الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم صبحي فحماوي

المهندسة والسائق!

ثلاثة شبان يتراكضون في الشارع.. يتمازحون.. يقتربون مني وأنا أركع إلى جوار سيارتي الخاصة، أفك العجل (المبنشر) فستاني أبيض، وعلى عنقي ربطة نسائية حمراء...

السيارة مشكلة في حياة المرأة، فعندما يطرأ عليها أي خلل فني مثل بنشر، أو بلاتين، أو بواجي، أو عادم.. أيّة قطعة تتعطل في سيارة المرأة تعتبر مصيبة.

أنظر خلفي! الشبان الثلاثة يقتربون مني.. أنظر إلى يدي المعطرتين.. إنهما سوداوين بفعل فك براغي العجل، وذريرات المعادن السوداء المحروقة التي أخذت تعلق بي في مناطق مختلفة... أنظر إلى وجهي بمرآة السيارة الجانبية، يظهر على أنفي سناج أسود، يبدو أنني قد مسحت أنفي بيدي، دون أن أشعر... تنورتي من أسفل أصابتها لطخة سوداء... الشبان الثلاثة يصلون إلى جواري... أسمعهم يتضاحكون عليَّ! الأزعر أحدهم يقول:

وأخيراً وقعتِ، ولا أحد سمّى عليك! وقال مشاغب آخر :

الجميل يريد مساعدة؟

عن إذنك، نحن نفك البنشر، ونركب العجل .

 نحن متخصصون في البناشر .

- ما رأي الآنسة؟

وأنا لا أُجيب أحداً منهم! إذ أنني متضايقة من استخفافهم بي!

" يا عمي اتركوها تعمل"، يقول الأول، وهو متسكع طويل وهبيل، وشعره ساحل على عنقه " يبدو أن لـها هواية بالبناشر ...!

"من عائلة البنشرجي حضرتك؟" يقول فاقد قصير مدعبل ، يبدو أنه متفلسف، وهو يمر إلى جواري!

" والله إنها زهرة من عائلة الزواهرة" يقول لابس بدلة قطنية زرقاء متينة!

" العمل هو أساس حرية المرأة " يقول الذي لم ألتفت إليه!

" المرأة تفك العجل بيمينها، وتفك الرجل بيسارها" يقول الطويل الهبيل!

" يا حمار، المرأة تهز السرير بيمينها، وتهز العالم بيسارها !"

" الآن انتهت عملية الهزّ لأسرّة الصغار... الهزّ الآن للكبار فقط !"

" أنت قليل أدب، هذا بدل أن تساعد الآنسة، نجدك تعاكسها !"

" أنا ....! بالعكس.... عن إذنك يا آنسة ."

" يا رجل استحي على دمك، الآنسة منهمكة بالعمل، لا داعي لتعطيلها... أليس كفاية إن عجل سيارتها معطل؟ تريدها هي أيضاً أن تتعطل ؟"

"عن إذنك يا آنسة، نحن نمزح معك بهدف إزالة النكد والهم والغم، لكن نحن مستعدون للمساعدة"

أنظرت إلى ثلاثتهم من أسفل إلى أعلى، وأنا ما أزال راكعة، أحاول فك العجل... ثلاثة شبان وسيمون! يبدو أنهم طلاب عائدون إلى بيوتهم، أو ذاهبون إلى مكان ما... إنهم يمزحون، وأنا متعودة على مثل هذه المعاكسات...

لم أُجبهم، ولم أتضايق منهم... أعتبر الأمر عادياً جداً، أحاول الاعتماد على النفس، فأنا مهندسة، وتعلمت أن أتساوى بالرجل، وأن أسير معه في شوارع الجامعة، وأتناقش معه في العلوم والفنون والآداب والأحزاب والسياسة، وأن أشترك مع زملائي الشباب في مظاهرات تنوير الجماهير، وتثوريها ضد الهجمة الإسرامريكية الامبريالية ضد الوطن العربي كله، وأن نجمع المساعدات لعائلات الضحايا من الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين والسودانيين والصومالين والليبيين، بل وكل الضحايا العرب، وذلك لأنني أومن مع زملائي بأن العرب- كل العرب- هم ضحايا النهب الإمبريالي الفاحش، وإن تعددت الأشكال والصور لـهذا السطو الرأسمالي على أمّة العرب المستضعفة..

وكنا نعد المهرجانات والأسبوع الخيري لكل مناسبة من مناسبات الانتفاضة، بهدف جمع التبرعات العينية من الميسورين، وبيعها في المعارض المقامة لـهذا الغرض، وجمع النقود لـهذه المبيعات، لدعم المقاومة ضد المحتلين.

كل هذا العمل كان يقوم به الرجل في الماضي، وتدعمه المرأة من داخل الأسرة، وأما اليوم فالمرأة تشارك الرجل علناً في التظاهرات المليونية والمقاومة الشعبية، وتستشهد كما يستشهد الرجل، وتشاركه في العمل المهني اليومي... وها أنا أمارس مهنة الرجل، فأقود سيارة الرجل، وأفك عجل السيارة، وأداوم في مكتبي ؛ أرسم الخرائط الهندسية تماماً كما يفعل الرجل، وأذهب إلى مواقع العمل، وأمشي فوق أخشاب الطوبار، وأحيد عن مسامير الأخشاب، كي لا تخترق حذائي المطاطي الرياضي، وخوفاً من أن تخترق لحم رجلي، وأطلع أدراج العمارات المبنية على العظم، وأدخل في السراديب المعتمة، وأقدم كل ما يقدمه الرجل لمهنته من إخلاص وتفان في العمل...

ولكنني بصراحة، أخاف وأنا أسير داخل الممرات في سراديب المعمار... أخاف من الفئران والجرذان، وأخاف من التعثر برجل غير منضبط، أن يستفرد بي! أخاف من العتمة، ومن مواجهة المتاعب، ومشاكل العمل، وأخاف من المستقبل... وهكذا أعيش حياتي، أحمل السلّم بالعرض، نعم بالعرض...

وأنتِ تعرفين أن المرأة عندما تحمل السلم بالعرض، في وسط شارع الحياة المملوء بالكائنات الحية وغير الحية، فإنها تصطدم بسيقان الأشجار، والمارة، والسيارات، وعربات الخضار، وبكل شيء... أضيفي إلى ذلك أن السلم المحمول بالعرض وزنه ثقيل، وحمل السلم وحده عبء كبير... ولهذا السبب أوقفت سيارتي، وركعت تحت عجلها أفك البنشر.

يبتعد الشبان الثلاثة، مستمرين في سيرهم ولهوهم، شبان فرحون..... أسعدهم الله... ولكنهم يستمرون في التعليق... أتعسهم الله...

"يبدو أن الآنسة زعلانة !"

" يا عمي لا حلاوة من غير نار. من تقود السيارة وتفرح بها، عليها أن تفك البنشر بنفسها!"

" وتُغيِّر الزيت كمان!"

" أنت وقح!"

" لست أوقح منك! أنت علمتني الوقاحة!"

"لو كنت مكان الآنسة، لكانت معي ملابس إضافية زرقاء، البسها فوق ثوبي الأبيض لدى تصليح السيارة!"

"ثوبك أبيض؟! إذن أنت امرأة! (هه هه هه ) ما رأيك أن ..!"

" أنت المرأة يا حيوان! فاهم! ما رأيك أنا أن ..!"

" ملابس الميكانيكي ضرورية لمثل هذه المناسبات! أنصحك يا آنسة بشرائها."

" هل رأيت في حياتك امرأة عربية تعمل ميكانيكي؟"

" يا أخي عيب عليك! لو كانت الآنسة أختك، أو أمك، هل تسمح بأن تسمعها هكذا تعليقات؟"

" وهل أسمح لأختي أو لأمي أن تقود سيارة ؟!"

" أنت رجل رجعي متخلف... والله أنا أختي تقود سيارة !"

" من يفك لـها البنشر ؟"

ـ"لا أدري!"

" إذن اخرس!"

يبتعدون عني، وأنا محتارة في أمري، لا أستطيع أن أُخرج عجل السيارة الإضافي من صندوق السيارة الخلفي! يزداد شعوري بالضيق، وتزداد مساحات السواد على يديّ، وعلى فستان السهرة الأبيض! وأنا مستعجلة لإنجاز الأعمال المطلوبة لحفل خطوبة أختي الصغرى نادرة... نسيت مشكلتي مع هذا الحادث... نسيت أن قطار الزواج أخذ يفوتني، فهذه قضية تزداد ظلالها على حياتي يوماً بعد يوم.

فبعد زواج أختي الوسطى سحر، وولادتها لطفلين، ها هي أختي الصغرى تخطب وتتزوج، وكذلك أخي زكي الأصغر مني تزوج، وأنجبت زوجته طفلاً جميلاً، مثل اللعبة، سميناه راكان، وأنا ما أزال على الرصيف أفك البنشر، بانتظار العريس، الذي يأتي ولا يأتي .....والذي سيأخذني على سرج حصانه الأبيض..

أنا في الحقيقة أُقبل بالحصان الأبيض دون سرج، متأكدة بأننا لن نقع، لأن عريسي سيكون خيّالاً ماهراً! سيحضنني على ظهر حصانه، ولن يدعني أقع... أُريد أن أتشبث به، لا بسرج حصانه، لا أُريد سيارة خاصة... أُريد حصاناً أبيض، ليست لـه عجلات، ولا سرج ولا لجام، ولا يبنشر، ولا يفرغ خزان وقوده!

أنا سعيدة لزواج أختي نادرة، ولكنني تعيسة لعدم رواج بضاعتي، لا أدري هل روحي بشعة لـهذه الدرجة، أم إن شكل وجهي قطع رزقي، أم إن الدنيا حظوظ، أم إنني أنا السبب؟ فأنا أريد مواصفات خاصة لرفيق العمر، أريده أن يكون رجلاً ولا كل الرجال، شهماً، يستطيع أن يحميني، نعم يحميني، أريد رجلاً أسند ظهري على صدره، أريده رجلاً فحلاً، لـه شاربان عريضان كجناحي النسر، أو بلا شاربين، حنطي اللون، أسمر، أشقر، هذا لا يهم، المهم أن يكون رجلاً، والرجال قليل! يبدو أن موسم الرجال قد انتهى... فأنا لم يظهر في حياتي رجل واحد، أستطيع أن أشعر أنه يحميني!

هؤلاء الشبان الصغار المارّة الذين يلاعبونني ليست لديهم هموم مثلي، فالمستقبل أمامهم، وأما أنا، فأخاف من المستقبل المظلم، وأخاف من الزمن الذي كان خلفي، ثمَّ أصبح أمامي، تماماً كالشبان الذين مرّوا! لقد كانوا خلفي ثمَّ أصبحوا أمامي، وأنا لا أزال مكاني، أركع على الرصيف، وأداوي جراحي.

ثوبي لم يعد صالحاً لحضور الفرح، ولم يبق وقت للذهاب إلى صالون التجميل ...
تتوقف أمامي سيارة أجرة فجأة .. يخرج منها سائقها ؛ رجل متوسط الطول، ذو شعر كثيف أشيب، وشاربين غليظين، وبنطال قطني أزرق، وذقن غير محلوق منذ أكثر من يومين... يتجه السائق نحوي ويقول:

" ماذا؟... بنشر؟"

"نعم."

" عن إذنك يا أختي! أريد مساعدتك."

"لا، لا، أنا أستطيع أن أقوم بالعمل."

" يا أختي أنت لا تستطيعين فك العجل، إنه صلب، وستنامين هنا الليلة... أنا أعرف هذا العجل، قد تكون فيه براغي صعبة الفك ."

" حاولت، وحتى الآن يوجد تقدم !"

أكذب عليه، فلقد كنت أعرف أنه لا يوجد تقدم، ولكنني .....

"يا أختي ابتعدي قليلاً، فسأقوم بالعمل."

"لا، لا شكراً!"

ينظر اليَّ، ويجحظني، ثم ترتفع نبرة صوته!

" قلت لك ابتعدي! ألا تفهمين! ابتعدي! هذا ليس شغلك، ثمَّ أنا لا أتقاضى أجراً منك! أرجوك يا أختي ابتعدي!"

ابتعد إلى الوراء، ويقترب هو إلى الأمام، وبسرعة يفتح غطاء صندوق السيارة الخلفي، ويخرج منه العجل الإضافي... ويفك براغي العجل المبنشر، ويخرجه من مربطه، ويرفعه، ويضعه في صندوق السيارة، ثم يثبّت مكانه العجل الإضافي!

أنظر إليه وهو يقوم بالعمل... حذاؤه أسود، تقليدي قديم، مغبرّ، وغير مُلَمّع، وقميصه بني، قد لوحت لونه الشمس، أو تقادم الزمن، وخطوط بيضاء تتماوج مع خطوط سوداء وتمتزج معها في تجمع شعر رأسه الكثيف، إنها خطوط الزمن الذي أخاف منه.

لم يتكلم كلمة واحدة. عيناه تتحركان في محيط العجل وأدوات العمل، ليس في يديه أي خواتم خطوبة أو زواج! أسمع صوت تنفسه، وكأنني أسمع نبضات قلبه... ما هي سوى دقائق.. أجده يعيد كل شيء إلى نصابه.. يغلق صندوق السيارة الخلفي.. أحس بيده ساخنة وهو يسلمني مفاتيح سيارتي..

" مع السلامة يا أختي! حاولي أن تنتبهي، حتى لا تحصل معك مثل هذه الحوادث. مع السلامة!"

أحدِّق في وجهه بينما عيناه تمعنان النظر في الأرض .. أتمنى لو طال وقت معالجته للعجل! أقو له وهو يغادرني:" شكراً ! مع السلامة!"

تتحركت سيارة الأجرة، وتنطلق، وتختفي، ويختفى معها سائقها.

أتمنى لو قال شيئاً، لو ذكر لي اسمه، أو عنوانه.. أتمنى لو كان أعزب وليس متزوجاً... سائق سائق لا يهم، إنه رجل، والرجال قليل... لقد استطاع أن يحميني، وأن يساعدني! لقد أسندت رأسي بين كفيه، ونمت قليلاً ولو لدقائق معدودة! استطاع أن يحميني من مشكلة من مشاكل الحياة...!

أتمنى لو لم يمّر الوقت بسرعة، ولكنه مر كلمح البصر!

ها أنا أقود سيارتي ثانية!

وفي الطريق أحلم إنني ما أزال أراقبه وهو يساعدني، يعمل عني، يحميني! أتمنى أن أراه مرة أخرى، أن أشكره مرة أخرى على الأقل ! أن أعرفه ويعرفني، أن أنسجم معه، وينسجم معي، أن يكون متعلماً ومثقفاً، فيفهمني وأفهمه، ويحترم أفكاري، وأحترم أفكاره، فلا يمحو شخصيتي، أن يأخذني بسيارته إلى عملي، ثمَّ يعود بي في نهاية الدوام، فيعيدني إلى منزلنا... أن أكون زوجة لـه...أن أخدمه برموش عينيّ، أن أسهر لينام، وأن أملأ بيته بالأطفال وبالثقة، ليطمئن، ويتفرغ إلى عمله اليومي، سائق أجرة، فهذا كله لا يهم، المهم أنني عندها سألقي برأسي المملوء بالهموم بين ذراعيه القويتين، ليحمل رأسي فأغفو في حضنه، فأنا لم أغف منذ مدة طويلة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى