السبت ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم بيسان أبو خالد

مرايا الزمان

حسبنا أننا مقبلون على أول الموت منذ الولادة
ولا يشتري صمتنا تبر كل المناجم
فالأرض ضاقت بنا
واحتمينا بخارطة الكون.
 
لا شيء يشبه حنجرة يتصالح فيها الصراخ مع الموت
لا شيء يجبرنا
أن نكون على هيئة الساحرات
اللواتي حُرِقنَ على ذروة الانتصار
وكنتم شهوداً على المذبحة
سيجبركم جيل هذي البلاد التي خلعت مئزراً في الطريق
إلى مشهد من عراة بأن تحفروا وجهنا في المرايا
ويجبركم عنفوان الجراح بأن تنزفوا كلما نكأ الصمت صوتا جديداً.
 
يهم الحداد بخلع السواد
تهم الجبال بخلع ذراها
يهم دمي باقتفاء شرايين كل العراة
فلا شيء يجبرني أن أكون سواي
فلا تهدروا وقتكم في توقع ما ريق...
 
(اعتراف الفصول)
 
فهذا الخريف يقول...
وداعاً لكم ورقاً ساقطاً في مهب الكلام
وداعاً لكم عالماً عامراً بالسبات
وداعاً لكم حينما تنكرون مقابرنا في الرفات
وحين سيجرؤ سيدكم أن يبيح معابدنا لصلاة الزناة.
 
أنا كائن فادح الانتماء إلى الدهشة الآن
لا شمس ترجع في النهار
ولا يعبأ الموت لو طال بي الاحتضار
أنا ورق ذابل في براعم أيلول
غصة صوت يقول
وأشياء لا تقبل التسمية
ورق رافض للكلام الرديء
وخيل تقيأ معنى الصهيل
وأوردة نافرة
سمعة لنساء تبرأن من عهدهن
خلال الحروب وأروقة رفضت أن تكون
ببهو القصور وحبر ينزُّ ليدرك ما معدن الأبجدية فوق
جدار الكهوف.
 
برابرة أكملوا شرقهم في الحروف
وشمع يذوب، يذوب، يخلف
أصداءه في الموائد جوعاً بجوع.
سأذكركم كلما مر ظلٌ بنا
فوق ذاك الجدار القديم ببلدتنا
في انتصاف النهار
وأعرف أن الليالي ستمحوه عند تجاوز آخرة الانتصار
وأن زلازل سوف تهدمه
كلما وطئ الأرض جيل جديد
سأذكركم حين يلمع عند البنادق وهج الحديد
ويسقط فينا شهيد جديد.
 
لنا أن نصارح أنفسنا بالمجازر
وأني صرير يؤكد مقدرة
الجذر أن يهزم العجلات
ومقدرة الثلج أن يتحدى الرفات
إنني عازم أن أكون عصياً على الموت
آوي إلى أول الخلق
كي أتعرف كيف الحضارة
تنشأ من نطفة لقحت كل هذه البيوض
وكيف الأجنة تترك رحم مقابرها في
الولادة كي تتنفس زهوَ
الهواء النظيف....
دخان مصانعنا أو رحيق الورود
التي حُصِدَت بمناجل أعدائنا.
 
حسبكم أنكم واقفون على الناصية...
بينما نحن نختار... أي طريق
سيجعلنا الدرب من غاية في الوصول
وحسبي أواصل هذا اللهاث
وأني أسوار تسقط
في العرس تحت حذاء عتيق
وسيدة أزمعت أن تقول لأطفالها
إنهم نسل هذا الجذام
وإن أباهم قضى نحبه في الطريق إلى بيتها.
 
إنني شارع يشتهي أن يدمر
أرصفة في الخطى وزوابع لا تستطيع
توقع ما جرفته
منازل قد أخرجت ساكنيها إلى
هجرة ولجوء مهين.
 
مقالع من حجر يتفتت في كف طفل سيرجم دبابة
ويريد بأن يرجم الآن
ملح يراوح في الهند حين يخبئ مفتاحه في العيون
ويأخذ صاحبه نحو بيت صديق
يصارحه بوباء قريب
غربة تتصيد حزن مواطنة في مساء مريب
ووجه يروق له أن يبدد عينيه بالحملقة.
 
شعب يقرر أن يتوازع
أرضاً ليحيا الجميع بضوء النهار...
وإني جموع من الناس
قد حرروا حلمهم في السجون
وإني شراع سوف يحرم في الركوع
مظلة هذا الشتاء الأخير
على ظمأ المستحيل.
 
إني لفيف من الناس
قد يخرجون عن الجمع في أول الدرب
لا يعرفون لِمَ السير يستعبد السائرين
ولا يعرفون لماذا التوقف؟
لماذا السنون مضيعة في الزمن؟
 
إنني صحوة من نساء
وإني أراجع قافيتي أستدين من الشعر وزناً
لأنثر صمتي في المفردات
أحيل إلى لهجة آمرة
إنني حبر كل الكراريس
أوعية للحليب المبستر
تلعقه قطة ستضل عن السرب
مدفأة أحرقت غابة من مطامح نوحٍ
معابر لا تستطيع مصالبة الدرب بالدرب
أو قبلة ستفرق ثغرين في أول الحب.
 
أمتعة تتهرب أن تحمل الآن كل حمولة ماض سيتركه
الغرباء بعيداً بعيداً
ليصبح هذا الأمام طريداً
وإني أودع مصيدة طالما جعلتني طعماً لهذا الأمل
إنني سأغادر جلدي
وأحظى بكل تفاصيل موتي
أودع جثمان روحي لحشد من الدود كي أتحلل في القبر
أرمي عظامي لكل الكلاب
وأسأل آلهتي أن
تؤجل تلك القيامة بعد الحساب.
 
أنا عاهة الوقت
إذ أتجلى
أعيد السنين إلى الخلف أصنع من أزلي أبد الأمس
كي أسترد دوائر
هذي الحياة كما العجلات...
وأستأنف الهرم المستبيح شباباً يزيِّفه اللهو.
إني قناع من الزهو
إني الصراع المرير لمصلحة لا تناهض قيمتها
وانتصار الظروف
وإني مآثر تلك الرفوف
وحشد الأواني إلى سقف ما أستطيع.
 
وإني أقلم كل أظافر هذا العدم
لأنشبها في ضلوع الندم
وإني الجنازات أو أخرجت
جسداً يافعاً للقبور
وإني أم ترتق ثوباً جسوراً
وعريّيَ يستر عورته بالبثور
وإني تعالي الشوارع عن نزوة الانعطاف
وإني تشاجر أقنعة في تمثل أردية الكرنفال.
 
أصابع قد تُسقِطُ
الآن كل مفاتيحها في الرمال
وتبحث عن خاتم واحد
لتزوج كل الرجال.
 
إني منابع تترك ماءً
سيفرغ لجته في الصحارى
أو ورع نازف في العذارى
تصادم جرحين في النزف
أو بركة من مياه تضاهي
البعوض وباءً
يفض بكارة منطقة ليصير الوباء مزيجاً من الثرثرات
وغانية تتشاجر في الحان.. تفضي لسيده
وتقول أحبك
إني أغادر نزلك
إني أشاطرك الرأي
حين يمزقنا أي حب إلى جسدين
وتجمعنا الشائعات حديثاً يروق لجيران بيت العدم.
وإني أحبك من حيث أجرت
غرفتنا للزمن
وإني أُجمِّع كل مفاتيح فندقنا غرفة غرفة.
 
إنني سوف أرحل
أترك أمتعتي
ثم أبدأ من حيث لا
يستطيع الدواء التنبؤ
لا يستطيع الرضيع التجشؤ.
 
أحبك مهما بدا في الطريق
إليك العديد من القرصنات
أقول لهم أن خذوا ما يشاء
الحنين، ولا تجعلوا رحلتي صعبة
في الطريق لفينيق
أصادق نفسي كثيراً
ولا أتعرف وجهي القديم
ولا وجه أمي الجديد
وأحدُس أن الوصول بعيد
وما بيننا حقبة يتسارع فيها الزمن
حين تباطأ أزمنة...
 
إنني أتشاجر مع كل من
قد أصادف..
أخبرهم أنهم مخطئون
وأن حبيبي يظن وصولي قريباً
فلا تجعلوا رحلتي صعبة.
 
إنني الآن أكتشف الأمس بين القبور
ولا تجعلوني أفاضل بين الرجوع
وبين الوصول..
أنا عالم من حروب تريد السلام
وصمت يحاول كل الكلام..
فلا تسمعوني
فإني أنوء بإرثٍ من البرتقال
ومن حاضر شائك وخلايا تناسل في غدة
سوف تنمو وتفرز ما يستطيع
التكاثر والركض.
 
إني مزيج من الرفض
والقيل والقال
وإني أعانق في غربتي البرتقال
وإني مُصارحةٌ تقتل السر
فلسفة تكشف الفقه
أشرعة ستعيد السفائن
نحو الموانئ كي تستعيد الرحيل وتكسر صارية في الصهيل
فكل الشوارع مقبلة في جراح المدن.
 
وأنا لا أقول أحبك
حين يحين الوداع
لئلا أفرِّط بالحب في الملح
والدمع.
إني أريدك
فقراً يعرِّي الحياة من الزيف
أو ترف الأغنياء
ومن ألم نافع للكتابة
إني أُصِرُّ على جهل معرفة تجعلني عرضة للقبول.
 
إن الحياة فراديس هذي الحياة
وإن التطرف يجعلنا تهمة من صهيل الجياد.
 
أحبك لا تدَّعي أنني أشبه الأخريات
ولا تستوي في الكراسي تباعاً
يؤرِّقني أننا نقترب،
يؤرِّقني أن بيني وبينك بعض المسافة والعقبات
وأن الغباش سيحيي وضوح اللغات
وأن المراثي تعيد الجنازات نحو الحياة
وأن البداءة مترفة في كهوف الحضارة.
 
سأمشي إليك وأعرف أن طريقي
وحول ومجزرة
والتفاتة عرافةٍ نحو رمل
سيخبرها ما مصير الجناة
يؤرِّقني حين تجعلنا
عرضةً للتهكم عند الشجار
ولا شيء يرجعني نحو ذاتي
قبيل لقاء مراكبنا في البحار.
 
أشد يدي فوق كفك
أعرف أن اللقاء وشيك
وأن الوداع ركيك
وأن الذي سيقرر قبلتنا آخر، فاحترس
ليس بعدك شيء
يوازي دمي غير هذا النزيف
ولا شيء يرجعني نحو تلك النساء اللواتي تزوجن.
 
إني طلاق بغيض ضرير سيبصر بعد قليل
ولا يعرف الدرب ما شكل زوجته وبنيه
وشيئاً فشيئاً سيدرك أن قليلاً من الضوء وهم
ولا شيء يُرجعه نحو عتمته
والأمان من الجهل لا شيء يُرجع عكازه
نحو كفٍ تغادره.
 
إنني لا أقول أحبك
حين يحين الوداع لئلا
أصادر في مقبل الوقت فيك النساء
ولست أريد التقاءك في آخر الحب
إني أجازف ثانية بكلينا
أفرِّق بين احتمال الرجوع وبين احتمال السفر
وأعرف كيف الشموس تمثل زيف السطوع
وكيف الأحبة يفترقون على أمل كاذب باستعادة كل الرسائل والذكريات
وأعرف كم قد يكَلِف معطفنا حين يسرق هذي المدينة
من الرعب والحافلات
وإني أفجِّر ذاكرتي في مجاهل عينيك
أُخفي دمي في وريدي كيلا أفرِّط يوماً بنبضي
عند احتدام النزيف.
 
وإني مشاعل في بلد آمنٍ
واستدانة شيء ثمين بلا أمل في السداد
ولا أرقٍ في السهاد
توجُّع قافلة في الطريق إليك، وبوصلةٌ
أعلنت أنها قد أضاعت بصيرة كل الجهات.
 
أنا لن أقول أحبك
إذا ما وصلت إلى باب قلبك بعد النساء
أنا لا أقول أحبك
لو على كاهلي عبء هذا الوفاء
لسوف أغيُّر ذاكرتي بعد نسيانها
ثم أجهل كيف الحكاية
يروق لها البتر قبل البداية.
وإني سأُرخي على كتفيك رداء نشيجي وأمتعتي
ثم أمضي إلى نول سجادتي
لأعيد درباً لهذي الفتاة.
أنا أعرف الآن أن وصولي إليك سدى
لا يغيِّر فيك الكثير وأن رحيلي أخيرٌ أخير
وأن علينا تقبل هذي النهاية
وإن توْءَمت كل تلك البداية.
 
ستذكرني كلما أزمع الياسمين
بأن يتساقط في الريح
ستذكرني في اقتراب الفراشات
من شمعة في الحريق
ستذكرني في تصدع تلك الجبال
بزلزال قافية الانتظار.
 
أنا لا أقول أحبك حين يضيع الكلام من الأبجدية
ولا أتصنع لهفة هذا اللقاء الوشيك
ولا أنحني للمزاول تدفن
كثبانها جثتي في الرمال
وبيني وبينك معجزة يتبادل ممكنها المستحيل
وإني أغادر مملكة تتوسف تيجانها
وأغادر مقبرة ستكسر شاهدة
واعترافاً يقول لنا
أننا سنكون ضرورة سر،
توقف عن كتم حاضرنا في الأكاذيب.
 
إني مدارس قد أحرقت كتباً درَّست جيل هذي المدينة
محرقة أعلنت أنها لم تمس اليهود
وفنجان بن يُعيد البرازيل
مملكة في الخرائط حين تعوَّد
أطباق كل الموائد.
إني أجازف بالارتقاء لأبلغ
هذا الحضيض الرخيم
ستصطدم الآن فيَّ السماء بقاع الهباء
لأدرك أن النجوم تساقط تحت حذاء الدماء
وإني تتبع خيطٍ من الصوف ثانية.
 
ما الجريمة؟
ماذا سيحدث لو أن كل العبيد
استجابوا لجلب السياط؟
وماذا سيحدث لأن وشماً تبرأ من عبدْ
وأسلم أن تغيُّرَ عالمنا مستحيل
فتهنئة للحروب وتهنئة للصروح
فعودوا إليكم
أعود فلا بيت خارج جلدي.
أقول لكم: لا مكان، أنتم الآن مرحلة
حررت نفسها كي تواكب مستقبلاً غامضاً
لا مكان لكم
أو مكان لنا خارج الروح
أو شعرنا سوف يملأ منا الصدور.
 
لعلي أعود إلى الذات ثانية لأرمم حب التقصي
لعلي أعود إلى الذات
رافضةً كل هذا الرفات
ومنجلنا ذاهب في السنابل
منجلنا الآن يخذل فصل الحصاد.
إنني غابة تتصدع تحت فؤوس من الخشب المازني
وبيني وبينك متحفنا من زجاج التماثيل
حين تكسر تحت انبجاس النخيل
توافه عالمنا جوهر فاتن الماس
أصداء امرأة في النفاس
ووجهي يغامر بالابتسام
حين سينتحب القلب.
 
لا شيء يرجعني نحو قامة هذا الخنوع لأني انتصبت
وأبصرت في الأرض مهزلة السل، منذ ثمود تعود إلى الزحف بعد الوقوف
وإني انتصبت ولا وسع
للأرض أن تتجاذب أطراف هذا التطور ثانية.
 
إننا عازمون على المشي
رغم اتسام التوازن بالصعب
ما عاد يجدي دمي ظل هذا التوقف في الجرح
إني بريد يجرد كل طوابعه من عناوين كل البلاد
مقاصل ترمي بكل الرؤوس إلى وهدة في الحداد
وتعلن مملكة من جثث.
هنا سوف أجمع بين الحمام وبين البنادق
بين الحجارة والموج
بين النقاء وبين الشياطين
أجعلهم ألفة تتطاول فوق العداوة
فوق احتمال الحروب
وفوق سعادة من تاجروا بالبنادق أو تاجروا بالدماء.
 
لن نجعل الحب وقفاً على الحالمين
سنعشق في الحافلات... سنعشق في الضوء
في غرفة يتزاحم فيها الأثاث
ونعشق في منجم الفحم: في أول الخبز أو أول الشعر
نعشق عند مغادرة الفعل.
سوف نساعد كل اليتامى أنى يجيئون
إني أسائل هذا الأمان
لماذا يسيطر فينا الهوان؟
لماذا تبعثرنا الريح،
وتشملنا هجرة في مكان سيحكمه الشهداء؟
لماذا لأمي أصابع أكثر منزلة من ضلوعي؟
لماذا لوجهي ملامح شرقية ستهدد شرعية الانتماء إلى الكون؟
لماذا أظل أنا بعدما صرت في الآخرين،
تماهيت فيهم: وأصبحت منهم؟
 
فلا وقت للحب والفن كي يجعل الذات قابلة للغياب
فكيف اختلطنا كزيت وماء؟
وكيف تجلى لنا الملح في الآخرين؟
فيا أيها الخوف لا شيء يرهبنا
إذ تساورنا شهوة الانتظام
وأن علينا التراتب، واللجم.
 
لا شيء يرجعنا الآن نحو تراكب عالمنا
إننا خارجون عن العرف
عذراً من الصمت
إن صار فينا الكلام جزافاً
وأعرف أني خسرت بلا سبب واضح
ويرجع فيّ السنونو من الغيب يسأل أعشاشه في الخريف:
لِمَ القلب أحنى غصوني لأصنع قوساً سيرمي سهام التوجع صوبك؟
فكل العذابات قد أقلعت من جذور التحدي
وبعدك لا شيء أكثر مغفرةً
ثم لا شيء يعني لنا
بعدك العمر لا يستطيع الوثوق
بنبضي ولا تستطيع الجذور توقع أرضي
ولا يجمع الفاتحون على أي مملكة يهجمون.
 
وبعدك كل الخرائط سوف تمزِّقُ عند الحروف
ولن أتعرف شكل حبيبي
ولا شبق الماء حين سيخمد بعض حريقي
فأين طريقي
كفى يا سراط المدى
فالدروب تلوت
وتأخذنا باتجاه وحيد
وقد يُسفِرُ النحو عن صرفه مرتين
وقد يتنحى عن الحكم فرعون
قد يتفرد خيط النسيج
يعري التوابيت من كفن لا يليق بميته.. والعلم
يجاملني عابر كي ننام معاً
ثم أصحو لأبصره راحلاً في الصباح.
 
أهم بتصحيح ذاكرتي في الرياح
ربما سوف أجرح
عالم بورخيس (1)
بأي كلام رخيص.
ربما وأصابع جارة تساقط فوق نهود العذارى
أقول بأني مترفة العنفوان
وأن بلادي مسيجة الجرح بالقيح
يضيقون من حشرهم في الرتابة
من عربات الجنون
ومن رفع أعلامهم في الرياح
إنهم آمرون على شرفات الغناء
مقيمون في اللا مكان
عظيمون في بيئةٍ عرَّفتهم بأوصافهم
إنهم في الأغنيات التي جعلت منهمُ الخالدين.
 
قلت لا ترفعوا الصوت أعلى
من الرعد إن الغيوم تغطي سمائي
وترفع عن كاهلي عطش الأرض عند الشتاء
وأنت القريب البعيد
وأنت أعالي الحضيضْ
وأنت ثمار النخيل الذي يتحدى الصحارى
ويكتب فوق الجريد قصائده للسكارى
وإني فريدة حزن يضج.
 
أخطأوا فاستقالت حياة
فمن سوف يفتح إغماضة العين رغم النعاس
ورغم ارتحال النحاس
كحكمة مملكة تنتهي في انهيار العروق
كأني أفاضل بين الذهاب وبين الرجوع
كأني خشيت تردد كفيك أن تهتدي لنهود
كأني أُحيطك موتاً بهذي الحياة التي تتسرب ثانية من عروقي
كأني عرفتك من قبلُ
لا تجهل الآن بادرة كحضوري
وبيني وبينك متسع للخلاف.
 
لنا رأينا وقذارة هذا الذي خلفنا
ولنا ما لنا
وعليهم تقبل كل مجاهلنا
علهم يقبلون تلاقحنا
وضمانة هذا المزيج من الحب والعنفوان.
أريدك أكثر مما يريد الوصول
ويحملني نزق الرمس أن أحتضر
وتُحيي الحياة على سقف روحي تفاصيل هذا السأم
وأحتال ثانية وأردد أن لو تصادف غيبان في حدث واحد... قد يكون القدرْ.
وأن التقائي بعينيك في مستهل البصر
كشمس تفجر في القلب موج الشرر
وحدنا قادران على الموت كالأنبياء
عرساً لحجب الجنازات عن كل تلك الأكاليل.
 
شاعر مارد يخرج الآن لا يقبل التسويات
ولا يقبل الآن نصف الحياة
ومتهم بالقصيدة
منتسب للصراع
سيجعل من موته حدثاً عالمي الغياب
ليستأنف الموت في الآخرة
حسبه أنه قد يضحي بمحبرة.. وورق
وينزف شعراً تبدى لكم
باهتاً حسبه أنه قد نما
في المصانع بين براغي الظروف
وبين مطارق غرب وسندان شرق
ويبدو بقامته الآن أعلى من الناطحات.. وأجمل ظلاً من النخل
أكثر من واحة، حسبه أنه يتزنَّر
حين يريد مقاومة الموت بالموت
يأخذ بعضاً من الأبرياء إلى القبر
ليتسع القهر واللهو
يمحو بقايا قصائده في المديح
يوسع أغراضه لهجاء عن الذات
قد لا يقود لشيء سوى متعة كالعذاب
وقد لا يكون جديداً عليه
بأن يُخرج الهم من قبحه ويغني له
ويحدِّث قوماً عن الجائحات
عن الحب في ألم الهجر
عن ثورة تتواطأ في آخر النصر
عن كلما ولماذا وكيف ولكن
عن كلمات ستأتي في أول السطرْ
ولا يستطيع الكلام تجنبها صفحتين
يحدثكم عن صراع القوافي
لمعنى أصيلٍ ولا يقبل الانحناء
لوزن أصيل ولا يقبل الارتجال
وعن صبية يعرفون المعاني وحتمية الاحتمال
وعن رجل سيقول وداعاً وداعاً فلا تنتظر.
 
حسبنا أننا مقبلون على الموت منذ الولادة
حسبي أنني بادلت بارودكم بالقلادة
وأني نسيت تناثر شعري
ضفرت تواتر هذا النحيب
مع السل ثم اهتديت إلى الذات
خائبة الرمح والقوس
هذي ربابة أغنية ذبلت في البداية
أو ذبلت في السراب، خرجنا من الموت
من هجرة نزحت كل تلك الجموع وآلت إلى فندق
تتفاقم أسعاره بمرور السنين،
فلا وسع للساكنين
بدفع ضرائب هذا الحنين
ولا وسع للأرض
ها نحن أسرى المهاجر
و(البرتقال الحزين) (2)
فحسبي أني عشقت من النزل
سيده واختبأت أرتِّق معطفه في ليالي الشتاء
أحنِّي جلود المكان
وأدرك أني غريب
غريب يجامل غربته باحتمال الرجوع ويعرف أن الحقيقة
أكبر من أن تواجه
نفسك في كذبة وصديق
وأن الحقيقة شيء جدير
بكل العناء وقد يستحق الكذب
وقد يستحق المهابة حين نزوِّر تاريخنا
والحقيقة شيء مريع
والحقيقة أصعب من أن
تعي قدرة الاحتمال
وأصعب من أن تقدر لحظتها
والحقيقة وحش سيفترس
الذكريات
ومستقبلاً واضحاً
قبل مضغ القليل من القات.
 
إن الحقيقة قد صلبت في القديم مزيداً من الأنبياء
والحقيقة نسبية وتسبب هذي الحروب
وتجنح للسلم حين تُزاوج
مطْلقها أو تقول كفى للشعوب
ولا بأس أن تكذبوا
بينما ستجف الدماء
وكي تنثروا قمح أيامكم في مهب الحقول.
 
الحقيقة دوماً تضحي لتجعل أصحابها سعداء
بشيء عن الوهم عن قصة الكبرياء
الحقيقة قاسية في الحقيقة والحب
لا تستطيع اجتراح المزيد من الجنس عند برود العلاقة
لا تستطيع تجنب إغراء غانية للزناة.
والحقيقة عبء الذين يمرون في الأرض
من غير مقدرة للتناغم في وجهة السرد.
إن الحقيقة لا تقبل الناس إن أنكروا سطوة الحب
إن الحقيقة همسة صوت سيخترق الصمت.
 
إني أحبك أكثر
مما يتاح لقلبي
ولا شيء يرُجعني نحو نفسي
وإن الطريق إليك تغيِّرني وتضيف لأطرافي
الآن، حالة تلك الزعانف كي أتخطى البحار
وأجنحة وسناماً يضاهي القفار
الطريق إليك التباهي بآخر ما تعرف الكائنات عن الكون
بحث النزاهة عن أي عهد..
وتفرقة الغائبين لأيامهم في الحنين
وجرح من الفأس في سروة تتهاوى
وإن الطريق إليك يدمِّر شيئاً من الوعي
تسدي إلى بمعرفة تتناقل تاريخنا في بداهة حاضرنا
وتخلِّد ماهية الانتحار.
 
أُحس بعينيك خيطاً رفيع البصر
سيدخل من خرم إبرتنا
ويُخِيط المدى كلما نزف الأفق غيمته في شتاء مريب
والحقيقة أكبر من بلدة هجَّرت ساكنيها مراراً
بدعوة هذا الوباء ومغفرة التبر والحب
ولا أحد سوف يعطي الحقيقة قدرتها في اجتناب الكذب
لأن الحقيقة قادرة أن تموِّه
بعد الشجار العداء بلمسة كف
وقادرة بعدُ أن تبتسم.
 
والحقيقة طفل بريء بحجم الشيوخ ووجهتها منذ بدء
الخليقة أكثر سمتاً من الخطو
إن الحقيقة معضلة وتكلف بعض المناصب والأصدقاء
تكلف حباً يغامر بالانحناء
وتدلي بكل محابرها في الخطب
والحقيقة طيعة
إن أردنا التشبه بالذات
لا تقبل الخائنين
والحقيقة حين تُشيح عن الناس
لا يفهمون مراسمهم وإضاءة حاضرهم
تستطيع المضي بأسرع من
ضوئهم وتواتر أصواتهم.
 
فسلاماً لكم في معابد تلك الحقيقة، إني التأمت
مع الشائعات وقلت لنفسي
وداعاً فلا بأس أن أشبه الآخرين
أجرِّب نزعتهم
في اقتفاء التفاصيل حين يغادرني ورع الزيف
إني أجرِّب غيري لأني أحادية السمت
لا شيء يُرجعني نحو نفسي
قبيل تصادم هذا الجدار وظلي
ولا شيء يُرجعني عرضة للسكون
حين تناءى الكلام
ويمضي دمي في تهجّي قافية الأوردة.
 
لك الشعر من حيث لا يعرفون
لك النثر
كيف تناهى لمقتلهم كل هذا الوباء
أقول بأن الطريق إليك تجذِّر في مهجتي وطناً
والطريق إليك تعلمني غاية السير من غير أن نجعل الأفق أهدافنا والأمل
لعل الوصول سيرجعني نحو أول ذاتي
لكي أتهجى جرح الوجود
وكيف يكون الصديد بعيداً عن الجرح
كيف تدور الكواكب من غير أن تتصادم
إني تساءلت كيف الزناة سيرمون في برهة حبهم في الغرائز
كيف أغيِّر ألبستي كلما غيَّر الكرنفال مظاهره
واختفت في المعابر جدوى الطريق
ستجعلني بعد هذا أكاشف نفسي بأن الرحيل إليك
يكلفني هجرة في التقاليد كي أتمرد ثانية
وأطابق ما بين معرفة العزف والخبرة الأولية في العرف.. والذكريات.
 
لا شك أني قد دفنت متاهتي بلقاء خارطة من الصلصال في عينيه
لا زمن يشير إليك في مخطوطة التعريف
هو أنت ثانية فكيف تعود مرتدياً رداء الناس
كيف من إلحاد هذا الماس
تجبرني بأن أجثو على الماضي
وأن أختار مثل نبي
كيف من ظلمات غاباتي
فتقتلني... وترفع راية في الحب
مختلفاً مع التاريخ كيف الآن سوف تعود متشحاً بصرح الخوف
كيف أقول مختلَق بغير إرادة القبطان
كيف أعود من ماضيك نحو الآن،
حين تساوت الأنواء بالأحزان
وكل الموت لا يكفي بأن تنهار شاهدتي؟
وعيتُ وجودك الحاني مساء الدفن
كنتَ مثار أسئلتي
وكنتَ جواب هذا الغيب محتملاً
وكنتَ النخب
كنت غضاضة التاريخ
شُحَّ الماس والتبريح.
 
سوف أقول ثانيةً بأني لم أعد طفلاً
ولا تختال دالية بأنخابي.
يسوع الآن لا يدري لماذا الصلب
قد يحتاج أخشاباً بحجم الطوف!
كيف الناس يعتادون أوثاناً
وما حلموا بأي نبي
كي يجلوا ملامحهم؟
يقول الآن
هل للناس مقدرة
لكي يتقاسم الأعداء كل الأرض؟
هل في الحب مقدرة لكي يقبل
مزاج الجنس في الحانات؟
هل غوغول قد يختار غير نهاية الأشرار،
هل في المعطف المسروق بعض المالْ،
وهل نعني بأن نختار؟
قلت: أكاتب التابوت كيف أموت كيف أخون؟
قد أحتاج بعض سلاطة (الماغوط) (3).
 
وداعاً يا رثاء العمر
إني قد بلغت القهر والتاريخ
الآن تشملنا مقاهينا الرخيمة
خلف أقنعة النحيب.
الآن في الوجه المسافر في الغريب
رأيت كيف توجِّه الجندي للحرب البذيئة
خبر على صدر الجرائد ـ ودم على طرق الطرائد
خوف ظبي من مهانته
وسيرة عالِمٍ يحتاج أنبوباً
ليعترف المركَّب بالتفاعل
واجتهاد فقيه عصره
في الشرائع وانتحار قصيدة في الوزن
حرب النثر مجتاحاً سماء الشعر
غربة منبر في القهر
أقنية مشرَّعة تُتيح العهر.
 
لا أدري
أحبك مثلما شاءت مقابرنا
أحبك ما مآل العشق في رجل من التأليه
والتشويه لا يحتاج
كل الناس كي يقتات شهرته.
لا أدري لماذا أنت
لماذا قد يشيخ الغيب
فالعربات قد وصلت.
 
أحبك ما مصير الرعب في الغارات،
ما تأثير هذي الفأس في الغابات،
ماذا قد يُتيح العمر لو غابت سمات الصوت في الآهات؟
أحبك لم يعد وجهي بلون القهوة السمراء
إني الآن جندي بلا عثرات
وحتى النصر لا يأتي بأوسمة بلا قتلى
كأني لم أعد ثكلى
كأن الوشم فوق جلود أمكنتي رماديٌ
وإبرة خيطك المعتاد
سوف تخيط أمتعتي.
أحاول أن أجوع الآن
فلا خبز يبيح مآثر السرقة
وعُشر الموت لا يكفي
بأن أدنو من القرآن.
 
تراوح في دمي الشطآن
أنا أبكي أنا أحكي
ولا أحد سينصت لي
ولا أحد سيجني من صلاة الشمس
ما عادوا من الطرقات
إن القات لا يحتاط حين يفرِّج الكربات
وإن الحزن زنديق بحجم الكون
إن العيش مقصلة تقوض ما يريد الفتية الماضون بالصدقات.
 
إني الآن نازفة
فلا الحتمية العمياء قد تُغني
عن العرضية الخرقاء
سوف يزول من قدري
لزوم الحيث والـ لكن
ولن ألوي على الكلمات
فسوف أحرر المعنى من التأويل
سوف أحرر الأوزان من عبثية التدوير.
 
أنا القاموس
لن أحتاج أن تتفسر الأحزان بالصدمات
لن أحتاج أعياداً
لمضغ القات
لن أحتاج أزواجاً
لصنع خليقة أخرى.
أنا التابوت حين يحيل هذا الموت ميلاداً
ولا يختار غير القبر كي يغتال هيكله
أنا من شئت حين تشاء
أنا عبثية الأصداء
حين تلامس اللا شيء
لا وطن يقارب بين منفانا وحزن القلب.
 
سئمت الآن من وجهي
ومن كفي ومن جسدي
سئمت الآن من فرحي ومن حزني
بودي أن أكون الرحم حين يُشكِّل الأبناء
ولا يبقى سوى دمه
مشيمة مارد راياته اللاءات.
بودي لو أكون الآن قنبلة ستفتح في الجدار الباب
بودي لو خرجت الآن
وقلت بأنني حرة
وأن الحب لا يحتاج خاتمه ليبقى القلب.
بودي الآن لو أسري
لعاصمة تؤلِّهني وتجعل من صلاتي سنة للكون
بودي لو أصير بطاقة تدعو بريد الموت للرقص.
 
بودي لو أبوح لنسياني بذاكرتي
بودي لو بعيداً كنت
لو عشتار نامت في صباح الخصب.
بودي لو يشاء الوقت أن أبكي وأن تنهال مزولتي على النخل.
بودي لو يجيء الصبح
ولو يحتضن كفي سوى مفتاح فردوسي.
بودي لو يشاء القلب أن أختار ثانية.
بودي أن الناس في القداس محتفلين كي يبكوا بُعيد الرقص.
بودي لو يكون الآس جورياً بلون الورد،
لو وجهي تقلِّمه صفات الرفض.
بودي لو عرفت الآن كيف أُجدد الأحلام.
بودي لو تُريق حقيقتي العصماء هذا الوهم.
 
هل بالغت إذ أعلنت
يكون القادم المرجوُّ
فينيقاً كوهج البحر... كنعاناً.. وكنعانية الأحزان
وفي زردي فضاء حديدك المسنون
قد يتجابه الآتون
ولا يبقى سوى الإنسان.
 
أحبك يا صفات الشعر واللاءات
فلا أحد يُعيد إليَّ تابوتاً بحجم الموت
كنت تريد أن أُقصي
مداراتي ليرفع كوكب الميراث غبار هذا الكون
كنت الأمس نورياً
وقيل بأنني غاليت حين رقصت فوق الحبل
كنت عصاي والمطاط في شجر من الغابات
كنت الوجه في نزوات أقنعة ملفقة
فلا طاغور سوف يقول إني لم أعد طفلاً.
خذوا مائي وأمتعتي
وشدوا من جلودي كل أشرعتي على الصاري
وقولوا بعد هذا البحر سوف يشرِّد القرصان
ونحن لا نحتاج مرساة وأسئلة
كفانا كل بوصلة تعُيد لنا جهات الوقت
ونحن الآن محتدمون مرتبطون
بامرأة من مداد الدم.
 
وصلت وبعضي هناك
وبعضك متسع في القبور
وصلت وبيني وبينك شيء يترجم فينا الصراع
وصلت ووجهي الأخير يحدِّث أمي بأني سأرجع حين تصدِّق أني أجيء
وسوف أقول بأن الذي تغربت فيهم حين جئت إليك
تغيَّرت ما عدت نفسي
وحين وصلت وجدت الحضارة في رجل واحد
والحياة افتراس وما قد تبقى من الناس ينتظرون الزلازل والحب.
فلا غجر عاشروا شكل هذا الرحيل
سأعزف أغنية غررتني
لا أحد سوف يلجأ من خوفه
سوف يلجأ للحب
لا أحد قادر أن يقول انتميت
إلى جهة تتخطى مدار البحار
قد أشارت علي َّ ثم لا جهة ستشير عليَّ
بتركي السفينة طوفاً أخيراً يؤرَّخني
فالخليقة لا تبدأ الآن من ضلع امرأة قاصرة.
 
وإني أصارع كيما أفر وفرعون خلفي وروما أمامي
وأمشي على الماء
إني أسير على قشرة الحب والانتقاء
أخف من الريش
لا أستطيع التوقف إني أغب الخطى في الشوارع قبل الشروق
فللشمس قدرتها كي تجابه هذا الجليد وإني أخاف الغرق
أخاف الذهاب أخاف الإياب
وأخشى بأن الطريق إلى الأمس كانت مشققة كالجليد
ولا وقت للحب، لا وقت للشائعات
ولا وقت للقيل والقال
لا وقت كي نتجرع في الليل كأساً من البرتقال
ولا وقت كي أتجاوز هذا الحنين إلى البيت.
 
إني مزيج من الصخر والارتجال
وإني الأوابد متروكة في الرمال
ولا أعرف الآن كيف سأسدل أشرعتي
وأقول لريح المقالع
لا تشتهي حجراً واحداً
فلا أحد سوف يلتفت الآن للذكريات
وحدنا القادرون على الانتظار
على السلم في زمن الانتصار
ووحدي أُقبِّل وجهك في سر هذا المكان
وتجهلني كلما عبرت خطوتي
أو تجاوزت ظلي على الأرض
رافقتُ هذا البنفسج عند انبجاس الصقيع
فكيف أُعيد تركيب نفسي؟
 
اندثرت ولا شأن للعدم الآن
إني وُجدت
ولا شأن للغرباء بأني غاية هذا الوجود
ولا شأن للموت أني أُطيل زفيري لأُخرج كل الغضب
وأُطفأ شعلة هذا اللهب
ولا شأن للقمح أن الحصاد يوزع غلته للصوص
ولا شأن لي بمزيد من الحب.
 
أنت وصلت وبعدي ستندثر الأغنيات
وأمشي على وتر واحد في الحياة
وأحمل من قصب النهر
تلك العصاة تشق الجبال
وأمشي إليك على خيط تلك الحبال
وتُبصرني في اتزان العصور
تقول بأني خرجت وأني تجاوزت جيلي بطفرة
وأن جنيني بلا والد
والعذارى انتشرن
على كل صلب ولا أستطيع
توقُع ماذا سيصبح هذا الدم المستفيض إذا ما توجس!
 
قلبي شرايين خارطة
أورثت سفني كل هذا الضياع
رحلت وبيتي يُقلِّم أشياءه يتناسل في شقق الغرباء
أقول لأهلي بأني خرجت
ولا وطن بعد هذا سيكفي هويتنا كي تُباع
خرجت وظلت عواصم قافيتي يا بلادي
معلقة فوق كعبة هذا العراء
خرجت وجارية جرَّبت قصة، ثم لم تستطع أن تُطيل البقاء
حملت بنفسجة وقلت بأن الفقير يجرب كل مكان
ولا يستطيع تَحَمُلَ صاريةٍ
دون أشرعة دون معنى.
 
أحبك من حيث ما عاد للقلب صمامه فالنزيف يؤرِّخ فينا
أواخر ما عرف الحب قبل الغياب
وإني أحبك في زمنٍ غامضٍ
والحقيقة لا تزدري كذبة آثرت أن تخفف عن ساكني الوهم هذا الشقاء
والحقيقة يا رجلي تستعيد التقصي ترتب في الناس
غاياتهم وتريد لنا أن نعيش
قليلا بلا وجهةٍ ريثما تستطيع الرياح
تَقبل أشرعةٍ غضةٍ.
والحقيقة تُرغمنا أن نقول
وترغمنا أن نقامر أو أن نغادر مائدة والكثير من المال
فكن شاهدي في دمي أو فك آس هذا المكان الجليدي.
 
إني أخبئ نفسيَ فيك
حيث تصير الكهوف بدائية.. والآس يا صديقي
هو الحزن يرسم فوق الجدار خرابيش كالاحتضار
فكن كاهن الاعتراف الأخير لسيدة أخطأت وزنت
هل يكون البغاء لها مهنة في انهيار البلاد
فكن لا يبوح بِنسلي من الغرباء
ولا تخبر الناس أني
أتاجر بالوهم كيما أبيع الجياد لتصهل في أفق ماجنٍ
لا تقل للنساء بأني أخبئ ثدياً لكل عشيق
وأني أهيل المعابد فوق رؤوس قريش
وأني أحب المدينة
لن أرجع الآن
لن أتدبَّر آخرتي في مكانْ
سأبقى أهاجر
إني تركت الرسالة والوحي
لن أهدي الناس
لا تخبر الأنبياء أن السماء الوحيدة لم تنقذ الأرض عند الوباء
وكن كاهني في الزفير الأخير وهذا هو الموت محكمتي.
 
إنني أعترف
هنا الآن بيني وبينك نافذة تحجب الدمع
وأحتاج أن أخبر الآن ذنباً صغيراً
وأدرك أن الحقيقة أكبر من أن تخبأ في القبر.
لا أستطيع الرحيل
بدون التعري ولو مرة في حضورك
عدني بألا تشي بخرائط هذا الجسد
ولا أن تقول بأني ممزقة تحت جلدي
وأني سأخلع معطف هذا الوقار الرخيم
وألقي بثوب الحداد على جسدي في الجحيم
وخبِّئ تفاصيل صدري ذاكرة للذنوب
ولا تخبر العابرين بأن السياط تُخدد ظهري الذي ما انحنى.
 
أنا سأبوح أجرد نفسي أمامك
في برهة كي أموت وأغدو أخف من النعش
لا أستطيع احتمال الجنازة
من غير أن يعرف الحب أني عشقتُ
ولا أستطيع الذهاب إلى الموت
من قبل أن يعرف الحزن أني بكيت
فخذ سر كائنة جرَّبت طرق الانمحاء
وماتت بلا رغبة في الحضور
أمامك متسع أن تُعيد أهمية الاعتراف الأخير
فلا أحد يُنصت الآن.
 
إني أُفجر كل غرابة مجتمعي
وأُهيل التراب على صفحة من دمي
إني أخاف من الدود
أعرف أني وُجدت على الأرض عشت وأخبرت
قصة هذا الوجود الغريب
قُبيل الرحيل
وأرَّخت أني أمر
وأترك ملء الصحارى الفسيحة سر النخيل
وأني ند لتلك الحضارة رغم بدائية العمر.
 
كن كاهني فوق قبري
شاهدةً أرَّخت في تقاطع دربين
وكن كاهناً للقلوب التي نبضت فجأة في الضلوع
وأغلق بكفيك عيني عند نشيد الرجوع
وبدل ثيابي بأعلام تلك البلاد
وقل بأني شهيدة هذا العذاب
وإني برغم تنحي دمي عن دمي
أستحق وسام صهيل الجياد
وقد أستحق من القوم عبء الصلاة
وإني شهيدة حرب ولا تستحق اهتمام الصحافة.
 
لا تشبه الروم والفرس في الحرب بينهما
ولا تستطيع تَوَقُعَ ماهية الموت
إني قُتلت وإن لم يكن في إهابي المشظى رصاص.
وضع جسدي في قماش العلم
وقل لأبي إنني لم أحارب
ولا في يدي بندقية جدي
وأستشهد الآن
فكن واثقاً أنني رغم هذا
أواصل في داخلي سيرة البرتقال
وقل أستحق من القوم يوماً وساماً
ضريحاً يليق بسيدة أوقفت عمرها للصراع
لست أدري إذا ما انتصرت وماذا هزمت
ولا أعرف الآن كيف هربت
وأين وصلت ولكنني أستحق الرثاء!
 
أستحق من الناس بعضاً من الآس
ولا أشبه الآن قُواد تلك الجيوش
ولا فاتحاً حاسماً في الفتوح
كنتُ البنادق والعشرات من الفرق المستنيرة
حاربتُ كل الطواحين
وإني انتصرت كطوفان مأرب.
 
لا تتركوا جسدي يُدفن الآن ميتاً
أقول أنصتوا لاعترافي
اِقرؤوا آية بعد موتي
اُذكروني إذا ما أقمتم عكاظ دمي
واذكروا شاعراً
مات من كثرة الصمت والحبر والانزواء
ولا تأخذوا شِعر هذا الرثاء إلى غرض واحد
أو لغة واحدة.
 
أقول لكم ضاع عمري
وضِعت على شرفات القواميس
أبحث في عبث الترجمات
وأبحث عن معجم واحد شامل للغات
ولم أترك الأبجدية
يوماً بلا كلمات
أنا أستحق قليلاً من الصمت
فلا تهمسوا في الرواق الأخير من النثر
إن الكلام إذا لم يجد منصتاً
والبداية لا تستطيع البداية قبل الختام
حاولت أن أتخطى المعاني البليدة والابتذال.
وداعاً لكل المعاني البريئة
وحسبيَ أني رأيت الصواعق تحرق حقلاً من الصمت
حسبي الحريق الذي قد أحال دفاترنا كومة من رماد.
 
أحبك عند احتراق العصافير بالعشق
عند توَّجع جرح الغزال.. على مذبح الصيد
أعرف أني تجاوزت حد الخيال بمعجزة الحب
ولا شيء يجعل من كوكب الأرض
أكثر كونية من حضورك في كوكبي
آه أنت تزداد في كل حزن دموعاً وملحاً وأرصفة ونبيذاً
ونخباً يُلِّح على الأمنيات لكي تتحقق على الغيب كي يتقدم
غير دعاء المصلين إذ آمنوا بالقدر
وها أنت حيث تُريد
وقبعة غادرت رأس هذا الصبي
إذا الريح شاءت بأن تحرق الذكريات
فماذا يقول الخريف لأوراقه كلما مر فصل على شجر يابس في الربيع؟
هل يقول اذكروا زهر أمتكم في الربيع،
أو وداعاً لكم في الزوابع،
لا تحزنوا فالبراعم تولد في كل عام؟
أو يقول ارحلوا في التراب
وعودوا إلى الأرض مثل السماد
كيف أن الفؤوس ستحصد
في برهة غابة
أو خذوا سمتكم هادئين إذاً
تحت وقع البساطير والمجزرة.
 
هنا قطة في زوايا المطاعم
تأكل لحم القطيع
وجروٌ يقود ضريراً إلى الهاوية
أقول استريحوا إلى حب من يُؤخذون إلى الرجم في قبلة داعرة
ومن أيقظ العمر يا وطني في المنافي
من أجاز لنا أن نموت
وكيف يعيشون من غير أن يدفعوا جزية؟
فكفى وكفى كل ماض غداً
وكأني وصلت
بثور على جبهتي من وباء قديم
وأمتعة فظة....... من ملابس
ولا شيء يجعلني أتراجع عن فهم أنك ترحل عني بعيداً
وتجهل ما أوصل الشعر نحو مديحك
تجهل كلفة قولي
وتجهل أني نضجت
وجمعت في المفردات الكثير
من الذل والصبوات
ولا شيء أبعد من وطني وملامة منفاي.
 
كيف خذلت ملامحنا في قناع
يروِّجه الكرنفال؟
فكيف إذاً سوف نمتلك الغجر الطيبين وكيف سيمضي كماني إذاً في النحيب
ليعرف جمهور هذا المخيم
أني معذَّبة أنني وتر في الشجر
وأمتد من خشب السنديان وأني أصيح من السرو
وأني حزين كما الزيزفون؟
فكيف أخبئ عيني حين ستندم كل العيون؟
 
أحبك قبل التقاويم
كن واثقاً من رجوعي إليك برغم توقف نبضي
إذا راقني للزوايا البعيدة في الذاكرة
ها إنني أتزوج نحبي
فهذا زواج أخير
لخيل رمت بالفوارس في المعركة
بعد هذا يقولون إن الحروب تُبدِّل أعلامها بعد كل انتصار
وإن الملوك يمرون
فوق العروش وقد يسقطون
وقد ينقضي عهد هذي السجون
وتبقى مموهة الرعد تلك الشتاءات تكشف عريَ القرنفل
وإن الذين يصيرون في برهة خدماً للفؤوس
ستأكلكم نار هذي المجاعة
مثلما تأكل النار حطابها في اللهيب
فلا تُكثروا لغوكم في الخطب
فهي لا تجعل الناس يبتلعون الأكاذيب.
 
إن الحقيقة فاتنة
والمزيد من البوح يلزمنا كي نحذر من أدعياء البطولات والكبرياء
والحقيقة يا ولدي أم لهذا المخاض
وأجر الذي مضوا في اكتشاف البحار
أيقنوا أن كولومبس الغرب آخر من يكتشف
وأن خرائط كوكبنا اكتملت... بالوطن
وعيشوا بما يتبقى لكم من زمن.
هي الأرض مكتظة فانهضوا
فانهضوا نحو غابتكم واصنعوا من قرار الربيع السفن
أو فعيشوا على طوف أوهامكم
مجيئاً ذهاباً إياباً على الموج بين الجزر
وقولوا بأن براعتكم في انتشال الكنوز ستكسبكم
متعة الارتحال
أو فلا تعقدوا صفقة فقراصنة الحلم لا يقبلون الحقيقة أو نصفها
وقولوا لهم سوف لن نلتقي.
 
أُحبك عند اختناق الرحيل المبكر
بين الشهيق وعند الزفير
وفي كبوة الحلم قبل الصهيل
أحبك لا أستطيع الرجوع إلى جرح ذاتي القديمة
فوق جدار المُحرَّم
باشرت إيقاع روحي
تذكَّرت منبت صاريتي بعد موت الشراع
وهل عدت نحوك أنت بلا جهة
والعناوين مفقودة والزواجل مكسورة الأجنحة
وتلك الرسائل ضاعت
وَضيَّعت وجهي في الكرنفال،
كما ضاع موتي..
يكلفني ورد باقتك الآن كل الربيع الذي قد تبقى لنا
وغيِّر فينا مسار الحوادث... مارس فينا قليلاً من الخبث
علّ الحياة ستصبح أسهل من غرفة في الغبار.
 
أنا لا أقول أحبك
حين يحين الوداع
لئلا أمزق فيَّ شغاف الكرامة والكبرياء
فعزلة عينيك فينق أزمنة مرة
يضيق عليها الفضاء
حين تحين القيامة
ولا أُخبر الله أن النهاية مبتورة بالحساب
ولا أخبر الحب هاجسي بالخيانة عند الغياب
وأعرف أن حنيني إليك تجاوز فرقتنا والمسافة
بين وجودين ما أبصرا فاصلاً بين حدين
لا شكل للكائنات التي اتحدت
في فضاء من الغاز والضوء والصوت
والحرب والحب.
 
لا زمن سيمر على زمن خالدٍ
والحقيقة أكثر وهماً من الوهم
إني أُهيل التراب على مرحلة
وأخرج من جسدي هيكلاً فادح الشكل
إني أِعد ضلوعي وأجبر جمجمتي كي يساورها الابتسام
أُزيل عن القبر صلصال أحلامنا وأُقرر أني أعيش
برغم تغيُّر خارطة الأرض حولي
وأني برغم تهدم أمسي
لا زلت ذاكرة تتوهج في البوح
لا زلت أعقد هدنتنا في شوارع عكا
ولا زلت أرخي ضفائر شعري
وأحلم أن يتسلق فارسنا شرفة القبر
ولا زلت أصنع من وجهتي قمراً ساطعاً في الظلام
والحقيقة يا ولدي نزوة كالليالي
إذا باغتت عاشقاً في الفراش.
 
المتاهة متسع للتأمل متسع للضياع
فكن كاهني يا صديق الشراع
وغيِّر مصير المراكب
لأن القراصنة القادمين من البحر
لا يأبهون لموتي ولا لبصيرة بوصلتي
إنما سأعيش
على الخوف من غرق باكر في المياه
فخذ وجهي نحو آخر ما اجترح الزبد السرمدي
وخذني إليك أنا ثملة بالذي بيننا
والذي كان طوفان هذي البلاد.
 
سأبدأ خلق المداد
على شكل قافية ودَّعت لعكاظ استعاراتها
لأقول لعنترة العربي انتظرني
وكن سيد الرق
ودِّع حبيبتك الآن
لا وقت للشعر.. والكبرياء ولا شأن للقوم لو حاكموا
لون جلدك
أو لون هذي السماء
وكن خجلاً من أبيك الذي أنكر العمر
أمك لا تقبل النسب المستهين بزنج قضوا في الصلاة
وكن مثل مجنون ليلى.. بلا جهة
إننا مقبلون على غزو مصطلحات الغناء
نكبة عرَّفت شعبنا.
 
ضُمني، ضمني علني أستريح على صدر وهمك
أكتب فوق النسيج الأخير من القنب العربي القصيدة
هرمتُ فلا شبق العمر يكفي لكي أشرع الآن بالموت
خلِّ الوصايا
وكن واثقاً من رجوعي إليك
رغم تصدي دمي للتخثر.. في صورتي
وكن حاملاً نصب تذكارنا في الرحيل القديم
لئلا يرى غيرنا نكهة الازدراء
وحمِّل بقايا الدم المتجمد في الخيل عند الجراح.

الهوامش:

1- بورخيس: (جورجي لويس بورخيس) شاعر أرجنتيني وقاص وكاتب، توفي عام 1986.

2- رواية لغسان كنفاني.

3- الكاتب والشاعر السوري المعروف محمد الماغوط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى