الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

يا بحر غزة

منذ فجر طفولتي والأحد كالوخز في حلقي والشوكة الواقفة في صميم القلب. لماذا الأحد على وجه التحديد؟ ربما لأن طائرات العدو قتلت أختي ذات أحد أو لأن أستاذ الرياضيات كان يأتي غاضبا ويصفعني كل أحد. أم لأني أصر دائما أن الآحاد والعشرات نفسها لا تتجاوب مع أحزاننا؟ لا أدري منبع هذا الإحساس بالضبط ربما أيضا لأن جدتي كانت تكره الأحد فورثتني الإحساس ذاته في جملة الميراث الثقيل الذي عهدت به إلي كأن أحب لون الليمون الأخضر ما حييت لأنه وحسب اعتقادها الضارب في العمق ما يعني أنني سأحظى بعمر طويل وصلابة ربما يحدث ذلك ربما يبقى في العينين بعض البصيص لنرى لنرى السماء بشمس وعصافير بدل المروحيات ولنرى الأرض تخضوضر بأغصان الزيتون بدلا من الجرافات و الدبابات والمجنزرات والجنود المدججين بالحزن والحقد الثقيل الرابض على قلوبهم منذ عهد التلمود. قد تتنافى أحلامي مع الواقع وتتجاوزه في تهويمة سريالية أشبه بالإغفاءة ولكن الحلم سلاح الحياة الأخطر على كل حال وما أنا متحرر منه على الأقل في المدى القريب. وأبي قال: إنهم اعتقلوه بسبب حلم وضعوه في الزنزانة ستة أعوام لأجل حلم ولم أجد المبرر الكافي لأسأله عن هذا الحلمع ولم السؤال فحلمنا واحد يتشظى ملايين القطع ويضئ ليأخذ كل حصته فكان أن قتلوه قبل أن يرى حلمه أو ربما لأن حلمه كان في مرحلة النضج وهكذا عجلوا بقتله حتى لا يقطفه. أمن العيب أن يحلم الإنسان بأرضه وبيته ومطبخه وبساتينه؟ أكثيرهذا على الحياة؟
لهذا حين مرت كوابيس الأحد استفقت رائقا وابتسمت للشمس ولنسمة الهواء البحرية وللطفلة القابعة غير بعيد عني في الخيمة المجاورة تتنسم أخبارالحمائم التي تحمل في مناقيرها الوردية العشب والماء. الطفلة تبسط يديها الطريتين مثل وردة وتميل رأسها مع الأهازيج التي انطلقت منذ أيام.

اسمها ياسمين وعمرها سبع سنوات وعيناها عسليتان يتألق فيهما غروب مريع. ياسمين اليوم تتطلع نحو الشمس وتبتسم لأن الأحد رحل بكوابيسه الثقيلة وأحزانه وتوقعاته التي تصب دائما في الضفة الخفية القابعة خلف قشرة الابتسامة وياسمين تجاهد لتبعد فلول الظلام التي تسعى من أجل الطفو والاندفاع نحوالأعلى كبقعة الزيت لاكتساب صفة الدوام الظلام الذي يتأهب ليجتاح عالمها الأبيض بالرغم من كل شيئ ولكن ياسمين تقف كالجدار وتبتسم تقاوم السواد برفيف ابتسامة لا تبدو القوة متكافئة بالطبع كما في كل المواجهات. أكثر ما أتقنت فن الابتسام. شفتاها ترتعشان تتفتحان كفجر تلألأت خيوطه البيضاء تتوكأ ياسمين على يديها وأندفع نحوها لأرفعها قليلا قليلا لترقب البحر. لماذا ترقبين البحر اليوم في هذا الفجر الراعش ياسمين؟ وياسمين لا تجيبني تترك عيني تنزلقان مثل الحرير إلى ما كان يسمى من قبل ساقين أعني قبل القصف.

ياسمين الجميلة! تزحف نحو بحرغزة تتلمس الرمل الناعم ورائحة أعشابه التي تحيلها على زمن آخر أقل سطوة بالطفولة دون أن تتخلى عن حرفتها الأصيلة: الحلم على الرغم من كل شيئ تحلم بالطيران كعصفور تتطلع عبر الموج إلى الأفق حيث سيأتي الضيوف كانت تحلم أن تقيم للضيوف الوليمة كما جرت العادةواكتفت بالنظر إلى الأفق الغائم لتبتسم وتحلم بما تحلمين يا ياسمين الجميلة؟ لا أجرؤ عل السؤال أعرف مسبقا حلمها المريع مثل كابوس و ياسمين تتشبث بثوب أمها المزخرف والمذيل برسومات قريبة تماما من أوراق الزيتون وتسألها وهي تحني رأسها دون أن تكف عن الابتسام: سيأتون؟ ما هيك يما؟ سيأتون مع الفجر سيأتون...

يحملون الشموع في أيديهم وأغصان الزيتون وريش الحمام...

ــ وأقلاما ملونة وأوراقا جميلة وبالونا صغيرا يما؟

ــ وبالونا صغيرا يما...

ــ وهل سيمنحونني الكرسي ذا العجلات؟

ــ نعم يما والكرسي ذا العجلات...

تتألق ابتسامة ياسمين الصغيرة وتنظر نحو الفجر الراعش يزحف ببطء يتحرر من غلالته الشفافة قليلا قليلا كما هي قاعدة الحياة. هنا القليل دائما يكفي: بعض الماء و الخبز بعض الحليب بعض الدواء بعض الكساء... وبعض الحب أيضا يكفي. قليل من الحب يكفي ينير دروب السنوات الطويلة الحالكة قليل من الحب لقهر الظلام. أتريث أتنسم هباته المترقرقة وينشرح صدري. وياسمين وردة داخل السياج الشائك تنظر نحو الأفق وتبتسم لأن الأحد قد انصرم بكوابيسه وثقله وقهر ساعاته الرمادية الطويلة.

دائما كان الأحد يوما مشبعا بالألم والموت وتمارين الرياضيات الشائكة والمعلم الغاضب وحتى الجوع كان له مذاق أشد مرارة. لهذا حين دقت الساعة منتصف الليل ابتسمت ياسمين ملء روحها كمن تخلص من كابوس ثقيل لأن تباشير الإثنين هلت. الإثنين يوم تشتعل فيه الذاكرة ويتلألأ القلب. لأسباب مجهولة كنا نحب الإثنين لأنه يذكرنا بشموع المولد وحنائه ولأن حصة الرسم تكون في الصبيحة وتختفي الرياضيات ــ هذا احتمال وارد ــ بينما تحل الأستاذة اللطيفة بأثوابها وألوانها المزركشة بدل المعطف الثقيل كالجدار العازل. أنا اليوم سأضحك سأضحك كثيرا لأن المعلمة ستقول: دعيني أرى ما رسمت اليوم ياسمين.

ــ رسمت القدس؟

ــ ممتاز ياسمين! وتمسح شعري بيديها الناعمتين كفرشاة سحرية.

هي اسمها سحر ودائما تبتسم وتنظر إلى الشمس وتقول ارسموا الشمس ولا تملوا ارسموا الشمس دائما من لا يرسم الشمس لن يحصل على علامة جيدة. وأنا رحت أرسم الشمس بألوان كثيرة مرة أراها ذهبية متوهجة ومرة برتقالية ومرة بنفسجية ومرة رمادية بين الغيوم. وذات مرة رسمتها حمراء قانية وحين سألتني سحر: لم رسمت الشمس حمراء؟
قلت لها: يا أستاذتي إن الطائرات قصفت حينا وقتلت أخي ورأيته يلتف في شمس حمراء صدقيني لقد رأيتها شمسا حمراء ولم توبخني سحر مع أنها لم تبتسم خلافا للعادة.
قالت: معك حق فالشمس هنا كثيرا ماتكون حمراء. وردّ حازم من آخر الصف: ياسمين معها حق فالشمس هنا دائما حمراء.

لسبب غامض أطالت سحرالغياب لم تعد طلعتها تطل علينا لتحيينا بابتسامتها وألوانها وشموسها. وحين سألت عنها. قالوا هاجرت. إلى أين هاجرت؟ عا أمريكا؟ سحر لا تهاجر. أعرف هي لا تستطيع حمل شموسها الملونة والرحيل بها نحو العالم. ولكن سحر فعلت قالت إن على العالم أن ينظر إلى شموسها التي لا تشبه كل شموسه وحملت توقيعي معها ياسمين. ومنذ ذلك الحين أضفت ألوانا جديدة للشمس لعل أشدها وجعا اللون الأسود حين أغمس فرشاتي داخل بحيرة السواد أتمزق وتتناثر أشلائي في كل بقعة. كم أخاف هذا السواد ولكن الشمس أيضا يمكن أن تصير سوداء. تنهد حازم وصرخ بأعلى صوته كالمعتاد من آخر الصف صحيح الشمس أيضا قد تصيرسوداء. لكن سحر لم تكن موجودة لتهتف: برافو! أحسنت أحسنت حازم.

كانت سحر تغيم في أفقي وهم يصرون على هجرتها إلى أمريكا ويتفادون ذكر رعشات أصابعها أمامي. أما أنا فرأيتها تصعد نحو السماء تلتحف الغيوم وتجرجر وشاحها المقدسي الشفاف داخل شمس هائلة أحلم برسمها ذات يوم.

وفجر هذا الإثنين راحت تناديني: ارسمي الشمس ياسمين بكل الألوان لتتمكني من الطيران أليس ذلك حلمك؟

وغير الإثنين وشاحه المترقرق وارتدى لونا أصم كالجدار العازل وعلى وجهه قناع من فولاذ وأطلت سحر عبر ثقوب دقيقة ونادتني من بعيد:" ها هي الشمس اختاري لونها العصي على الغياب..."

واستفقت واستفاقت ياسمين وحملقت نحو الأفق. كان الفجر المتوحش يغزو الأشجار والهضاب ويجتاح البحر رأيت ذلك في فجيعة النوارس ووجوهها الحزينة وحين التحقنا بالساحة حيث نصبت شاشات التلفزيون كانت الأنباء قد بدأت تصل تباعا قتلوا أهل القافلة لقد اعتقلوا النساء والرجال وصادروا الدواء والكراسي ومواد البناء وصادروا الحب...

قالت ياسمين: ألن يكون لنا بيت؟

ردت الأم: سيكون لنا بيت...

ــ أماتوا جميعا يا يما؟

ــ لا يما لقد طاروا إلى الجنة.

ــ سيلتقون سحر؟

ــ نعم يما.

ــ سحر لم تمت صح يما؟ لأنها قالت لي هذا الفجر:" لا أحد سيمنعك من الحلم حتى الصهاينة لا يقدرون على اعتقال الحلم لأن الحلم لا يموت ولا يعتقل. ارسمي الشموس يا ياسمين ارسمي الشموس بكل الألوان ليبتسم العالم... "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى