الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم حوا بطواش

الرجل الآخر

كان يوما باردا، والسماء غطّتها غيوم سوداء، وريح باردة هبّت من البحر. جلست أنتظر قدوم الرجل الآخر على المقعد الخشبي، أواجه البحر المائج، وأحسّ بالريح الباردة تصفع وجهي وتهدّد قبعتي الحمراء بالسقوط من على رأسي. جلست أفكّر والإنتظار يطلق خيالي وراء كل المصائب التي يمكن ان تحدث. لقد جئت الى هذا المكان بدافع شيء غريب ومبهم ينطلق من أعماقي ويشدّني نحو رجل غريب ومبهم.

أسائل نفسي: هل أعود؟

يجب ان أعود.

ولكن الرجل الآخر يظهر أمامي، فجأة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيف، وشعره الأشقر، وعينيه الزرقاوين، وشفتاه تبتسمان وتقولان:
 تبدين أجمل مما تصوّرت... حتى وانت قلقة.

فأقول:
 وهل انا قلقة؟

فيقول: "قلقة جدا. وانا لا أدري لِم قبلت ان نلتقي ان كان ذلك يقلقك الى هذا الحد؟"
وانا لا أملك الجواب على سؤاله. قبلت اللقاء دون ان أتوقع عواقبه. فمنذ ان أطلّ وجه هذا الرجل في كتاب أيامي اختلّت أفكاري واضطربت، وبتّ مبعثرة، تائهة، أحاول ان أفهم ما يحدث لي. أحسّ ان قوة خفية تدفعني نحو رجل غريب ومبهم، كلماته الرقيقة تنساب في أعصابي، وتجتاحني أحاسيس غريبة... تفاجئني، وتثور عاطفتي ثورة الموج على الشواطئ الساكنة.
وقبل ان نقترق، يسألني: "متى أراك ثانية؟"

فأعطيه موعدا في الغد. وأعود الى البيت.

وفي المساء، حين يعود زوجي، يتملّكني شعور غريب بالخوف، الخوف الذي يعقب ارتكاب جريمة، الخوف من الإنكشاف. ولكن ابتسامة زوجي تهدّئني قليلا فنجلس لأكل غدائنا ككل يوم، ويحدّثني عن أحداث يومه، التي كثيرا ما تشبه أحداث أيامه السابقة، ويحاول مزج حديثه ببعض المزاح الذي لا يضحكني ولا يمدّني ببعض المتعة، وأنا أنصت الى حديثه وفي داخلي أود لو يكفّ عن الكلام لحظة ويقول لي... كم ابدو جميلة! او كم هو سعيد برؤيتي! او يلاحظ كم كنت قلقة! ولكنه يتابع حديثه دون ان يلتفت الي... ثم يأكل... ثم يشرب.

وتداهمني الأفكار. لماذا لا يستطيع هذا الرجل ان يحسّ بكينونتي؟ ألم يعُد يحبني؟ أيكون عمله هو الذي يشغله عني؟

آه لو كان يعلم ما في نفسي من خيبة!

أهكذا يكون الزواج؟ أينتهي الحب بعد الزواج؟ كيف ينتهي حبنا ولم يمضِ على زواجنا سوى بضعة أشهر؟

أنظر اليه. ليته انتبه اليّ. ليته اهتمّ بي كما هو مهتمّ بزبائنه في العمل الذين يحدّثني عنهم كل يوم.

أقوم من مكاني دون كلام وأحضّر له القهوة، ثم أجلي الصحون وأنظف المطبخ وأرتّب البيت كما في كل يوم... وينقضي يوم آخر.

وفي الغد، أذهب الى موعدي مع الرجل الآخر وقد خفّ عني قلقي وتضاعف شوقي للقائه. وأذهب الى مواعيده في الأيام التالية وانا مأخوذة بحب هذا الرجل الآخر الذي يهزّ كياني ويطلق من أعماقي عواطف جياشة لم أكن أعلم بوجودها، وكأنه جاء ليملأ الحلقة المفقودة من حياتي.

وأعود الى البيت. ويفاجئني زوجي بعودته المبكرة. وجهه متجهم يكتم بركانا من الغضب. يقترب مني دون ان يرفع نظره اليّ. وفجأة... يطبق صفعة قوية على خدي، تهزّ توازني وكل كياني وتطرحني أرضا.

ويحدث ما كنت أخشاه. ودون ان يقول شيئا، يدير ظهره الي... ويذهب. هكذا، يذهب بلا كلمة واحدة، وكأنه يستكثر عليّ كلمة "طالق".

وها هو الرجل الآخر يأتيني معتذرا ومتأسّفا لما حصل، ويقول لي: "لم تكوني سعيدة." كأنه يواسيني.

وأنا أفكّر في كلامه وأقول بيني وبين نفسي: ربما.

ثم أفكّر في الرجل الآخر وأسائل نفسي: ماذا يريد مني؟ اننا نلتقي منذ أشهر. كنت متزوجة. والآن، لم أعد متزوجة. أهو راغب بالزواج؟ أيحبني حقا؟ أم يحب رؤيتي لبضع دقائق فقط؟ وهل أظن ان مثل هذا الرجل يقبل الإرتباط بامرأة مطلقة؟

هببت من أفكاري على صوت قصف الرعد الذي ينذر بالمطر. أخذت قبعتي الحمراء من على رأسي ودسستها في حقيبتي، ثم قمت من مقعدي واندفعت لترك المكان بأسرع وقت. أحسست بقطرات المطر التي بدأت تتساقط على وجهي وكأنها تمسح عنه البؤس والضجر، وشرعت بالركض.

وفجأة...

اصطدمت برجل. نظر اليّ طويلا نظرة مستغربة، قامته قصيرة، جسمه بدين، شعره أسود، عيناه فاحمتان، وشفتاه تسألان: "عفوا، هل رأيت امرأة تعتمر قبعة حمراء تجلس على مقعد خشبي؟"

ودون ان أنظر اليه، قلت:
 لا.

وعدت الى البيت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى