الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم رضا سليمان

اللعبة

حكاية من أعماق الريف المصرى

جرى صاحبنا حافيا باكيا بجلبابه المتسخ خلف أمه وما أن لحقها حتى تعلق بذيل ثوبها، دفعته برفق كى يعود إلى الدار، تشبث بثوبها أكثر و زاد بكاؤه وتناثرت حروف الكلمات بين دفعات الصراخ ولم تتبين الأم غير جملة واحدة:

هاجى معاكى يعنى هاجى معاكى.

إرجع يا وله..

أنا عاوز تلفزيون لعبه من أبو بريزة.. ماليش دعوة.

بريزة فى عينك.. باقولك ارجع أحسن هاضربك..

اقتربت زوجة أبيها:

ماله الواد يا أم أحمد؟

عاوز يجي معانا ميت غمر يا مرات أبويا..

بجلبيته الوسخه دى؟

تعثرت نظرات صاحينا فى تضاريس مرات سيده، شغلته لحظة المقارنه بينها وبين عود أمه النحيف، تعثرت قدمه فى حجر صغير فسقط على الأرض، استغلها وبكى بشده، أسرعت أمه تحمله:

يا ضنايا يا ابنى.. خلاص.. هاخدك معايا.

وهاتجيبى لى تلفزيون من أبو بريزة؟

هاجيبلك.

سكت صاحبنا فجأة، اعتلت ملامحة علامات الانتصار ونظرات الشماته التى وجهها نحو مرات سيده التى كانت تنظر فى الاتجاه الآخر وهى تتأوه من المشى بسبب ضغط السِمنه والسنين..

وافقت أمه على أخذه معها إلى ميت غمر وها هى تحمله فوق صدرها، ومنذ لحظات كان يتمنى لو يذهب معها ولو حبوا على أربع.

طوال الطريق كان يحلم بعودته إلى القرية حاملا التلفزيون اللعبه، ينظر فيه بعين واحدة ويغلق العين الأخرى فيرى صورة كبيرة جدا للكعبة ثم يضغط على الزر فتتغير الصورة بقدرة قادر ويشاهد صورة حيوان وسط الأحراش ويظل هكذا حتى تنتهى الصور وتتكرر أمامه مرة أخرى..
وصلوا إلى المدينه التى طالما كان ينبهر بمجرد سماع اسمها، المحلات، السيارات الباعة فى كل مكان، الزحام التام، لن ترتاح نظراته لحظة..

تعلق صاحبنا فى يد أمه اليمنى بينما كانت تتحدث هى إلى زوجة أبيها الموجودة على يسارها:

هانعمل أيه يا مرات أبويا؟

هانشترى القطن والقماش و نوديه للمنجد يعمل اللحاف..

وعلى ما يخلص اللحاف نكون نزلنا نشترى الطلبات..

ابقى انزلى إنتى..

لم يتابع صاحبنا باقى الحوار بين السيدتين فقد انحنى نحو الأرض ليلتقط "كازوزة" غطاء زجاجة أحد المشروبات الباردة، فكان حلم من هم فى عمره هو الحصول على عدد من هذه الأغطية حيث يضعونها على الأرض فى مثلث ويقفون على بعد مترين تقريبا عند الخط المحدد على الأرض وتبدأ المبارة فيلعبون عليها بـ " الدُش " و هو قطعة من الحديد على شكل دائرة، والكاسب يجمع محصوله من الأغطية ويعود منتصرا إلى خزانته التى تحوى المئات، يصنعون فى كل غطاء ثقب يمررون منه قطعة آستيك ليصير عقد يربطونه من طرفيه ليكون على شكل عجلة صغيرة يضعونها فوق بَكَرَة خيط انتهى خيطها، ثم يأتون باثنتين بينهما قطعة من خشب لا تزيد على الشبر ومن منتصفها تخرج ساق طويلة من البوص يمسكها الفتى ويسير دافعا أمامه لعبته..؟؟!!

لم يكن لدى صاحبنا من " الكزايز " غير القليل الذى لا يكفى لعمل عجلة واحدة، فدائما ما كان يخسر وقت اللعب على الكزايز وإن كان دائما يُرجع ذلك إلى الحظ العاثر الذى لم يمكنه حتى اليوم من العثور على دُش محترم يلعب به.

ما إن التقط صاحبنا الكازوزة من على الأرض ووقف معتدلا حتى شاهد منها الكثير منتشرة فى كل مكان، ففى هذه اللحظة كانوا أمام كشك حاجه ساقعه.

ذهل صاحبنا ولسان حاله يقول:

دهب.. ياقوت.. مرجان.. سيبينى يا أمه..

نزع يده من يد أمه ورفع طرف الجلبيه بيده اليسرى وبيده اليمنى يلم الكزايز ويضعها فى حجره بسرعة رهيبة خشية أن يقف أى مخلوق عقبة فى طريقة.

التفتت زوجة الأب نحو أمه تحثها على السير فشاهدتها توبخ فتاها، لم يهتم بأى مخلوق فكل همه كان فى جمع أكبر عدد ممكن من هذا الكنز.

لم تفلح محاولات الأم إلا مع انتهاء الكزايز.. اعتدل صاحبنا ليسير مع أمه بينما نظراته لم ترتفع من الأرض، اغتاظ بشدة عندما شاهد رجل واقفا فوق كازوزة جديدة لها بريق يذهب بالأبصار، تمنى لو دفعه بعيدا عنها، كيف يقف هذا المخلوق فوق هذه النعمة؟؟

ضغطت الأم بقوة على يد صاحبنا علامة أنها لن تتركه يفعل مثل فعلته الأولى، سار خلفها حامدا ربه فى داخله على هذا الانجاز الذى وصل إليه، شرد ببصرة وطار به خياله إلى أقرانه فى القرية حال عودته بهذا الكنز، سوف يلعب ويلعب ويستبدل مجموعة كزايز بدش حديد معتبر وسوف يكسب ثم يصنع أربع عجلات وتكون لديه لعبه مصنوعة من الكزايز الجديدة اللامعة..

أحلام سعيدة عاش بينها صاحبنا إلى أن استفاق على أمه وهى تمد يدها لتأخذ منه كنزه فصرخ بشدة وهو يضم حجره المملوء إلى صدره، ولكنه شاهد فى يدها كيس بلاستيك ترغب فى أن تضع له كنزه فيه، سُر بذلك كثيرا.. وأمسك الكيس بيد من حديد وانطلقوا جميعا نحو المنجد لعمل اللحاف.

سارت الأحداث بهدوء وتم شراء القطن والقماش ثم الاتفاق مع المنجد وما هى إلا ساعة تقريبا يتسلمون بعدها اللحاف ويعودون به إلى القرية.

جلست زوجة أبيها إلى جوار المنجد تتابعه، وانطلقت أم صاحبنا تجر صاحبنا إلى سوق الخضار وكاد صاحبنا بسبب سعادته الغامرة أن ينسى التليفزيون أبو بريزة توقف متصنعا البكاء:

مش هاتجيبى لى التلفزيون يا آختى؟

لما نخلص الطلبات ونحاسب على اللحاف.. انجر بقى..

السوق فى شارع بين المساكن مزدحم بالباعة ينادون على بضاعتهم من الخضر والفكاهة، توقفت الأم أمام بائعة فجل وجرجير، وبعد حديث قصير لم تتفق السيدتان، ابتعدت الأم خطوتين ومالت على صاحبنا:

خليك واقف هنا.. هاشترى من الست اللى هناك دى وآجيلك.

وقف صاحبنا يتابع أمه لحظة وهى تنطلق إلى بائعة على الجانب الأخر من الشارع، مر من أمامه طفل بصحبة أمه ينظر نحو الكيس المملوء بالكزايز فى يد صاحبنا، شعر بنشوة، تابع الفتى لحظات حتى اختفى من أمامه، عاد بنظراته إلى أمه عند البائعة على الجانب الآخر فلم يجدها، بحث عنها يمينا ويسارا، لم يجدها، ارتاع صاحبنا..

جرى بكل ما يملك من قوة ليعبر الشارع ووقف أمام البائعة:

أمى فين يا خالة؟

أمك مين يا حبيبى؟

اللى كانت بتشترى منك فجل وجرجير دلوقتى..

نظرت السيدة إلى صاحبنا لحظات وشردت ببصرها ثم ابتسمت فى هدوء ومدت يدها نحو صاحبنا الذى أبعد يده الممسكة بكيس الكزايز خلف ظهره، ضحكت السيدة وهى تقول له:
تعالى يا حبيبى.. استناها هنا.. هى راحت مشوار صغير وجايه..

جذبت السيدة صاحبنا برفق وأجلسته إلى جوارها، ظل يترقب الناحية التى أشارت إليها منتظرا عودة أمه..

مرت الدقائق ثقيلة ولم تعد أمه، بدأ يشعر بالقلق والخوف، هل تاهت أمه؟ هل تاه هو من أمه؟ إنه لا يعرف كيف يعود إلى قريته، وفى هذه المدينة لا أحد يعرف أحد..

مع مرور الدقائق بدأ يشعر بالخوف وانسالت دمعة تدحرجت فوق خده الأيمن وكل ما يدور فى داخله:

ليه سيبتينى يا أمه؟ فيها لو كنتى أخديتنى معاكى؟

لم يجد إجابه شافية ولم يطرأ على باله أية فكرة غير الانتظار هكذا باحثا فى الزحام عن أمه التى تركته لتشترى فجل وجرجير:

هو يعنى إنتى كنتى هاتشيلينى يا أمه؟ ما أنا كنت هاتنيل أمشى على رجلى؟ نفسى أعرف سابتنى ليه؟

وعن أم صاحبنا فعندما تركته لتشترى من السيدة المقابلة و فضلت أن يظل هذه اللحظات مكانة حتى عودتها ولا تدرى لماذا ارتبكت هذه الحماقة؟! فإنها لم تجد طلبها عند هذه السيدة، فانطلقت للمجاورة لها ثم التى تليها وهكذا غابت فى الزحام لحظات كانت كافية لأن يترك صاحبنا مكانه وحينما عادت لم تجده، نظرت يمينا ويسارا ثم صرخت وسقط ما بيدها أرضا وجرت مفزوعة يمينا ويسارا تبحث عن طفلها فى الزحام ولم تنظر خلفها.

بينما هى تسعى فى المكان وفى شوطها الثالث تقريبا شاهدت صاحبنا يجلس إلى جوار البائعة على الجانب الأخر من الشارع، انطلقت إليه وأخذته فى أحضانها تقبله بحرارة زادتها اشتعالا دموعها التى انهمرت كالمطر.

شعر صاحبنا بالأمان والسعادة فى لحظات وقد ترك نفسه فى يد أمه وأحضانها تقلبه كيف تشاء.

ما إن هدات الأم وحملت صاحبنا حتى استلمتها بائعة الخضار بالتقريع والتوبيخ منهية حديثها بقولها:

سايبه عيل زى دا لوحده إزاى يا وليه إنت؟

لم تجد الأم ما تقوله، خطت على مهل من شدة الوهن الذى أصابها خلال الثوانى الأخيرة متجهة إلى زوجة أبيها عند منجد الألحفة، كان وقودها للحياة قبلات تلتقطها من صاحبنا المكوم على صدرها بين الفينة والأخرى وذراعه اليمنى حول رقبة أمه واليسرى ما زالت ممسكة بكيس الكزايز..

سألها صاحبنا مستغلا حالة الحب التى تغمره بها:

مش هاتجيبى لى تلفزيون لعبه من أبو بريزة؟

ضحكت الأم وضمته فى حنان:

هاجيبلك يا ضنايا.. بس لما نجيب اللحاف.

وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على هذه الحادثة كان يتمنى أن يتقابل مع بائعة الخضار التى تعاملت مع الموقف بمنتهى الحكمة، فلولاها لانطلق باحثا عن أمه وتاه فى الزحام ولا أحد يعلم غير الله المصير الذى كان فى انتظاره، وكلما تخيل أنه كان من المحتمل أن يكون من أولاد الشوارع أو تضمه عصابات التسول شكر الله عز وجل ودار فى خلده السؤال الذى قتله وقتها.
وبعد مرور كل هذه السنوات سأل صاحبنا أمه نفس السؤال الذى حيره وقتها:

لماذا تركتينى وذهبتِ؟

فأجابته بصوتها الحنون وابتسامتها الخجلى التى لم تطلها يد الزمان:

والله ما أنا عارفه يا ابنى.

فسألها ضاحكا:

طب ليه ما جبتيش التليفزيون اللعبه أبو بريزة؟

ضحكت أكثر بوهن:

والله ما أنا عارفه يا ابنى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى