الاثنين ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

حضرة الباب العالي

أنزع المعطف العتيق والحذاء المتآكل والنظارات ذات الإطار البني العريض أحيلها على التقاعد، إنما بالكثير من التقدير الذي تفرضه سنوات العشرة فالألفة تتولد من الاحتكاك وهذه رفقة مخلصة لم تخذلني تحت الريح والشمس. كما ذكرت قبل أن أودعها داخل الكيس البلاستيكي الأسود جلست ألا يحق لرجل مثلي قضى سنوات طويلة في الخدمة أن يستريح؟ ألا يحق له أن يلتفت قليلا إلى الخلف؟ وينظر من زاوية عينه بالكثير من الريبة عبر كوة صغيرة حيث تسللت الحياة.

 اسمي مسعود بن مسعود وينادونني العلوي لا أدري إن كان ذلك يتقاطع مع علو قامتي واكتمال دورة الحظ.

العمر ستون بالتمام والكمال. مايوافق الخامس والعشرين من كل أكتوبر، ولدت في شهر الأحزان، الرياح والفيضانات. فهل لي يد في كل ما ترتب عن الميلاد الخريفي الخافت؟ حين تغضب النجوم يولد النحس. هكذا ظلت أمي تهتف إلى غاية وفاتها.

 تزوجت ابنة عمي وقبل أن أستيقظ وجدت الغرفة الصغيرة قد امتلأت بالصبية والصبيات، ثلاثة في عامين ياإلهي: ماذا حدث؟ وسبعة في ست سنوات، شيمة الفقراء. يا رزاق ياكريم الطف بعبدك. الأفواه صغيرة والأسنان كالقوارض، والغرفة تصغر والهواء يشيخ ‘ لكن ربك كبير ولا يضيع عبده.

 وبما أني رجل نصف أمي نصف متعلم، فقد حققت من ــ حيث لا أدري ــ الشروط المطلوبة بامتياز نلت الجائزة الكبرى ــ كما يقولون في التلفزيون ـــ

 كل صباح أحمل بعض أشلائي وأغادر القرية، أنتظر ماتجود به الطريق: سيارة أجرة، حافلة وربما، بعض المعارف والأصدقاء، أفكر كيف أخادع الوقت وأضيع مع كؤوس الشاي والقهوة والقازوز والدخان. و في المناسبات السعيدة، أعني حين يبتسم الحظ أحظى بغداء في مطعم من المطاعم، غداء جاهز مشبع بالبهارات والروائح الطيبة.

 بعض الأيام لها تاريخ، الحظ فيها ينزل من السماء السابعة كالسهم يخلل شعرك لتستفيق من الدهشة. يأتي هكذا دون مقدمات، رزق من الله، والله لا يخذل عباده، ولم لا؟ لم أسرق ولم أظلم لم... لم... لم.

ــ الصحيفة بيضاء ياسيدي. وأومأ لصاحبه.
 
 واقتادني الرجل المديد إلى مكتب شبه خاو. طاولة عتيقة وكرسي عجوز، وجدران طليت بزرقة متآكلة، قد يكون طلاؤها تزامن مع طلاء غرفتي، الأماكن تتشابه. قلت في نفسي.
 ــ قال لي: والقلوب أيضا.

وضحكنا، كما يضحك الأصدقاء، شربنا القهوة، أنا من اختار القهوة، السيد خيرني، وقدم لي سيجارة كبيرة، دعاني مخلصا للاحتفاظ بالعلبة، وقبلت بعد تردد.

 ــ أحببتك منذ النظرة الأولى والله.

 ــ وأنا كذلك. 

 ودخلنا من جديد في موجة من الضحك.

 ــ والله ارتحت لك. وأحب مساعدتك، ألا ترغب في راتب شهري؟

 واتسعت عيناي، أنا يصير لي عمل وراتب شهري؟.

وقبل أن أستعيد هيئتي العادية، أضاف بأدب واضح، فالرجل ابن أصول ( ولد فاميليا ):

 ــ يمكنك الحضور غدا صباحا. 

 فجأة وجدت نفسي في البيت، كيف قطعت كل تلك المسافة؟ الله وحده يعلم الغيب والأسرار.

 وفي الصباح أيقظتني أم العيال باكرا وحضرت الفطور ورفعت نظراتها الصامتة نحوي في حيرة،
تلك المخلوقة العجيبة التي أتقنت لغة الصمت بفن واقتدار، لهذا لم تجرؤ على سؤالي، ولأن مزاجي كان رائقا، على الرغم من بعض الخوف والقلق،أخبرتها.

 قلت لها: يابنت عمي، ربما دق الفرج بابنا، بعد اليوم ستستريحين، لا عجين ولا كسكس إلا لبيتك و زوجك وداعا لكسكس الجيران، أضفت مازحا " زيتنا في دقيقنا ". قد تكون ابتسمت في العتمة الصباحية، لست متأكدا من ذلك.

 ولقيت السيد الجليل. قال لي: هل تعرف القراءة والكتابة؟.

 ــ نعم 

 ودفع نحوي جريـدة تهجأتها

ــ هل أنت موافق؟

 ــ نعم ياسيدي.

 ــ بشرط أن تبقي هذا الأمر سرا، إن كشفت هويتك، ستنتهي ليس الوظيفة ولكن حياتك.
 ارتعشت أحسست بالبلل، والعرق البارد يكتسيني من رأسي حتى قدمي. نظرات الرجل كانت قاسية وهي تسلط علي كما لوكنت تحت كشف الأشعة، طأطأت رأسي ولم أقدر على رفعه إلى اليوم (حتى لم أتساءل عن ذلك التغير الرهيب الذي لبسه ).

بنبرة آمرة سلمني ورقة. قال: كل أسبوع، عليك ملء هذه الاستمارة.

انظر بم تبدأ: حضرة الباب العالي...

 إن فلانا قد...

لاتهمل أي صغيرة أو كبيرة، دون كل شيئ كل شيئ من صياح الديكة حتى طلوع آخر نجمة. مفهوم؟ لا تغفل حتى أولئك الذين لا يدفعون فواتير الكهرباء ولا تنس المقامرين والمصلين أيضا. لا تقل فلان طيب، سجل كل حركة

وفي ظرف شهر كنت قد أتقنت تلك اللغة الباردة واستلذت طعم الخبزالذي تخالطه المرارة .
 أجلس في المقاهي أدرب حواسي، صارت أذناي بمثابة ردارات، كأني جرادة ضخمة تتحسس بقرونها، أدخن وأسمع ما يدور من رفع صوته بالضحك ومن خفضه حزنا، من حلق لحيته وشاربه ومن طلب الشاي أو القهوة أو القهوة ممزوجة بالحليب. هو قال لا تغفل أي صغيرة أو كبيرة. وفي المساجد بالأحياء الشعبية الفقيرة أتلصص على الناس من صلى الفرض وخرج ومن أطال في الركوع والسجود، لا يستويان، و من أكثر من النوافل ومن لم يقمها، لا يستويان. وفي دورات المياه أدقق النظر، ماذا يتركون؟ جرائد؟ ما الذي دونوه على الجدران؟. قلت له ياسيدي: " يكتبون كلاما بذيئا في دورات المياه ".

 ــ قال لي يا حمار هذه شؤون ليست شخصية لا يعاقب عليها القانون. ألم تتعلم بعد معنى الكلام البذئ؟ وحركت رأسي بعد جهد. 
 
 فجأة بدأ بعض الشبان الجامعيين في الاختفاء، أحمد ولد الحاج، ناجي و حسان، وشاع الهمس والوجوم ثمة خيوط تلتف‘ الله وحده يعلم من يلفها حول رقابنا، صمت ثقيل راح كالشبكة المظلمة يكبر ودون سابق إنذار ارتفعت جدران قاسية من الإسمنت المسلح، سميت جدران الصمت. وفي أيام متتالية وقعت حوادث سير في ظروف متشابهة.

ــ ماالذي يحدث؟ 

أشياء غريبة تحدث. 

 لقد مضى كل شيء، وأنا أنتظر أول راتب دون أن أرفع أي تقرير لعين وهناك شمس أخرى تتهيأ لاختراق النافذة. 

حشرجة الورود

 اليوم ــ على خلاف كل الأيام ــ أحظى بباقة ورد حمراء دون غيرها. و هل هناك أجمل من يوم لا تتلقى فيه غير الورود الحمراء؟. اليوم يوم الورود.
 
 أرفع بصري إلى الرزنامة صباح الثامن من مارس، كنت دائما أنظر إليه كشهر متردد، وربما شهر من الأشهرالرمادية، جدتي كانت تسميه مارس الطويل. أهمس: هو شهر منافق.
 هكذا دون تردد أطلق الألقاب كسيل من الشتائم والكلام البذئ.

 أفتح باب الشرفة أتنسم ماتبقى من هواء سقيم، أتركه نصف مفتوح، وأتسلل نحو الداخل، أفتح حقيبتي اليدوية، أتأمل نتائج التحاليل في صمت، أتنهد. غدا سأعود إلى العيادة: لا بد من إجراء العملية ليس هناك من حل آخر.

 ــ هل أنت خائفة؟ الأعمار بيد الله.

 ــ لست خائفة، ولكني أفكر، كيف سنتدبر المبلغ؟

 ــ أنت لا تفكري، دعي الأمر علي، سنسحب ما جمعناه طيلة عشرين سنة.

 ــ والبيت

 ــ صحتك أولى

 ــ والأولاد؟

 ــ لا تسبقي الأحداث، سيأتي الفرج، فالله لا يغلق بابا حتى يفتح أبوابا.

 منذ عشرين سنة وأنا أجلس في المكتب ذاته والكرسي نفسه، الكرسي تآكل مسنده الجلدي وتضعضعت أرجله وأنا كذلك، ثمة تضعضع كبير في جسدي: رأسي، معدتي، وأحشائي، كأن النار تأكل كل مضغة في، وأنا مازلت أدون الحروف ذاتها منذ الآلة العتيقة التي استبدلوها بصفحات بيضاء لا متناهية، يتآكل ظهري وأكتافي، وعيناي تنطفآن ببطء تضيقان في محجريهما صارتا, واخجلاه! صارتا كعيني فأرة. النظارات العتيقة تستحوذ على كامل مساحة وجهي وأنا بعد في الأربعين.

 منذ عشرين سنة وأنا أجلس على الكرسي وأكتب أكتب بلا توقف، ماذا أكتب؟ أمورا لا تحفظ، ليتها كانت كوصفة حلوى المقادير ومدة الطهو، ليتها كقطعة موسيقية أضع نوتاتها بدقة لا شئ من كل هذا... اكتب ما تحمله الأوراق وآخذها للتوقيع، وأنا أكتب أحلم ومنذ عشرين سنة ببيت يخصني.

 ورودي في المزهرية، هدية أخرى حظيت بها سأقضي نصف يوم كامل في البيت: فلا عمل هذا المساء، فاليوم عيد النساء. أتخيل القوافل البيضاء وأسراب النوارس والسنونوات تتجه دفعة واحدة إلى السماء، طيور لها وجوه نساء وأرجلهن، ربما العكس نساء بأجنحة يحلقن في أفق بعيد. 

 المساء يتقدم متألقا هذا اليوم والجرس يغرد، أفتح الباب، رجل قصير يحيني بابتسامة غريبة يحرك أهدابه على عجل:

 ــ أنا محضر قضائي، أنا مكلف بالتبليغ يا سيدتي وقعي هنا من فضلك.

ورودي ترتجف وعيناي واهنتان وركبتاي تهتزان: " أمر بإخلاء: بناء على الدعوة المرفوعة ضدكم من قبل مالك المحل الكائن ب... يطلب إخلاء المنزل في أجل أقصاه شهرا، وإن لم تلتزموا سنتخذ الإجراءات القانونية المعمول بها في مثل هذه الحالات. "

ترتعش و رودي الحمراء لا تقوى على الصمود، تنسدل الستائر في صمت ويحل المساء الثقيل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى