الأربعاء ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١

مدخل إلى فن الكتابة القصصية في إيران

(الجزء الأول)

بقلم : د.يعقوب آجند / باحث وقاص.

1. المحاولات الأولى:

النماذج الأولى للأدب القصصي الايراني كما تستسيغه تقنيات فن القصة وقواعده، مما ينبغي تحريه في عهد الثورة الدستورية ( مطلع القرن العشرين ). انجز فريق من المستنيرين والمتعلمين في تلك الفترة وبهدف تكريس الاصلاحات السياسية والاجتماعية، أعمالاً تقترب شكلاً واطاراً من القصة المعاصرة. أعمال من قبيل [سياحة ابراهيم بيك] لزيد العابدين مراغئي و [مسالك المحسنين] لطالبوف تبريزي، وحتى [كتاب النوم] أو [الخلسة] لاعتماد السلطنة] و [الرؤيا الصادقة] للسيد جمال واعظ اصفهاني، كتبت باسلوب القصة المعاصرة، رغم أن أصحابها لم يقصدوا كتابة رواية أو قصة، وإنما راموا نقد الواقع الذي عاصروه بأسلوب كتابي جديد وشيق. بعض الترجمات في تلك الفترة نقلت الى الفارسية بلغة من الجزالة والمتانة الى درجة مكنتها من مضاهاة الروايات اللاحقة.

ومن هذا القبيل كانت ترجمة ميرزا حبيب اصفهاني بـ "حاج بابا الاصفهاني" بقلم جيمز موريه و "جيلبلاس" بقلم لساج. وقد كان أسلوب هذه الروايات وصياغتها وبناؤها مناراً إستضاء به كتّاب الرواية الايرانيون.

آخوندزاده كان صاحب أول قصة بالمفهوم المعاصر للكلمة (من زاوية فن الكتابة القصصية) عنوانها "حكاية يوسف شاه" أو "الكواكب المخدوعة"، والتي نقلت في زمانه الى الفارسية باسلوب فيه الكثير من السلاسة والمتعة من قبل أحد أصدقائه ويدعى ميرزا جعفر قراجئى، ونشرت مع مسرحياته في مجموعة "تمثيلات" ، كما كان في لغة وأساليب كتّاب من قبيل ميرزا ملكم خان، وميرزا آقاخان كرماني مؤشرات أولية لفن القصة، خصوصاً وإنّ بعض أعمالهم جاءت بأسلوب الحوارات.

الكتابة الصحفية التي انطلقت في ايران بشكلها الجاد منتصف القرن التاسع عشر، كان لها بالغ التأثير في تبسيط اللغة والنثر الفارسييين وتقريب الأعمال الأدبية الى مدارك الجمهور. وقد أضحت الصحافة بعد ذلك من الجسور والوسائط المهمة التي انتفع منها الأدب القصصي في ايران للتواصل مع الجمهور. ترجمة الأعمال القصصية الغربية الى الفارسية، والتي تمت آنذاك ضمن سياق التنوير السياسي، مثلت خطوة على جانب كبير من الأهمية في تعريف الكتاب الايرانيين على فنون وقواعد هذا الصنف الأدبي. وقد كانت أعمال مترجمة من قبيل "سيرة تلماك الشاب" للفرنسي فنلون بترجمة ميرزا علي خان ناظم العلوم، و " قُبلة العذراء" لجورج رينولدز بترجمة ميرزا حسين خان شيرازي، و "منطق الوحش" لكنتس درشغور بترجمة ميرزا على خان أمين الدولة، و "كونت مونت كريستو" لالكساندر دوما الأب و "حياة نابليون" ترجمة محمد طاهر ميرزا، و "الجسر الفرجيني" لبرناردوسن، ترجمة ابراهيم نشاط من جملة الترجمات القصصية الأولى الى الفارسية. وقد لوحظ في ترجمة هذه الآثار الجانب الأدبي والاسلوبي بنحو مركز، واستخدمت في صياغتها الفارسية لغة مبسطة وحية وقريبة الى استيعاب العامة من الناس.

كان عهد الثورة الدستورية [المشروطة] عهد كفاح متأجج بالقلم والفعل السياسي... كفاح من أجل إرساء دعائم سلطة تبتني الى شرعية القانون والحريات المترتبة عليها وعلى رأسها حرية التعبير عن الرأي, لفيف من الكتّاب كعلي أكبر دهخدا وظفوا الشكل القصصي لخدمة الاصلاحات الاجتماعية، فعرضوا أفكارهم الاصلاحية والنقدية وآراءهم الاجتماعية الراقية على شكل قصص وحكايات. ولعل "جرند وبرند" لدهخدا من أبرز نماذج هذه الجهود.

ومن المنطقي جداً اعتبار "جرند وبرند " إحدى نقاط الانطلاق الأولى في القصة القصيرة الايرانية بالمعنى الحديث للكلمة. إذ أن بعض مقطوعات هذه المجموعة سبقت "كان يا ماكان" لمحمد علي جمال زاده من حيث الشكل والقالب وحتى الرؤية.

اكتسب التاريخ في سنوات الثورة الدستورية أهمية ومكانة مميزة. وراح المتعلمون والمثقفون يطّلون عليه من شرفات قشيبة ليجدوا فيه جانباً من مفاهيم نظريتهم القومية وتعاريفها. ولقد بث التاريخ الايراني القديم روحاً من السعي والفعل النظري المكثف في كوكبة من كتاب ذلك العهد. بل أن قضية الانتماء الايراني والأصالة الجغرافية وكل ما يتعلق بها [من تاريخ وجغرافيا وثقافة وغير ذلك] اكتسبت حرمة كبيرة، وملأت العودة الى ذلك التاريخ أذهان وأقلام وكتّاب نظير آخوندزاده، وطالبوف، وميرزا آقاخان كرماني، وشعراء مثل بهار، وعشقي، وعارف، وأديب الممالك فراهاني وسواهم، وأطلقت في الأدب الايراني المعاصر تياراً ملحوظاً من العودة الى الماضي الايراني القديم. لذلك لم يكن غريباً أن استلهم القاصّون الايرانيون الأوائل التاريخ في نتاجاتهم فكانت أعمال من قبيل [الحب والسلطة] و [القصة القديمة] و [الشمس وطغراء].

القضايا الاجتماعية واصلاح الواقع الماضوي العام كان هو الآخر من أهداف ثورة الدستور في ايران. اجتذبت هذه الأفكار التيارات عقول الكتّاب وقلوبهم منذ بدء الحركة الدستورية، وأمست الرواية الاجتماعية بعد ذلك من الصنوف المطروقة بكثرة بين كتّاب القصة، حيث خاضوا فيها بأشكال شتى ومن زوايا عدة. كرست ثورة الدستور ضرورة الاصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان بوسع الممارسة الكتابية تمهيد الطريق لهذه الاصلاحات، وكتابة القصة طبعاً من الأنواع المؤثرة في هذا النطاق. وضع كتاب القصة أيديهم قبل كل شيء على نقاط الضعف ومواطن الخلل التي اعتقدوا أن المجتمع الايراني يعاني منها الأمرين، لهذا ظهرت انجازاتهم القصصية معبّرة عن المعضلات الاجتماعية والسياسية في عصرهم. أثيرت قضايا المرأة وواقعها الاجتماعي السيئ. وتعالت صيحات الاعتراض على الامتيازات الاجتماعية التي تتمتع بها شرائح معينة من المجتمع. وتم تصوير الفساد الاجتماعي للمتنفذين والأقوياء الى جانب صور متعددة لبؤس الضعفاء ومعاناة الطبقات المحرومة. الزيف والخداع والجور والظلم والفقر والاستغلال كانت أحوالاً صيغت قصصياً آنذاك في سياق ممارسة واعية الهدف منها توعية الجماهير واستنهاضهم. والواقع أن هذه القصص أمست أداة من أدوات الكفاح ضد الارستقراطيين والأعيان واذاعة آلام الوطن ومآسي الشعب. وكان النزوع الى تقليد القصص الغربية ملحوظاً بجلاء في هذه المنجزات الأدبية.

2. مستهل الكتابة القصصية

من حيث المضمون نهجت القصة الايرانية في فجر حياتها سبيلين اثنين: التاريخي والاجتماعي. كان هدف الكتاب من اصدار الروايات التاريخية حتى عام 1921م عرض المعلومات التاريخية على قرّائهم لتعزيز روح التفاخر الوطني والقومي لديهم. وكانت لهذه الروايات فضلاً عن أغراضها الامتاعية أهدافها التربوية والتوجيهية أيضاً. إلا أنها اكتنفت أخطاءً وعيوباً تاريخية غير قليلة، ولم تتوفر على الرصانة اللازمة من حيث قواعد الكتابة القصصية وفنونها. كما لم تكن متألقة أو مميزة من زاوية النثر وجمال اللغة الأدبية. روايات نظير " شمس وطغراء " لمحمد باقر خسروي في ثلاث مجلدات [ وبثلاث عناوين: شمس وطغراء، ماري ونيسي، طغرل وهماي ] و "الحب والسلطة" أو فتوحات كورش الكبير للشيخ موسى نثري كبودر آهنكي، و "القصة القديمة" لميرزا حسن بديع، و "ناصبوا الفخاخ أو المنتقمون لمزد" بقلم عبدالحسين صنعتي زاده كرماني، و"قصة ماني الرسام" لكرماني أيضاً، كانت من المحاولات الأولى في القصة التاريخية الايرانية حتى عام 1921م.

وجرب مشفق كاظمي موهبته الأدبية في حقل الرواية الاجتماعية، فوضع أول رواياته الاجتماعية على شكل حلقات صحفية متسلسلة وبعنوان "طهران المخيفة" ثم أصدر المجلد الثاني منها بعنوان " ذكرى ليلة". رسم الكاتب في روايته هذه الواقع الرهيب للعاصمة الايرانية عشية انقلاب 22 شباط 1921م وصوّر مناخاً غابت عنه كل آيات الفضل والتقى والطهارة، وتفشت في كل أوصاله ومفاصله جميع صنوف الجهل والاساءة والانحطاط والرذيلة والنفوذ اللامشروع والعدوان واليأس والقلق والرشوة والخيانة. كاظمي كان على معرفة بفن القصة الغربية ، وقد صاغ روايته صياغة ذكية مدروسة فاكتسب قراً و جمهوراً كبيراً و غدا انموذجاً لشطر من الروائيين الاجتماعيين من بعده.

وينبغي اعتبار عباس خليلي مدير صحيفة [اقدام] ثاني روائي اجتمعاي في ايران، وقد احتوى ملفه الابداعي روايات "الزمن الاسود" و "الثأر" و "الانسان" و "أسرار الليل". وقد احتلت قضايا وسلبيات من قبيل الواقع المتردي للمرأة, والزيجات الاجبارية، والفحشاء والفساد عند طبقات المجتمع المسحوقة مساحات كبيرة من منجزه الأدبي. ومن بين الروايات الاجتماعية الأولى يمكن الاشارة الى "شهرناز" ليحيى دولت آبادي و "مجمع المجانين" لصنعتي زاده كرماني. ولعل إحدى السمات البارزة في الروايات الاجتماعية آنذاك طابعها الرومانتيكي والعاطفي الذي تمادى الى درجة تغدو معها المشاهد والشخصيات مفتعلة غير طبيعية. في رواية " شهرناز " التي تأثر فيها كاتبها بقاصين أتراك من قبيل نامق كمال، تعرقل الحوارات والكلام المطول للشخصيات، ومواعظ الكاتب المكررة [ بوصفه راوي القصة ] السياق الطبيعي للرواية.

أبدع صنعتي زاده كرماني روايته "مجمع المجانين " من وحي الشطر الشعري المعروف لسعدي الشيرازي "الناس مجانين والمجنون بينهم سوي" مصوراً فيها مدينة مثالية فاضلة. وتكتنف الرواية رحلة خيالية في الروح والنفس زادُها النقاء والاخلاص وتزكية القوى البشري وتقوية الروح، وطلب الخير للنوع الانساني، والابتعاد عن عبادة القديم والطمع والجشع والتفاخر واكتناز الثروات.

3. القصة الايرانية في زمن رضا شاه

انقلاب 22 شباط 1921م الذي أشرف البريطانيون على تنفيذه وأعدّوا وخطّطوا له بمعية الشخصيات الارستقراطية الايرانية المقرّبة إليهم، كان نقطة انطلاق عهد جديد وتركيبة جديدة في التاريخ الايراني المعاصر. في غضون أربعة أعوام ارتقى عقيد قوات القزاق رضا خان أعلى المراتب في الحياة السياسية الايرانية ، وقبض على جميع مقاليد الحكم بيديه وفق خطة مبيتة. كان العهد القاجاري قد أفل وولّى، وحل مكانه العهد البهلوي.

وانتهز رضا خان فرصة الدعم البريطاني السخي مضافاً الى تناقضات الساحة الداخلية، ليمسك بيديه دفة الشؤون السياسية والادارية دون منازع، وبعد لعبة المطالبة بإرساء نظام جمهوري، استطاع التربع على عرش ايران ملكاً وباشر باعادة بناء المجتمع الايراني طبقاً للنموذج الغربي.

فقدت مراكز المعارضة والكفاح الرئيسية بريقها تدريجياً، وخيمت حقبة من الدكتاتورية العسكرية والبوليسية على ايران لمدة 16 عاماً. والخلاصة أن رضا خان أسّس لسلطة تمتاز بالتغريب والمركزية الممتزجين بالدكتاتورية. في هذه الحقبة وفدت على الثقافة السياسية الايرانية تصورات ونزعات فكرية – إجتماعية جديدة ، وانعكس ذلك على الحال االأدبي يومذاك. برزت طبقة جديدة بموازاة الشكل الجديد للمجتمع، ثم تطورت لتدخل كرقم اجتماعي مؤثر في الواقع الثقافي للبلاد.

وفي أوساط هذه الطبقة الجديدة انطلق تيار غير مسبوق من الكتابة القصصية وراح يعبر عن واقعه المعاصر بصورة مباشرة.

واصلت الكتابة القصصية مسيرتها، وتقدمت من حيث المضمون في المضمارين التاريخي والاجتماعي. في تلك الآونة كانت النزعة الوطنية تروج من قبل الدولة بصفة رسمية، وتكتسب أحياناً صورة متطرفة [شوفينية] قد تلقي بظلالها أحياناً على الأدب القصصي ولا سيما الروايات التاريخية لفترة معينة معالجةً التاريخ الايراني القديم، وانعكست فيها أذواق الكتّاب واتجاهاتهم بأشكال وصور شتى. أعمال نظير " العروس الميدية " لعباس آريان بور كاشاني، و " اوبرا وعد زرادشت " لعلي آذري ، و " مظالم تركان خاتون " لحيدر علي كمالي ، و " نادر ابن السيف " لنور الله لارودي ، و " دماء سياوش" و "يعقوب بن الليث الصفار" ليحيى قريب ، و"قصة شهربانو" و "مذكرات خسرو الاول انوشيروان" لرحيم زاده صفوي ، و "الزوجة الطاهرة" في مجلدين لحسين على سالور , و "العزيمة والحب" و "الحب الطاهر" لنصرت الله شادلو، و "دية ايران" لعلي اصغر شريف، و "بطل زند" لشين برتو، و "شهريار الحاكم الذي" لشيخ ابراهيم الزنجاني و "وكر النسر" لزين العابدين مؤتمن، كانت من نماذج الاسقاطات السياسية على الرواية التاريخية الايرانية آنذاك.

وتواصل مسار كتابة الروايات المسلسلة في الصحف، والذي بدأه مشفق كاظمي [ أو لكاتب روايات مسلسلة في ايران] وانجز بعض الكتّاب أعمالاً تقارب في مناخاتها رواية "طهران المخيفة". وظهر في الساحة ربيع انصاري بـ " جرائم الانسان " التي اكتنفت ذات المفاهيم والأفكار التي طرقها كاظمي: الفساد، الرذيلة والخيانة في الأوساط العائلية الارستقراطية والطبقات الراقية من المتجمع. وقد كان لهذه الرواية عنوان آخر خليق بها "نخاسوا القرن العشرين".الرواية الثانية لربيع انصاري وهي "الثالث عشر من النيروز" لم تسجل نجاحاً يذكر، رغم أنه جنح فيها أحياناً الى نقد مسؤولي الدولة والتبرم من سلوكياتهم. وتابع عباس خليلي أيضاً كتاباته القصصية ونشر بعض أعماله في تلك الآونة نظير [الانسان، الثأر، أسرار الليل] .

وصدر لأحمد علي خدادا دگر عملان هما "يوم العامل الاسود" و "يوم الرعية الأسود" لم يتميزا بمنحى اجتماعي عميق رغم خوضهما في قضايا الفقر والفاقة والمسكنة التي عانت منها شرائح العمال والقرويين. ونشر جهانكير جليلي روايته "أنا أيضاً بكيتُ " لأول مرة في مقابل أعمال محمد مسعود وعلى شكل حلقات متسلسلة في "الشفق الأحمر" إحدى الصحف المميزة في ذلك الحين. حقق هذا العمل الشهرة لصاحبه، بيد أن عمليه التاليين "من دفتر المذكرات " و "قافلة الحب" لم يتألقا بمستوى روايته الأولى.

عاجلت المنية جليلي وهو في التاسعة والعشرين من عمره فأوقفت مسيرته الأدبية . وكان هو الآخر قد ركز في أعماله على المنافحة عن حقوق المرأة.

دخل محمد حجازي مسرح العمل القصصي بزاد وفير، فقدم أعمالاً تتصل بواقع المرأة الايرانية في المدن الكبرى آنذاك. قدر له "هما وبريجهر" سنة 1928م. إلا أن هذه الأعمال لم تحقق لحجازي الشهرة التي اكسبته إياها روايته ذات المجلدين " زيبا " سنة 1930م والتي عالج فيها أيضاً حياة المواطنين في المدينة والوضع الاداري والواقع الحياتي السيئ للمرأة الايرانية. لم يترك حجازي الكتابة بعد ذلك إنما واصل تقديم نتاجاته ذات المنحى الرومانتيكي العاطفي، وكان من اصداراته الأخرى " النغم " 1952م، و " بروانة " 1953 ، و " الدموع " 1953م ، و " بيام نسيم " 1960م. تجمعت المقطوعات الأدبية لهذا الروائي في " المرأة " 1933م، و " الفكرة " 1940م، وقد جرّب كتابة المسرحية أيضاً فانجز مسرحيات " حافظ، العروس الأجنبية ، الحرب ، الحاج الحداثي ، واجعلوا السيد محمود محامياً ". ونزع في مسرحيته الأخيرة الى النقد الاجتماعي – السياسي . وقد كان له الى جانب ذلك أعمال بحثية منها سيرة " كمال الملك " و " التلغراف الللاسلكي " و " خلاصة تاريخ ايران " . كما نقل الى الفارسية عدداً من كتابات الأجانب.

تتوزع أعماله على الرواية، والقصة الطويلة، والقصة القصيرة، والمقطوعات الأدبية، والمسرحية، والبحوث. كانت قصصه هزيلة المضامين والرؤى، إلا أن نثره كان ذا نضج مميز ومنحى صحفي يلامس النثر الأدبي ، مضافاً الى استخدامه المفردات العامية أحياناً.

محمد مسعود [ دهاتي ] الذي أصدر لاحقاً في عقد الأربعينات صحيفة " رجل اليوم " وأحرز صيتاً ذائعاً، أنجز في ذلك الحين عدة قصص: " ترفيهات ليلية " 1932م، و" سعياً وراء المعاش " 1933م، و" أشرف المخلوقات " 1943م. وكانت هذه قصصاً مترابطة تناولت أحوال طبقات اجتماعية مختلفة. هنا أيضاً استخدم النقد الاجتماعي ولكن مصحوباً بضرب من التشاؤم والفظاظة. وقد اكتسى اسلوبه هذا صورة جديدة وعنيفة في " زهور تنبت في جهنم " 1943م ، و " ربيع العمر " 1945م. وقد كان مسعود قد توصل في هاتين القصتين الى نمط من الواقعية الاجتماعية. ويمكن اعتبار أسلوبه الكتابي مزيجاً من العامية والكتابة الصحفية، بقي وفياً له حتى النهاية.

نشر علي دشتي مدير صحيفة " الشفق الأحمر " أول أعماله شبه القصصية والتي كانت ضرباً من المذكرات في 1922م بعنوان " أيام السجن "، وسرد فيها تجاربه ومشاهداته في سجون العسكر الذي قاموا بانقلاب 22 شباط. يمكن تصنيف الحياة الأدبية لدشتي الى جملة أقسام : الصحافة، القصة، والنقد الأدبي. وله في حيز القصة أربعة أعمال : الفتنة، الهندوسي، السحر، والظل ، صوّر فيها الواقع الاجتماعي لنساء الطبقات المحرومة، وكانت قصصه الى ذلك مرآة تعكس أحوال النساء المتهتكات اللاهثات وراء اللذة والرجال المتحللين في شرائح المجتمع الواقية، والواقع أن أعماله كانت نافذة الى الحياة الخاصة لهذا الصنف من النسوة. كما وضع دشتي أعمالاً حول شعراء ايران تعد من أول الأعمال النقدية في الأدب الفارسي منها : صورة لحافظ ، ساعة مع الخيام، في مملكة سعدي شيرازي، ورحلة في ديوان شمس، وشاعر معتق و ... الخ. وألّف كتاب " خمسة وخمسون " الذي ضمنه مذكراته السياسية.

حسين قلي مستعان [ ح.م. حميد ] صاحب الروايات المسلسلة في المجلات، شرع هو الآخر بكتابة القصة في عهد رضا شاه. معظم آثاره كانت سطحية من حيث المضمون والأفكار، وحتى من زاوية التقنيات المستخدمة. من نتاجاته يمكن الاشارة الى : [ الاسطورة ، مغامرات قلب، هدية حياة ، أفكار الشباب، نوري ، آزيتا، آفرين ، ودلارام ] وهي من أعمال تلك الحقبة . وتابع مستعان في السنوات اللاحقة كتابة الروايات المسلسلة، فقدم روايات " الآفة " 1951 – 1957 م و" سل الحكاية من الشمعة " 1956م ، و" المدينة الصاخبة " 1955 – 1957 ، و " الحب المقدس " 1957م ، و " المتيم " 1958 م ، و " الخطيئة المقدسة " 1961م، و " لهب في روح الشمعة " 1965م، و " رابعة " و ... الخ، وقد حاول في هذه الأعمال إشباع حاجات الشباب الى العواطف ومشاعر الحب الحميمية والمغامرة.

ولكن في سنة 1921م صدرت مجموعة قصصية لمحمد علي جمال زاده بعنوان " كان يا ماكان " تمتعت بمنهج منطقي دقيق ورؤية نقدية وأسلوب بديع وتراكيب جديدة. كانت هذه المجموعة أهم موروث تركه جمال زاده عن نفسه للأجيال اللاحقة، وقد أسست للقصة القصيرة الايرانية ورسمت لها السبيل الذي انتهجته. كان الكاتب قد نشر قصص هذه المجموعة مسبقاً في صحيفة " كاوه " الصادرة ببرلين، واصدر الطبعة الأولى لمجموعته من مطبعة كاوياني في برلين. بناء الشخصيات ، وصياغة المشاهد ، والعقد ، والرؤية النقدية للظواهر المحيطة، مضافاً الى اللغة والاسلوب النثري في هذه المجموعة، كلها عناصر اجترحها جمال زاده في مجموعته هذه بتقنيات جديدة، الأمر الذي ضاعف من قيمة العمل وتأثر تأثيراً حاسماً على حركة الكتابة القصصية في ايران. بعد ذلك كشف جمال زاده جهوده الأدبية فأنتج الكثير من الأعمال القصصية، بيد أن أياً منها لم يبلغ مستوى التأثير الذي تركته مجموعته الأولى. ومن بين مجاميعه القصصية الأخرى يمكن الاشارة إليها " دار المجانين " 1942م ، و " سيرة العم حسين علي " 1942م، و " من قماش واحد " 1944م، و " قلتشن ديوان " 1946م، و "صحراء المحشر " 1947م، و " سبيل رسالة الماء " 1947م، و " معصومة شيرازي " 1954م، و " العمل الرائع " 1958م، و .. الخ. بالاضافة الى الأدب القصصي اهتم جمال زاده بالعمل البحثي والترجمة وله نتاجاته في هذين البابين منها: " الكنز الرائع " حول اقتصاديات العهد القاجاري،" حرب التركمان " و " طباعنا نحن الايرانيين " ومن ترجماته : " ويلهلم تل " لشيلر ، و " البخيل " لموليير. كما وضع " قاموس المفردات العامية " الذي جمع فيه المصطلحات الايرانية المستخدمة عامياً من قبل الناس. كان جمال زاده منشداً الى الأدب العامي الايراني بقوة، وقد استخدم في أعماله القصصية نثراً مشبعاً بالكلمات والاستعارات والاشارات والكنايات والمصطلحات العامية.

السبيل الذي اختطه جمال زاده بلغ به صادق هدايت الذروة . كان هدايت ابن عصره . تصوراته الاجتماعية والسياسية والفكرية استمدت خاماتها من عصره، وانعكست جميع هذه البصمات والتأثرات في أعماله القصصية انعكاساً واعياً.

فلقد صور في بعض قصصه شطراً من طموحات جيله بشكل رمزي. روايته " البومة العمياء " 1936م رسمت بريشة سوريالية غير مألوفة ظروف الطبقة الجديدة في عصر رضا شاه. وفي " الموؤد " 1930م، و " قطرات دم ثلاث " 1932م عرض واقعه المعاصر بنحو مباشر وبأسلوب رمزي ، وفي " التضاليل " و " علوية خانم " 1933 م، أعلن امتعاضه من المؤسسات البالية الموروثة عن الأجيال السابقة. وقد استطاع في هذه الأعمال تقديم تحليلات عميقة للشخصيات المنكوبة البائسة الممتعضة في المجتمع.

تأثر هدايت كالكثير من أبناء جيله بالأفكار الوطنية والقومية التي سادت أعوام الثورة الدستورية وحكومة رضا شاه. واتشحت هذه الأفكار بطابع حاد جزمي في مسرحيتيه " بروين ابنة ساسان" 1930 م، و "مازيار" 1933م. لقد أطلق هدايت ابداعات رائعة في عالم الكتابة القصصية. ويمكن اعتباره من الكتّاب الأوائل الذين أبدوا انشداداً مميزاً للاعتبارات الوطنية والقومية الايرانية وانعكست هذه الاعتبارات بشكل من الأشكال في آثاره.

كما ركز اهتمامه على الأدب العامي الايراني في سياق مقارنة مع النزعة الى القديم، فانجز أعمالاً من قبيل " بلاد الاخاديع " 1947م، و " وغ وغ ساهاب " 1932م، بمساعدة نظرائه من الأدباء. النقطة الملفتة هي نثره ولغته القصصية الضاربة بجذورها في الأدب العامي. لقد صاغ هدايت هذه اللغة النثرية ونضجها بحيث هيمن بعد ذلك على كثير من الكتّاب الذين تقبلوا بصماته والتأثر به.

جنح قلمه نحو الأدب الساخر أحياناً فأبدع " مدفع مرواري " 1948م، و "اسطورة الخلق " 1930م، و " اللامبالاة " 1944م، وغيرها من الأعمال التي ارتقت بعض الأحايين مراتب جد مؤثرة من العاطفة الانسانية كما نلاحظ في " داود الأحدب " و " المرأة التي أضاعت زوجها " و " داش آكل " و .. الخ.

انطوى التراث القصصي لصادق هدايت على ملامح من التحرر والعفوية والاخلاص والعاطفة والعقل والروح الثورية المطالبة بالتغيير, والأهم من كل هذا أنه اكتنف في داخله جماليات خاصة. جرّب معظم صنوف الكتابة فكتب الرحلات " اصفهان نصف العالم " والمسرحيات ، وتشر في الصحف ومنها مجلة " الموسيقى " و " الكلام " [ سخن ] وغيرها .. واجتذبه الأدب البحثي فأنتج عدة دراسات وكتب، ولم ينس النقد الأدبي ، فعمد الى تشذيب بعض التصورات الخاطئة التي سادت عصره. والى جانب كل هذا خاض في حقل الترجمة أيضاً فنقل قبل كل شيء أعمالاً من اللغة الپهلوية الى الفارسية [ زند وهومن يسن ، ملف اردشير بابكان، تقرير ينهي الظنون ] ثم ترجم بعض أعمال فرانتس كافكا [ المسخ ، جماعة المحكومين ، ومجموعة " الجدار" لعدة كتاب ] .

أبدى هدايت قدراته الكتابية في أشكال قصصية عدة. وكان ذا مهارة وبراعة مميزة في القصة القصيرة. كما كتب قصصاً طويلة، ومن قصصه الطويلة الخالدة " البومة العمياء " و " حاجي آغا " . تأثر في " حاجي آغا " بالتيار اليساري آنذاك ، فسلّط حراب نقده بأسلوب بديع على الرأسمالية البازارية في ايران. وعرض قصصه من زوايا عديدة فكتب تارة من زاوية الراوي، وأحياناً من زاوية المتكلم المفرد، وجرب انسيابية الذهن ايضاً. جنح في جانب من قصصه الى الموضوعية التامة والواقعية الاجتماعية، ومال في أحيان أخرى الى النزعة الذهنية والرمزية ، واستفاد تارة من المادية، وتفوق في كافة هذه الأشكال على كافة كتّاب عصره [ وحتى الكتاب اللاحقين ] فكان من الطبيعي أن تلقي المعايير الكتابية عند هدايت ظلالها على الأجيال التالية، بل ودفعت بعض القاصين الى تقليده.

قاص بارز آخر مارس نشاطه الكتابي في تلك الفترة هو بزرگ علوي الذي تابع دراسته العليا في ألمانيا وزاول التدريس في طهران. وكان صديقاً مقرباً لهدايت. نشر أول أعماله الأدبية بمعية هدايت وشين برتو سنة 1931م بعنوان " انيران ". أما أول مجاميعه القصصية فهي " الحقيبة " التي صدرت سنة 1934م. انخرط علوي بالجماعة السياسية للدكتور اراني. وكان عام 1938م من بين الثلاثة والخمسين شخصاً المعروفين الذين سجنهم رضا شاه بسبب ميولهم الاشتراكية.

ومع دخول الحلفاء الى ايران وتحريرهم من السجن ترقى علوي ليصبح من أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الايراني " توده " ، ولم ينس في زحمة أنشطته السياسية مواصلة الانتاج الأدبي فاستمر يكتب القصة القصيرة ، والرواية ، والمذكرات السياسية القريبة من الاسلوب القصصي ، فكانت من حصيلة ذلك المجاميع القصصية " قصاصات السجن " 1941م، و " 53 شخصاً " 1942م، و " الرسائل " 1951م. في عام 1952م، كتب رواية " عيناها " مازجاً بين احداثيات المناخ السياسي لفترة رضا شاه والقضايا العاطفية التي تعيشها شخصيات الرواية. سافر الى خارج البلاد وحينما وقع انقلاب 19 آب 1953م بقي مقيماً في ألمانيا الشرقية ليصبح فيما بعد استاذ اللغة الفارسية في جامعة هومبولت.

وضع في الخارج قصتي " ميرزا " و " سالاريها " سنة 1978م مصوراً فيهما الوجه الكالح للتيارات السياسية خارج ايران. عمله القصصي الأخير " الارضة " 1992م، كان مساحة لإستعراض شخصية أحد أفراد الأمن الشاهنشاهي في تعاطيه مع الأحداث السياسية المختلفة. نقل عدة أعمال غربية الى الفارسية منها " حديقة الكرز " لتشيخوف ، و " الملحمة الوطنية الايرانية " لنولدكه ، وأعمالاً لبرناردشو ، وبيستلي، وشيلر. كما صاغ رحلة " الاوزبكيون " باسلوب جزل ، ووضع كتاب " بواكير الأدب المعاصر في ايران وتطوراته " باللغة الالمانية. اتّسم علوي في منجزه القصصي بالمنحى السايكولوجي المرتكز الى التحليل النفسي، وابتعد رويداً رويداً عن أسلوبه الأول الذي تأثر فيه بصادق هدايت . وفي رواية " عيناها " أبدى موهبة تتّصف بالاستقلال والأصالة. في بنائه لشخصيات آثاره يقترب أحياناً من الفرويدية ، ويميل أونة أخرى الى الواقعية الاشتراكية ، ويتسنى القول عموماً أنه اجترح في أعماله القصصية تقييمات وأحكاماً لأفكاره السياسية – الاجتماعية .

(الجزء الأول)

نقلا عن موقع «شيراز» الإيراني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى