " مع أربعة من الشعراء العرب، منهم خليل حاوي و عبد القادر الحصني. و كذلك ما كتبه الناقد سليمان حسين في كتابه " نكهة الماء.. أنوثة الياقوت "، والدراسات العديدة في الوطن العربي، و أقيمت ندوتان حول شعره الأولى عام 2001 في المركز الثقافي العربي في المزة شارك فيها الأديب عدنان كنفاني و د. يوسف حطيني و د. خلدون صبح و الناقد سليمان حسين. و الثانية عام 2004 في المركز الثقافي في العدوي شارك فيها د. حسين جمعة و الشاعر خالد أبو خالد و د. خلدون صبح و الناقد سليمان حسين و الشاعر صالح هواري.
 نقتطف بعض ما قيل عنه ( المقتطفات من اختيار الشاعر الراحل): 

يقول الشاعر محمود حامد: " إذا كانت لغته تبدو جسداً حيوياً ثائراً لرغباته ففي حقيقتها هي روح عليا تتجلى خارج الجسد و تخاطب الروح في أعلى تجلياتها،و هذه عادة الصوفيين القدامى في مثل هذا النوع من الوجد."..

يقول الشاعر خالد أبو خالد:" اللغة عند عبد الكريم عبد الرحيم لا تقع خارج الشعر، و ليست مجرد حامل...و لكنها تبني علاقتها بالشعر من حيث كونها لغةً للشعر في المقام الأول."
يقول الناقد سليمان حسين:" تراسل الحواس قدّم قدرة شعرية إيحائية، و قدّم دلالة ترقى عن المستوى اللغوي العادي إلى المستوى الرمزي الأرقى، في قصيدة فضة الروح.".. 
 
يقول الشاعر عبد القادر الحصني :" في مجموعة ( للماء أمنح صوتي ) يرسِّخ الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم صوته الشعريّ بلغة عالية الرهافة و الشفافيّة معجماً وبناءَ جملة و تقنيات سرد.. وفيها صدقٌ فنيّ عميق قادر على أن يماهي بين الفكرة و الصورة و الموسيقا في أقنوم واحد هو النص."..

يقول الشاعر والناقد عبد النور هنداوي :"..عبد الكريم عبد الرحيم يمشي التاريخ فوق ظهره.. و يمضي..!إنه سقط الهواء أرضاً، مغشياً عليه لأن الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم يغسل النار بالنار، و يذوب كما تذوب الألوان.. جسده دائماً يهتز فوق الرخام، لأن فلسطين، هي النقطة الوحيدة لدلالته.. منذ زمن بعيد وهو يخفق كراية أكلت بعضها لذلك حاط نفسه بالعرب ونام بين الصدفة و الفلسفة..

عبد الكريم عبد الرحيم هرّب فمه من مكانه الطبيعيّ إلى مكان أكثر حرقة وملاذاً.. يهز الأشياء التي أمامه في كل لحظة و يترعرع أمام غرائز الأبطال..هو نفسه وطئ جسده ليتولى الأمل
هل رأيتم شعراء يبحثون عن الأمل "..

 يقول الشاعر والأديب طلعت سقيرق :"و عهدي أن الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم يحمل الكثير من الدفء و الخصوصية و النبض و الروعة في شاعريته، فما سمعت منه قصيدة جديدة إلا رأيت إلى هذه الفضاءات الخصيبة و هي تتفتح عمقاً و امتداداً على المغاير و المدهش و العذب.. كان ذلك منذ سنوات طويلة و ما زال.. دائماً تستوقفني عذوبة شعره فآخذ في وضع اليد على مسافة كل حرف لأرى إلى براعة شاعرنا في تطوير القصيدة و مدها بروح جديدة. ".. 
بقول الناقد د.خليل موسى :" هذا غيض من فيض من تجربة عبد الكريم عبد الرحيم، وهي تجربة شعرية متفردة تستحق من النقد أن يتوقف عندها، و أن يسبر غورها، ويستكنه ما فيها من جماليات شعرية، بخاصة أن هذه التجربة لاتزال تنزع إلى الغنى و الاتساع. ".. 
رحم الله شاعرنا عبد الكريم عبد الرحيم.. كان شاعرا وإنسانا وصديقا متميزا.. أحب الحياة، وأخلص لفلسطين في كل حرف من حروفه.. ولأنه الشاعر.. ولأنه الشعر.. فأبو مصباح معنا كان ويبقى..

يقول في قصيدته " فضة الروح":
كيف اختلفتِ؟
تطوف رائحةُ البخورِ
وكستناء العريِ
تُشوى في الحريرْ
ترخي عباءتها على
رعشٍ
تفيَّأ ما تكوّرَ
في ابتهاج الخلقِ
يُحكم آيةِ الأنثى
يجمّرُ طينها
ويقول: كن سعفاً
تمادى في اعتصام الشوق
فَتَّقَ عروتينِ
وطارَ يرتجلُ القصيدة والعناقَ
يحسُّ نقرَ أصابع الدفلى
على جسد العبيرْ
إني ارتديتُ
حفيفَ أغنيةٍ
على ملكوتِ صوتِكِ
واحتميتُ من الهجيرْ
......
ما جرَّحتني الحربُ
أسلحةُ الشوارعِ
قبَّراتُ الحزن
في قبو الخليفةِ
والمقامُ الميْتُ
مذ غنّى امرؤُ القيسِ الضليلُ
لمُلْكِِ روما
والخديعة حين يكتملُ الغناءُ
على البكاء... على الهزيمةِ
أدمنَتْ كفاي ترتعشان
حينَ تنزَّل الحرفُ القتيلُ
على شفاه الببغاءِ
فراودَتْني... أن أكونَ
ولا أكونُ
فصدّقوني... ما أتيت الحربَ... ما
لكنني حاولتُ أعتصمُ الجسدْ
ونثرت روحي في النخيلْ
......
كيف اختلفتِ؟
أكادُ أرقدُ في بلاطِ
الشيخِ يعبقُ
بالكرامات الضنينةِ
والسلاطين القساةِ
تكاد أنّتُه تمرِّرُ
سيفَهم بين الخلايا في الشهيقِ
وفي الزفيرْ
وتفوح أعمدةُ الضريحِ
بكلّ أشواقِ العيون المرسلاتِ
تفوح ملءَ الحيِّ
يغرق بالدماءِ
وبالتوسل والدعاءْ
وأكاد أرقد في بلاط الشيخِ:
ما جئت الحروب فصدِّقوني
لم أزل في صحو نهركِ
يستبدّ بي الغناءْ
من مستحيل أشتهي
مهراً يغمِّس ريشةَ
الرعشاتِ
في زيت الحياةِ
لمَجْدِ أنثى نبْرةٌ من حافَة الكون البهيجِ
ومرمر الغنج الدفيءِ
على محارة ثوبها
يشدو على زغب الحكاياتِ
الطليقة يستعير ضفيرةً
في حجر جدتهِ
ويوقد ما يرفّ على معاطفه العتيقةِ
حينما قمر يموتُ
ولا تعيد الأرض شهوتها وتحترق الدهورْ
......
كيف اختلفتِ؟
ولم تنامي في دخانِ الوقتِ
في صحو الأنوثةِ
كيف... كيفَ يبوح عصفورانِ
منقارانِ
في شفتين عتّق فيهما
العسل الجرارَ
وقال آيتَه على رمل النساءِ
تلا بقية صوته في الأرجوانْ
لو تبدئين
وتشتهين... لكنت خمري والدنانْ
يا أيها العنقودُ
جرّحني مداماً
حين تسترضي الندى
أو حين تفلت عروتانْ
يا أيها العنقودُ
جرّحني على شفة الندامى
أبسط الكفين... أقرأُ
فيهما خطو الزمانِ
على تفاصيل المكانْ
فأنا صهيلُ الكرمِ
تقطفُه يدانِ
وتهصرانْ
لو كنتِ ساقيتي
جمعتِ على موائدهِ
الـ تكسّر من حروف القبلةِ الأولى
وورّدتِ القصيدةَ
والخدودَ
وكنتِ سيدة الزمانْ
......
هل كنتِ مقبلة إلى ليلٍ
يغيمُ بمقلتيكِ
ويحتسي ودّاً... وقهوتهُ
يطيّرُ من حمام الروحِ
فاكهة الجسدْ؟
هل كنتِ موسيقا؟
فتهطل مقلتاك على حنين المفرداتِ
وتعبقان يداً بيدْ
فلمن يوسوس دفءُ ظلِّكِ
يرسل الخطواتِ
عندلة رفيفاً
فيضَ نهرين استباحا
ضفتينِ
وأغدقا خمراً ووردْ
......
كيف اختلفت؟
أنا الحقيقة والجمالُ
أنا الجمالُ
وأنت حافية على وقد الأبدْ
لي ظلك الورديُّ
تَعْتَعَهُ احتراقي
واقترابي
أنت صافية كشمعٍ
لا يذوب على وجيب القلبِ
يشرق موْهناً
ويؤوب من صمت العذابِ
وكيف أنجو حينما
جلدي تمشطه يداكِ؟
وأنت حافية على شهد الجسدْ
وصحوت سوسنةً
تفوح على حليب الصدرِ
تفتَح وردة الأنثى
وتُوهم غِبَّ هذا الليلِ
أنَّ ولادتي مطرٌ
وخاتمتي على نهرينِ
من عسل وخمرٍ
يجريان إلى دمي
يا أيها الشيخ الـ تَنَسَّمَ
(وِرد) آيتهِ
توَضّأ بالندى والزعفرانْ
في رقعة الشطرنجِ
تحترق الملوك تموتُ
لا ترسل دماءكَ
في فضاء الذكرِ
لا تغلق مزارك دون أجنحتي
وخصّب رؤيتي بالمستحيلِ
وخضّب الرؤيا ببرد يقينك العلويِّ
أطلقني يماماً في دفيء القلبِ
رفّ يكاد يصحو في هواكَ
ولا تعانقه يدانْ
......
كيف اختلفتِ؟
أراكِ في ملح التغرّبِ
وامتداد البحرِ
من شمس إلى رملٍ
إلى عينين سافرتا
لغير الحزنِ
هاجرتا ليولد فيهما قمرٌ
يسبِّح في حواري الشرقِ
ممشوقاً على خطوات (آدَم)
يرتدي من شوقه تفاحةً
ويغيب في الأنثى
ويهطل في حوافي جسمِها الدريِّ
يهطل عنفوانْ
وعلى تفاصيل الملامحِ
أنثيان وقاربٌ
ودم يلوح منارةً
رجلان يعتصمانِ حبلَ الموتِ
ذاكرةٌ تفرِّخُ مأتماً
هل ينتهي الطوفانُ؟
أم ما زلتِ تغتصبينَ خضرةَ خطوتيكِ
إلى الولادة والبقاءْ؟
الأرضُ ماءْ
والشمسُ ماءْ
وأنا أجدّفُ
علَّ (جارية) تبوحُ بسرِّك الأبديِّ
ما زالتْ تمشِّط في طفولتها الدُّمى
وتلوبُ تهصرُ ناهديها حين يحتقِنُ الدجى
وتصوغُ قامتها كما يهوى الرجالُ
تمدُّ كفاً للسماءْ
......
كيف اختلفتِ؟
من الولادةِ
والهبوطِ
وكنتِ راضية بأنَّ الأرض عاريةٌ
وأن قميصَكِ العشبيَّ طرَّزَهُ الحياءْ
كيف اختلفت ِ؟
وأنتِ من طين وماءْ
هل أشتهي؟
عري القميصِ
وكستناء الصدرِ
أبدأ خطوتي
والنخل يرفع سعفه
ودمي على بعض الإناءْ
مطر تراوده القرى
فزّاعة بين الحنين ونبض قلبي والردى
مطر كذاكرة تخاصر خضرة الفرح البهيجْ
مطر يهيجْ
والرمل يسكب في ملاءة غنجهِ
شكلاً... تحرّكه الرياحُ
يعيد قامتها نصوصاً في كتاب الأرضِ
أنثى كالأريجْ
هذي محاولتي لأرسم في الجسدْ
هذي محاولة النخيلْ
سعف يمدّد قامتي
في حجر جدتي الجميلْ
سعف يزنّر في مخيلتي السؤالَ
وكيف تختلف الفصولْ
إن كنت حافيةً على وقد الجسدْ
إن كنت نمضِ يدا بيدْ
تتشكلين كما تحبّ الأرضُ
تضرب في الجذور غمامةً
وتفيض في الأغصان روحٌ
حين تنبعث الزهورْ
تتشكلين...
فتوهج الدنيا
لأنثى فوق مرمرها
تعانقتِ العصورْ
كيف اختلفتِ؟
تمدُّ أنهرَها الأصابعُ
في السطورِ
فتولدينَ... وتولدينَ
كأنَّ مولدك النشورْ
في فضة الروحِ القصيدةُ
فلتكوني
آيتي ويدي
وبدءَ الكونِ
والعريَ الحريرْ
كيف اخلتفتِ؟
تقول: لا تقطفْ دمي
فأنا على سجادة الجسدِ ابتدأتُ
وأنت... أنت أنا...
فهلْ
مطرٌ...
فهلْ مطرٌ...
فهلْ
مطرٌ غزيرْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى